في نطاق الإسلاميات الأكاديمية المعاصرة، يمكن أن نقارب بين رؤيتين مغايرتين حول مفهوم الاجتهاد وعلاقته بالحداثة والمعاصرة، بين رؤية محمد إقبال، ورؤية محمد أركون. فقد أطلق إقبال مقولة في كتابه الشهير (تجديد التفكير الديني في الإسلام) الصادر سنة 1929م، اعتبر فيها أن الاجتهاد هو مبدأ الحركة في الإسلام. وقد توقف العديد من الباحثين والمفكرين أمام هذه المقولة التي وجدوا فيها أنها تعبر عن فكرة عميقة، وعن دلالات مهمة. فالمستشرق البريطاني المعروف هاملتون جيب اعتبر في كتابه (الاتجاهات الحديثة في الإسلام) أن إغلاق باب الاجتهاد وضع حداً فعالاً لمبدأ الحركة في الإسلام. وحسب رواية المفكر والأكاديمي الباكستاني فضل الرحمن في كتابه (الإسلام وضرورة التحديث) أن إقبال تخلى عن فكرة كتاب حول الاجتهاد كان يزمع تأليفه، وذلك بعد نصيحة سمعها من السيد سليمان الندوي، فإقبال كما ينقل فضل الرحمن كان يستمع في بعض الأحيان إلى مشورة العلماء، بل ويطلبها حسب رأيه.
وفي تقييمه عنه يقول فضل الرحمن (ليست من قبيل الصدفة ألا تعرف الحداثة الإسلامية أي طالب جاد للفلسفة في طول العالم الإسلامي وعرضه يمكن الافتخار به سوى محمد إقبال).
وكان إقبال دقيقاً في مقولته فقد استعمل الحركة بحسب المدلول الذي يعطى له في الفلسفة ويقصد منه انتقال الشيء من القوة إلى الفعل على سبيل التدرج. وهذا يعني أن الاجتهاد هو الذي يقوم بدور تحويل الفكرة أو التشريع من حيز النظرية إلى حيز التطبيق، ويعطيهما خاصية التحقق الفعلي ليس بطريقة فورية، أو في دفعة واحدة، وإنما على سبيل التدرج وفق قاعدة الزمان والمكان. فالاجتهاد حسب هذه المقولة هو الذي يقوم بدور الحركة في الإسلام، الحركة التي هي نقيض الجمود والسكون، والتي لا يفترض أن تتوقف أو تتراجع في كل زمان ومكان وحال.
وبخلاف هذه الرؤية ما ذهب إليه محمد أركون في كتابه (من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي) حيث يرى أن مسألة الاجتهاد معتبرة داخل تراث الفكر الإسلامي بصفتها امتيازا، يحتكره الفقهاء، لهذا فهو يدعو إلى تجاوز ما يسميه المفهوم التقليدي للاجتهاد والممارسة العقلية المحدودة المرتبطة به، وذلك عن طريق النقد الحديث للعقل، وبالانطلاق من خلفية أنه لم يعد ممكنا للفكر الإسلامي أن ينغلق على نفسه، وينعزل داخل إطار العقل الأصولي والإطلاقي، الذي لم يتح له أن يشهد حتى أصولية النقد الكانطي وإطلاقية الديالتيك الهيغلي. وما يسعى إليه أركون هو تطوير ممارسة الاجتهاد من خلال مفهوم نقد العقل الإسلامي، لكي يستطيع الفكر الإسلامي حسب رأيه مواجهة تحديات الحداثة الفعلية والثقافية والمادية المفروضة من قبل الغرب منذ القرن التاسع عشر، الأمر الذي يتطلب إعادة النظر في شروط الاجتهاد وتقاليده وكيفيات ممارسته، وهي المهمة التي يصفها بالمرعبة والمتمثلة حسب قوله بزحزحة شروط الاجتهاد النظرية، وحدوده من المجال اللاهوتي ـ القانوني الذي حصر فيه من قبل الفقهاء، إلى مجال التساؤلات الجذرية وغير المعروفة حتى الآن من قبل التراث الإسلامي. ولهذا السبب يعتقد أركون أن تجديد الاجتهاد اليوم سوف يؤدي حتما إلى زعزعة الحقائق الأكثر شعبية وإلفة، وإلى تصحيح العادات الأكثر رسوخاً، وإلى مراجعة العقائد الأكثر قدما، سعياً نحو بلورة ما يسميه أركون بتيولوجيا أناسية منطقية، متصورة على أساس أنها جهد متواصل لتحرير الوضع البشري، لا ينفك يغتني ويتسع.
لا نختلف حول ضرورة تجديد الاجتهاد، وتطوير مجالاته بالاستفادة من العلوم والمعارف الحديثة والمعاصرة، لكننا نختلف مع أركون من عدة جهات، من جهة أن هذه الرؤية تأتي في سياق النزاع الذي يريد أركون أن يفتحه مع العلماء والفقهاء الذي يحتكرون حسب رأيه مفهوم الاجتهاد، وكأنه يريد تحرير هذا المفهوم من قبضتهم. ومن جهة أن أركون يريد أن يقودنا إلى مغامرة فكرية غير محسوبة العواقب بالاستلهام من الفكر الأوروبي الذي خاض مثل تلك المغامرات، ومن جهة النقد الجذري والصارم الذي يدعو له أركون لكل ما يرتبط بمفهوم الاجتهاد، فالنقد بهذه الطريقة قد يزعزع المفهوم السائد لكن ليس بالضرورة يساهم في إعادة تركيبه بصورة منضبطة، ومن جهة اعتماد أركون على المرجعية الفكرية الأوروبية في النقد والتحليل وحتى التجديد، وأخيرا أن أركون لا يعتبر من أهل هذا الفن.
لذلك فنحن نتمسك بمقولة إقبال، ونرى أنها تعبر عن جوهر وروح الحداثة، ونتحفظ من جهة أخرى على مقولة أركون لغربتها ومغالاتها أيضاً1.
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الأربعاء 6 أكتوبر 2004م، العدد 13920.