إحياء عاشوراء وأيام المحرم حُشر في مواقع الانترنت وديوانيات الحوار بين رؤيتين، رؤية ملت القديم بجموده وأسلوبه وتحجره، وقد قدم المنبر خدمة عظيمة للدين والقيم والإنسانية بأسلوبه القديم، لكنه الآن في بقائه واستمراره بالوهج والعنفوان نفسيهما بحاجة إلى نمط آخر لا يغفل جوهر المناسبة، لكنه ينطلق منها ليروي عطش المستمعين لمعين صاحب المناسبة الذي لا ينضب.
لقد ساعد في تبلور هذه الرؤية استغناء غالبية خطباء المنبر الحسيني عن التهيؤ والتحضير الذي يتناسب مع حجم وقداسة المناسبة، وهروبهم من الحديث في أمور الناس وقضاياهم الحقيقية، إلى ما هو بعيد عن واقعهم، ليعوضوا عجزهم هذا أحيانا بحناجر لها من القوة ما يمكنها من الصوت العذب والجذاب للحاضرين طلبا في استهلال الدمعة.
ورؤية أخرى ترى التمسك بذلك القديم خيراً من الانطلاق فيما لا يخص المناسبة ولا يتصل بصاحبها الإمام الحسين (عليه وعلى أهل بيته السلام)، وخوفا على المناسبة من التحريف والاختطاف والسير في اتجاهات غير مرضية عقديا وفكريا… إلى آخر القائمة المعروفة.
وترى النظرة الثانية أن بقاء حركة الحسين في نفوس الناس راجع إلى هذا النوع من المجالس التي ورثناها أبا عن جد، وليس بسبب الأطروحات الثقافية والاجتماعية والسياسية وغيرها من القضايا التي يتبناها أصحاب النظرية الأولى.
هذه الرؤية يراها أصحاب النظرية الأولى، شعاراتية أكثر منها واقعية، لأنها حفظت لنا قشور عاشوراء وطقوسه الاحتفالية فقط ولم تحملنا رسالة عاشوراء، فالخطيب يبدأ بعشر دقائق بين المقدمة والنعي (الرثاء) وينتهي بعشر دقائق الى خمسة عشر دقيقة في المصيبة ثم الرثاء والتعزية، وبينهما لو أخذ الخطيب 20 دقيقة أيضاً في تناول أمر من أمور الناس المهمة، فلن يتعدى عناوين الموضوع والتحدث عنه بإجمال واقتضاب، شبيه بفلاشات كاميرات التصوير التي لا تسمن ولا تغني من ضوء.
سأتحدث هنا عن طرح أراه مناسباً للجمع بين هاتين النظريتين وأنا في أمس الحاجة إلى رأي المنصفين في بيان الموضوع وتوضيح ما فاتني من زواياه.
لقد قام المنبر الحسيني على خطيب واحد ووقت محدود لا يتعدى الساعة الواحدة من الزمان، لكن بعض التجارب في دول أخرى كلبنان مثلا حولت المنبر الحسيني إلى دورة توجيهية متكاملة يفتتح فيها الحفل بآيات القرآن الكريم، ثم يساهم بعض العلماء والمثقفين بتوجيهات تناسب الساحة الاجتماعية ومستجدات الأوضاع، وبعدها يصعد الخطيب ليأخذ وقته من دون أن ينتقص من المناسبة شيئا.
نعم، هناك تتهيأ للمستمعين مقاعد للجلوس وليس على الأرض كما هي الحالة عندنا، ما يجعل الزيادة في الوقت محتملة لدى الحضور، كما أن المستمع هناك قد يحضر مجلسا واحدا من هذا النوع المتميز (في ظني) ويرى أن ذلك أنفع من تكرار المجلس بالذهاب إلى أكثر من خطيب، كلهم يصارعون الوقت وينازعونه ليتمكنوا من إيصال رسالتهم للحاضرين، وإعطاء المناسبة حقها في وقت محدود كما أسلفت.
ثم، ماذا لو طورنا الوضع هنا وشاركنا مع الخطيب بعض العلماء المتخصصين؟ فإذا كان المنبر عقائديا، ففي بلادنا مهتمون محققون مختصون بالعقائد، ولاشك أنهم أكثر فائدة من الخطيب العام، وسيتميزون في عرضهم وتوجيههم وعطائهم بما يحقق هدف المنبر.
ولا يختلف الأمر لو كان المنبر تاريخيا، فهناك هامات في منطقتنا تحيط بهذا العلم وهي متمكنة منه تمكن تخصص لا اطلاع فقط كما هو واقع غالبية الخطباء (جزاهم الله خيرا)، وكذلك لعلم الفقه رجاله وهاماته، ولعلم الاجتماع والنفس والأخلاق متألقون من المسيطرين على تفاصيل تلك العلوم ودقائق نكاتها.
إننا كمجتمع سنكسب ونستفيد من الكفاءات العلمية التي لم تمارس الخطابة الحسينية لأي سبب كان، وسيتمكن هذا العالم أو ذاك المحقق من مشافهة الناس، في وضعية تتهيأ فيها قلوبهم وعقولهم لمعرفة المزيد عن نهج أهل البيت وسعة علومهم ومعارفهم.
لست أكتب هنا عن هجر القديم، وإنما أتمنى ضم الجديد من العلم والمعرفة الموجودة في ثنايا أحاديث أهل البيت إلى ما ألفناه واعتدنا عليه، ولتبقى المصيبة والدمعة والعاطفة محفوظة في وقتها للمستمع.
لقد لاحظت بعض المواقع الالكترونية تستطلع آراء الناس عما يطمحون ويرجون من أيام عاشوراء ومن توجيهات الخطباء، وقد شعرت بما يشعر به كل متابع لهذه الموضوعات، وهو أن هناك تطلعا وهناك أحيانا تطرفا إلى رأي مقابل الرأي الآخر، ما يكشف لنا أن حالة الرضا العامة من الطرح المنبري تتعرض لهزة نرجو الله سبحانه وتعالى أن يمكن المؤمنين من معالجتها بالتطوير والمشاركة والاستجابة لمطالب المجتمع بالتغيير الذي يحافظ على المضمون ويتطلع إلى المزيد1.
1. الشيخ محمد الصفار * صحيفة الوسط البحرينية 10 / 1 / 2008م – 1:59 ص – العدد 1949