ما هو الدليل على جواز إقامة الاحتفالات في أفراح محمّد وآل محمّد؟ على أن يكون الجواب من المصادر السنّية.الجواب:
الأخ عبد العزيز المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هناك استدلالات عديدة لجواز الاحتفال بمولد النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأهل بيته(عليهم السلام)، استدلّ بها علماء الفريقين ردّاً على الوهّابية، التي ترى أنّ الاحتفال بمولده(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بدعة، من الأدلّة:
1- قوله تعالى: (( ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّم شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقوَى القُلُوبِ )) (الحج:32)، باعتبار أنّ شعائر الله تعالى هي أعلام دينه، خصوصاً ما يرتبط منها بالحجّ؛ لأنّ أكثر أعمال الحجّ إنّما هي تكرار لعمل تاريخي، وتذكير بحادثة كانت قد وقعت في عهد إبراهيم(عليه السلام)، وشعائر الله مفهوم عامّ شامل للنبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولغيره، فتعظيمه(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لازم.
ومن أساليب تعظيمه: إقامة الذكرى في يوم مولده ونحو ذلك، فكما أنّ ذكرى ما جرى لإبراهيم(عليه السلام) من تعظيم شعائر الله سبحانه، كذلك تعظيم ما جرى للنبيّ الأعظم محمّد(صلّى الله عليه وآله وسلّم) يكون من تعظيم شعائر الله سبحانه.
2- قوله تعالى: (( ذَكِّرهُم بِأَيَّامِ اللهِ )) (ابراهيم:5)، فإنّ المقصود بأيّام الله: أيّام غلبة الحقّ على الباطل، وظهور الحقّ، وما نحن فيه من مصاديق الآية الشريفة؛ فإنّ إقامة الذكريات والمواسم فيها تذكير بأيّام الله سبحانه.
3- قوله تعالى: (( قُل بِفَضلِ اللهِ وَبِرَحمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَليَفرَحُوا )) (يونس:58)، إذ من المصاديق الجليّة لرحمة الله سبحانه هو: ولادة النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، الذي أرسله الله رحمة للعالمين، فالفرح بمناسبة ميلاده(صلّى الله عليه وآله وسلّم) مطلوب ومراد.
4- قوله تعالى: (( وَرَفَعنَا لَكَ ذِكرَكَ )) (الشرح:4)، فإنّ الاحتفالات بميلاده(صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما هي إلاّ رفع لذكره، وإعلاء لمقامه.
5- قوله تعالى: (( قُل لاَّ أَسأَلُكُم عَلَيهِ أَجراً إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُربَى )) (الشورى:23)، بأنّ مودّة ذوي القربى مطلوبة شرعاً، وقد أمر بها القرآن صراحة، فإقامة الاحتفالات للتحدّث عمّا جرى للأئمّة(عليهم السلام) لا يكون إلاّ مودّةً لهم.
6- قوله تعالى: (( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ )) (الاعراف:157)، باعتبار أنّ إقامة الاحتفال للتحدّث عنه(صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيه نوع من التعظيم والنصرة له.
7- قوله تعالى: (( رَبَّنَا أَنزِل عَلَينَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارزُقنَا وَأَنتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ )) (المائدة:114)، فقد عدّ يوم نزول المائدة السماوية عيداً وآية، مع أنّها لأجل إشباع البطون..
فيوم ميلاده(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويوم بعثته، الذي هو مبدأ تكامل فكر الأُمم على مدى التاريخ أعظم من هذه الآية، وأجلّ من ذلك العيد، فاتّخاذه عيداً يكون بطريق أولى.
8- قوله تعالى: (( وَالضُّحَى * وَاللَّيلِ إِذَا سَجَى )) (الضحى:1-2)، فقد قال الحلبي: ((أي: وقد أقسم الله بليلة مولده(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قوله تعالى: (( وَالضُّحَى * وَاللَّيلِ ))، وقيل: أراد بالليل: ليلة الإسراء، ولا مانع أن يكون الإقسام وقع بهما، أي: استعمل الليل فيهما))(1).
9- إنّ الاحتفال بالمولد سُنّة حسنة، وقد قال(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (من سنّ سنّة حسنة كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها)(2).
10- إنّ جلّ أعمال مناسك الحجّ ما هي إلاّ احتفالات بذكرى الأنبياء؛ فأمر الله تعالى باتّخاذ مقام إبراهيم مصلّى إحياء لذكرى شيخ الأنبياء إبراهيم(عليه السلام)..
أمّا السعي بين الصفا والمروة فهو تخليد لذكرى هاجر حينما عطشت هي وابنها إسماعيل، فكانت تسعى بين الصفا والمروة، وتصعد عليهما لتنظر: هل ترى من أحد؟
ورمي الجمار تخليد لذكرى إبراهيم(عليه السلام)، حينما ذهب به جبرائيل إلى جمرة العقبة، فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيّات، فساخ.
وذبح الفداء إنّما هو تخليد لذكرى إبراهيم(عليه السلام) أيضاً، حينما أُمر بذبح ولده إسماعيل(عليه السلام)، ففداه الله بذبح عظيم.
وفي بعض الأخبار: إنّ أفعال الحجّ إنّما هي احتفال بذكرى آدم(عليه السلام)؛ إذ تاب الله عليه عصر التاسع من ذي الحجّة بعرفات، فأفاض به جبرائيل حتّى وافى إلى المشعر الحرام فبات فيه، فلمّا أصبح أفاض إلى منى، فحلق رأسه أمارة على قبول توبته، وعتقه من الذنوب، فجعل الله ذلك اليوم عيداً لذرّيّته.
فأفعال الحجّ كلّها تصير احتفالات. وأعياداً بذكرى الأنبياء، ومن ينتسب إليهم، وهي باقية أبد الدهر.
وأخيراً: أكمل الأدلّة على جواز إقامة الاحتفال بمولد النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، هو دليل الفطرة – والدين والشرع منسجم تماماً مع مقتضيات الفطرة ومتطلّباتها – فقد اعتاد الناس انطلاقاً من احترامهم للمثل والقيم التي يؤمنون بها، على احترام الأشخاص الذين بشّروا بها، وضحّوا في سبيلها، وارتبطوا بهم عاطفيّاً وروحيّاً كذلك..
ورأوا: أنّ إحياء الذكرى لهؤلاء الأشخاص، لم يكن من أجل ذواتهم كأشخاص، وإنّما من أجل أنّهم بذلك يحيون تلك القيم والمثل في نفوسهم، وتشدّ الذكرى من قوّة هذا الارتباط فيما بينهم وبينها، وترسّخها في نفوسهم، وتعيدهم إلى واقعهم.
وهكذا يقال بالنسبة للاحترام الذي يخصّون به بعض الأيّام، أو بعض الأماكن، وقديماً قيل:
مررت على الديار ديار ليلى ***** أقبّل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حبُّ الديار شــغفن قلبي ***** ولكن حبّ من سكن الديارا
ويلاحظ: أنّ الاهتمام بإقامة الذكريات والاحتفال بالمناسبات، التي تمثّل تحوّلاً من نوع ما في حياة الناس عامّة لا يقتصر على فئة دون فئة، ولا يختصّ بفريق دون فريق، فالكبير والصغير، والغني والفقير، والملك والسوقة، والعالم والجاهل، والمؤمن والكافر، وغيرهم، الكلّ يشارك في إقامة الذكريات للمُثل والقيم، ولمن يمثّلها، حسب قدراته وإمكاناته.
فهذه الشمولية تعطينا: أنّ هذا الأمر لا يعدو عن أن يكون تلبية لحاجة فطرية، تنبع من داخل الإنسان، ومن ذاته، وتتّصل بفطرته وسجيّته، حينما يشعر أنّه بحاجة إلى أن يعيش مع ذكرياته وآماله، وإلى أن يتفاعل مع ما يجسّد له طموحاته.
فيوم ولادة النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو يوم فرح المسلمين، ويوم عيد وبهجة لهم، ولا بدّ أن يستجيب الإسلام لنداء الفطرة، ويلبّي رغباتها ما دامت منسجمة مع منطلقاته وأهدافه، ولا يحرمها من عطاء رحمته وبرّه ما دام أنّه دين الفطرة، الذي يوازن بين جميع مقتضياتها، ويعطيها حجمها الطبيعي، دون أن يكون ثمّة إهمال مضرّ، أو طغيان مدمّر.
وهذه هي عظمة تعاليم الإسلام، وهذا هو رمز الخلود له، وفّقنا الله للسير على هدى هذا الدين، والالتزام بشريعة ربّ العالمين، إنّه خير مأمول، وأكرم مسؤول.
ودمتم في رعاية الله