تنافس رهيب وسباق محموم على مستوى العالم بين الجهات المصنعة المنتجة، يغرق الأسواق بألوان السلع والخدمات، لمختلف احتياجات الإنسان ورغباته، ففي كل مجال من المجالات، تجد أمامك خيارات عديدة متنوعة قد يتعبك استقصاؤها، وتستعين الجهات العالمية المنتجة بخبراء ومراكز بحوث ودراسات، لتطوير انتاجها كما وكيفا، من أجل توسيع رقعة أسواقها الاستهلاكية، ولتعزيز مداخيلها وموقعها الاقتصادي.
وتلعب أجهزة الاعلام دورا كبيرا في خدمة أغراض التسويق عبر أساليب دعائية إعلانية تتفنن في الإغراء واستقطاب الزبائن المستهلكين.
وحتى السياسة أصبحت توظف لصالح كبريات الشركات ومصانع الإنتاج، حيث يعمل الزعماء السياسيون للدول الصناعية، من أجل فتح الأسواق أمام منتجات بلادهم، وقد يمارسون الضغوط على الدول الأخرى بهذا الاتجاه، ومن أبرز الأمثلة المعاصرة الخلافات التي وقعت بين الولايات المتحدة الأمريكية من جهة واليابان والصين من جهة ثانية، لإلحاحها على الدولتين لفتح أسواقهما أمام السلع الأمريكية. لقد أصبح الاستهلاك والتسويق أهم قضية اقتصادية يتوجه إليها، فالاستهلاك وقود الانتاج ومحرك الاقتصاد، فلكي تستمر حركة التصنيع والانتاج وتتطور لابد من أسواق تستهلك، وزبائن تشتري، والانتاج أصبح كثيفا وضخما للغاية على المستوى العالمي، ويحتاج الى تصريف واسع.
لذا يكون التنافس شديدا على الأسواق، وتبتكر مختلف الوسائل والأساليب لتشجيع الاستهلاك، من اقامة المعارض، ومهرجانات التسوق، وإعلان مواسم لتخفيض الأسعار والخصومات، وإعطاء الجوائز والمكافآت على السحب، إضافة الى الدعايات والاعلانات المستمرة، التي تثير دوافع الاستهلاك، وتصنع الرغبات، وتفتعل الاحتياجات في نفوس المستهلكين.
ولأن الكثير من الناس خاصة في الدول النامية، قد لا يمتلكون السيولة النقدية، التي تستجيب لرغبات الاستهلاك، فقد استحدثت معالجات لهذه الإشكالية، عن طريق البنوك التي تقدم القروض، وعبر (الفيزا كارت)، وبواسطة البيع بالأقساط.. كل ذلك لدفع الناس للشراء والاستهلاك، لتستمر ماكينة الإنتاج والتصنيع، ولتزيد ثروات وأرباح أصحاب رؤوس الأموال خاصة أرباب الشركات الكبرى.
أرقام ودلالات
وتشكل مجتمعاتنا الخليجية سوقا استهلاكية مغرية، تسعى كل جهة منتجة لأخذ حصتها المناسبة منها، وتثبيت أقدامها في وسطها، ليس لكثافة سكانية في هذه المنطقة، وإنما لتوفر السيولة المالية فيها، ولسهولة التأثير على أنماط الحياة المعيشية للمجتمع، بما يخدم مصلحة المنتجين، فإنسان هذه المنطقة لا يحتاج الى جهد كبير لإقناعه بشراء أي سلعة، ولا يتشدد كثيرا في المواصفات، ولا يجادل غالبا حول القيمة والسعر.
ولو ألقينا نظرة سريعة على بعض الأرقام المتوفرة عن النشاط الاستهلاكي في المنطقة، خاصة حول بعض السلع الكمالية والرفاهية، لأدركنا الأهمية التي توليها الجهات المنتجة المصنعة للتسويق في هذه المجتمعات كما تظهر لنا دلالات التوجهات الاستهلاكية لدى المواطنين.
مجال الأثاث: يقدر معدل النمو السنوي لسوق الأثاث في السعودية بنحو 4%، ويبلغ حجم هذه السوق ما يزيز على 3 بلايين ريال (800 مليون دولار). وحجم إنفاق الأسر السعودية على الأثاث يسجل ارتفاعا مستمرا، حيث يزيد على3% من الدخل السنوي للأسرة وفقا لدراسات السوق، وتغير الأسر السعودية المتوسطة الدخل أثاثها كل 5 إلى 7 سنوات، فيما تنخفض المدة للأسر الأكثر دخلا، والتي تغير أثاثها كل 3 إلى 5 سنوات.
الملابس: حجم سوق الملابس الرجالية في السعودية يتجاوز أربعة بلايين ريال سنويا (1.06 بليون دولار) منها بليون ريال (276 مليون دولار) حجم سوق الشماغ والغتر فقط.
العطور ومستحضرات التجميل: أظهرت دراسة اقتصادية أن إنفاق المستهلك الخليجي على العطور ومستحضرات التجميل، تعتبر من أعلى معدلات الاستهلاك في العالم. وقدرت حجم واردات مجلس التعاون الخليجي منها بنحو 817 مليون دولار سنة 1995م. وأشارت الدراسة التي أعدها مصرف الامارات الصناعي إلى أن دول الخليج استوردت ألف طن من العطور ومواد التجميل إلى جانب انتاجها المحلي البالغ 65 ألف طن.
قيمة واردات السعودية منها 250 مليون دولار، والامارات 190 مليون دولار.
ولاحظت الدراسة تزايد استهلاك العطور ومستحضرات التجميل بصورة مطردة مع ارتفاع مستويات المعيشة، واتساع القاعدة الاجتماعية للفئات ذات الدخل المتوسط في دول مجلس التعاون الخليجي.
وذكرت مجلة اليمامة السعودية ضمن تحقيق لها عن (المرأة في السعودية واستهلاك أدوات التجميل) أنه خلال عام 1995م استهلكت النساء في السعودية “538” طنا من أحمر الشفاه، و”43″ طنا من طلاء الأظافر، و”41″ طنا من مزيلات هذا الطلاء!! و232 طنا من مستحضر تجميل العيون، وصباغة الشعر “445” طنا.
الذهب والألماس: تعتبر السعودية ثالث أكبر سوق عالمية للذهب تقدر قيمتها 3 بلايين دولار سنويا، وقدر مسؤول في شركة (دي بيرز) أكبر شركة للألماس في العالم حجم سوقه ـ عدا بقية الشركات ـ في منطقة الخليج بأكثر من بليون دولار سنويا. وقال إن الطلب على الألماس في منطقة الخليج يعتبر من الأعلى في العالم.
المشروبات الغازية: ارتفع حجم السوق السعودية في قطاع المشروبات الغازية إلى أكثر من بليون دولارسنويا.
هذه نماذج وأمثلة بسيطة عن توجهات وارتفاع وتيرة الاستهلاك في مجتمعاتنا لمواد كمالية يمكن التخفيف من استهلاكها وتوفير تلك المبالغ لبناء صناعة وطنية اكثر ثباتا واكثر اهمية في حياتنا.
بين الإنتاج والاستهلاك
في الدول الصناعية يكون الاستهلاك عملية متكاملة مع الإنتاج، وموازية له، فالفكرة هناك أنه لكي تنتج وتصنع أشياء جديدة لابد من وجود قدرة عالية على الاستهلاك، بل إن الإنتاج عندهم يفيض على الحاجة الاستهلاكية لديهم في غالب مجالات التصنيع، لذا يتجهون الى التصدير، ويبحثون عن أسواق الاستهلاك خارج بلادهم.
لكن مشكلة بلداننا أن الاستهلاك عملية عشوائية قائمة بذاتها لا ترتبط بالإنتاج، ولا تتجه لتشجيع الإنتاج الوطني.
إن الفرد في مجتمعاتنا يلهث خلف الاستهلاك لكنه ضعيف الإنتاجية والفاعلية، وقبل فترة أشارت دراسة أعدتها لجنة علمية أمريكية تحت عنوان: (في مواجهة المستقبلات) إلى أن الإنتاج الخام للفرد في الدول الصناعية عام 75م كان 3000 دولار وصل في عام 2000 إلى 8000 دولار، بينما لم يتعد إنتاج الفرد في الدول النامية عام 75م 290 دولارا، ووصل عام 2000م إلى 860 دولارا، أي أن النسبة بين إنتاجية الفرد هناك وإنتاجية الفرد هنا هي واحد الى عشرة تقريبا!!
إنهم يستهلكون ما ينتجون فيتقوى اقتصادهم، وتتنشط دورته، بينما نبالغ ودون وعي او تقدير عواقب اقتصادية في استهلاك ما ينتجه الآخرون فتتبدد ثرواتنا وامكانياتنا.
ولو كانت لدينا خطط وأطروحات لاستقطاب جزء من السيولة التي في أيدي المواطنين باتجاه مشاريع الإنتاج والعمل والتصنيع، لكنا في مستوى أفضل.
كما أننا بحاجة لتشجيع الإنتاج الوطني، بدل التهافت على الاستيراد واقتناء السلع الأجنبية بحاجة وبدون حاجة1.
- 1. الموقع الرسمي لسماحةالشيخ حسن الصفار * صحيفة اليوم 16 / 7 / 2002م – 1:00 م.العدد 10624.