بعد أن مسَّ إبراهيم الكِبَر وآيس الوليد شرع الخليل بخطوته الأولى:}وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا{(مريم48) فبشرته الملائكة عن اللّه (بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) إجابة للدعاء، وابراهيم لم يرزق من زوجتيه الولد قبل ذاك، فادهش للبشرى، ولم يكن من شأن الخليل أن يخفى دهشته، فقال مسفرا لمن بشره من الملائكة:}أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ{(الحجر5)، وما إن ولد إسماعيل بكر الخليل حتى شرعا حجهما، وما لبث الوليد حتى بدأ البلاء، وحج إبراهيم مع البلاء صنوان يدور البلاء مع حجه حيثما دار.
كان عمر إسماعيل (13) عامًا حينما رأى إبراهيم ذلك المنام العجيب المحير، والذي يدلّ على بدء امتحان عسير آخر لهذا النّبيّ ذي الشأن العظيم، إذ رأى في المنام أن الله يأمره بذبح أبنه الوحيد وقطع رأسه. فنهض من نومه مرعوبا، لأنه يعلم أن ما يراه الأنبياء في نومهم حقيقة وليس من وساوس الشياطين، وقد تكررت رؤيته ليلتين متتاليتين، فكان هذا تأكيدًا على ضرورة تنفيذ هذا الأمر فورا.
وقيل: إنّ أوّلَ رؤيا له كانت في ليلة التروية، أي ليلة الثامن من شهر ذي الحجة، كما شاهد الرؤيا نفسها في ليلة عرفة، وليلة عيد الأضحى، وبهذا لم يبقَ عنده أدنى شك في أن هذا الأمر هو من الله سبحانه وتعالى.
امتحان شاق آخر يمر على إبراهيم (عليه السلام) الآن، إبراهيم الذي نجح في الامتحانات الصعبة السابقة كافة وخرج منها مرفوع الرأس، الامتحان الذي يفرض عليه وضع عواطف الأبوة جانبا والامتثال لأوامر الله بذبح ابنه الذي كان ينتظره لمدة طويلة، وهو الآن غلام يافع قوي.
ولكن قبل كل شيء، فكَّر إبراهيم (عليه السلام) في إعداد ابنه لهذا الأمر، حيث قال }قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى{.
الولد الذي كان نسخة طبق الأصل من والده، والذي تعلم خلال مدة عمره القصيرة الصبر والثبات والإيمان في مدرسة والده، رحب بالأمر الإلهي بصدر واسع وطيبة نفس، وبصراحة واضحة قال لوالده: }قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ{.
ولا تفكر في أمري فإنك }سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ{. فما أعظم كلمات الأب والابن وكم تخفي في بواطنها من الأمور الدقيقة والمعاني العميقة؟!
فمن جهة الأب يصارح ولده البالغ من العمر (13) عاما بقضية الذبح، ويطلب منه إعطاء رأيه فيها، حيث جعل هنا شخصية مستقلة حرة الإرادة.
فإبراهيم لم يقصد أبدا خداع ولده، ودعوته إلى ساحة الامتحان العسير بصورة عمياء، بل رغب بإشراكه في هذا الجهاد الكبير ضد النفس، وجعله يستشعر حلاوة لذة التسليم لأمر الله والرضا به، كما استشعر حلاوتها هو.
ومن جهة أخرى، عمد الابن إلى ترسيخ عزم والده وتصميمه في تنفيذ ما أُمر به، إذ لم يقل له: اذبحني، وإنما قال له: افعل ما أنت مأمور به، فإنني مستسلم لهذا الأمر، وخاصة إنه خاطب أباه بكلمة }يَا أَبَتِ{ كي يوضح إنّ هذه القضية لا تقلل من عاطفة الابن تجاه أبيه ولو بمقدار ذرة، وإنّ أمر الله هو فوق كل شيء.
ومن جهة ثالثة أظهر أدبا رفيعا تجاه الله سبحانه وتعالى، وإن لا يعتمد أحد على إيمانه وإرادته وتصميمه فقط، وإنما يعتمد على إرادة الله ومشيئته، وبعبارة أخرى: أن يطلب توفيق الاستعانة والاستقامة من الله.
وبهذا الشكل يجتاز الأب وابنه المرحلة الأولى من هذا الامتحان الصعب بانتصار كامل.
قربت اللحظات الحساسة، فالأمر الإلهي يجب أن يُنفذ، فعندما رأى إبراهيم (عليه السلام) درجة استسلام ولده للأمر الإلهي احتضنه وقبل وجهه، وفي هذه اللحظة بكى الاثنان، البكاء الذي يبرز العواطف الإنسانية ومقدمة الشوق للقاء الله.
القرآن الكريم يوضح هذا الأمر في جملة قصيرة ولكنها مليئة بالمعاني، فيقول تعالى: }فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ{.
مرة أخرى تطرق القرآن هنا باختصار، كي يسمح للقارئ متابعة هذه القصة بانشداد كبير.
قال البعض: إنّ المراد من عبارة }تَلَّهُ لِلْجَبِينِ{ هو أنه وضع جبيت ولده -طبقا لاقتراحه- على الأرض، حتى لا تقع عيناه على وجه ابنه فتهيج عنده عاطفة الأبوة وتمنعه من تنفيذ
الأمر الإلهي.
على أية حال كبّ إبراهيم (عليه السلام) ابنه على جبينه، ومرر السكين بسرعة وقوة على رقبة ابنه، وروحه تعيش حال الهيجان، وحب الله كان الشيء الوحيد الذي يدفعه إلى تنفيذ الأمر ومن دون أي تردد.
إلا أن السكين الحادة لم تترك أدنى أثر على رقبة إسماعيل اللطيفة. وهنا غرق إبراهيم في حيرته، ومرر السكين مرة أخرى على رقبة ولده، ولكنها لم تؤثر بشيء كالمرة السابقة.
نعم، فإبراهيم الخليل يقول للسكين: اذبحي، ولكن الله الجليل يعطي أوامره للسكين أن لا تذبحي، والسكين لا تستجيب سوى لأوامر الباري عز وجل.
وهنا ينهي القرآن كل حالات الانتظار وبعبارة قصيرة مليئة بالمعاني العميقة }وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ{.
إذ نمنحهم توفيق النجاح في الامتحان، ونحفظ لهم ولدهم العزيز، نعم فالذي يستسلم تماما وبكل وجوده للأمر الإلهي ويصل إلى أقصى درجات الإحسان، لا يمكن مكافأته بأقل من هذا. ثم يضيف القرآن الكريم }إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ{.
عملية ذبح الابن البار المطيع على يد أبيه، لا تعد عملية سهلة وبسيطة بالنسبة لأب انتظر مدة طويلة كي يرزقه الله بهذا الابن، فكيف يمكن إماتة قلبه تجاه ولده؟ والأكثر من ذلك استسلامه ورضاه المطلق -من دون أي إزعاج- لتنفيذ هذا الأمر، وتنفيذ كافة مراحل العملية من بدايتها إلى نهايتها، بصورة لا يغفل فيها عن أي شيء من الاستعداد لعملية الذبح نفسيًّا وعمليًّا.
والذي يثير العجب أكثر هو التسليم المطلق لهذا الغلام أمام أمر الله، إذ أستقبل الذبح بصدر مفتوح واطمئنان يحفه اللطف الإلهي، واستسلام في مقابل هذا الأمر.