أعتنى الدارسون لعلوم النفس والعلوم الاجتماعية بأهمية دراسة العلاقات الإنسانية ووضعوا لذلك كتباً وبحوثاً كثيرة وقد يكون من أبرز من كتب في هذا المجال في زماننا المعاصر دايل كارنيجي صاحب كتابي (دع القلق وابدأ الحياة) و(كيف تكسب الاصدقاء وتؤثر في الناس) واللذان طُبع منهما ملايين النسخ في مختلف بقاع الارض وترجما الى لغات متعددة وهذا دليل على أن الإنسان المعاصر بحاجة شديدة إلى أن يُتقن هذا الفن وهو فن التعامل المثمر والمؤثر بين بني البشر وقد تكون التوصيات أو القواعد التي عرضها الكاتب في هذا المجال من بديهيات التّصوّر الإسلاميّ بل هي من ضرورات التعامل بين الانسان واخيه الانسان فقد ركز الاسلام على قيمة العلاقة بين ابناء الدين الواحد فقال(ص) (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى بعضه تداعى سائره بالسهر والحمى) بل وأكثر من ذلك حيث اعطى النبي(ص) صفة الدين للمعاملة بين الناس فقال (الدين المعاملة) اي لا تكون صاحب دين اذا لم تحسن التعامل مع الناس ثم تتسع دائرة التعامل لتشمل حتى غير المسلمين : }لَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ| (الممتحنة:٨).
ومن هذه المقدمة ندرك أن الدين الاسلامي اعتنى بشكل كبير بهذا الجانب قبل أكثر من 1400 سنة فسبق بذلك اصحاب العلوم النفسية والاجتماعية وعلم التنمية البشرية وقد جاء ذلك بنصوص قرآنية كثيرة منها على سبيل المثال لا الحصر قول الله تعالى لنبيه موسى(ع) حين يأمره بالذهاب الى فرعون ودعوته الى دين الحق: }اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى. فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى| (طه: 43-44)
جاء في تفسير الصافي : فقولا له قولا لينا مثل ؛ هل لك إلى أن تزكى ؟ وأهديك إلى ربك فتخشى؟ فإنه دعوة في صورة عرض ومشورة حذرا أن تحمله الحماقة على أن يسطو عليكما لعله يتذكر أو يخشى. وفي كتاب العلل عن الامام الكاظم(ع): قال أما قوله : فقولا له قولا لينا أي ليناه وقولا له يا أبا مصعب وكان فرعون يكنى بأبي مصعب الوليد بن مصعب..
وهنا اشارة إلى أن الاسلوب مهم جدا في عرض ما عند الشخص لغرض توصيله إلى الآخرين وهذا الاسلوب قد يكون جاذباً وقد يكون منفراً بحسب ما يستعمل فيه من لين وابتعاد عن قساوة في القول أو الفعل فالقول يشمل الكلام والفعل يشمل لغة الجسد التي يستعملها الداعي او الشخص الذي يريد أن يجذب أو يؤثر في الآخرين.
وقد امر الله نبيه موسى وأخاه هارون عليهما السلام بهاتين الآيتين أن يدعوان فرعون الى دين الله بأسلوب ليّن محبب حتى لا يكون خطابهما داعياً للنفور من خلال توقيره ومناداته بكنيته وتحبيب ثواب الله تعالى اليه وذكر الجنة ونعيمها والترغيب للعمل لها كل ذلك باسلوب العرض والمشورة والذي يسميه علماء التنمية البشرية (الاقتراح) لكي لا تبدو هذه الدعوة كأنها أمر وفرض (وإن كانت هي في الحقيقة أمر واجب الاتباع).
وقد كانت هذه المهارة اللينة التي ذكرها القرآن من أجل كسب من هو متسلط ومستبد برأيه ومالك لأمره وهو قسم من قسمين والقسم الثاني هو من يكون مستبداً برأيه لكنه لا يملك زمام أمره كما في حادثة الاسرى الذين عفا عنهم رسول اللهa في أحدى معاركه، قال تعالى في صدر الآية 159 من سورة آل عمران }فَبِما رَحْمَة مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظَّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ| ولقد أشير في هذه الآية إلى واحدة من المزايا الأخلاقية لرسول اللهa ألا وهي اللين مع الناس والرحمة بهم، وخلوه من الفظاظة والخشونة.
«الفظَّ» ـ في اللغة ـ هو الغليظ الجافي الخشن الكلام، و«غليظ القلب» هو قاسي الفؤاد الذي لا تلمس منه رحمة، ولا يُحس منه لين.
وهاتان الكلمتان وإن كانتا بمعنى واحد هو الخشونة، إلاّ أن الغالب استعمال الأُولى في الخشونة الكلامية، واستعمال الثانية في الخشونة العملية والسلوكية (لغة الجسد)، وبهذا يشير سبحانه إلى ما كان يتحلى به الرسول الأعظم من لين ولطف تجاه المذنبين والجاهلين.
إن في هذه الآية إشارة صريحة إلى إحدى أهم الصفات التي يجب توفرها في أية قيادة، ألا وهي العفو واللين تجاه المتخلفين التائبين، والعصاة النادمين، والمتمردين العائدين، ومن البديهي أن الذي يتصدى للقيادة لو خلا من هذه الخصلة المهمة، وافتقر إلى روح السماحة، وافتقد صفة اللين، وعامَلَ من حوله بالخشونة والعنف والفظاظة فسرعان ما يواجه الهزيمة، وسرعان ما تُصاب مشاريعه وبرامجه بنكسات ماحِقة، تبدد جهوده، وتذري مساعيه أدراج الرياح، إذ يتفرق الناس من حوله، فلا يمكنه القيام بمهام القيادة ومسؤولياتها الجسيمة، ولهذا قال الإمام أمير المؤمنين(ع) مشيراً إلى هذه الخصلة القيادية الحساسة (آلَةُ الرِّيَاسَةِ سَعَةُ الصَّدْر).
ومن كل ما تقدم ندرك الاهمية الكبيرة للمهارات اللينة في جذب قلوب الناس والتي لا تكلف شيئاً سوى أن نتعلم الاسلوب الذي تتم به تلك القواعد التي ذكرتها كتب التنمية البشرية والتي يرجع أصلها الى القرآن الكريم ومنها :
1- مناداة الشخص بأحب الاسماء لديه.
2- أجعله يشعر بأهميته.
3- أنصت له.
4- ألتمس له عذراً إذا أخطأ.
5- حدثه بما يهمه.
وغير ذلك من القواعد السهلة الموجودة في مظانها.
احمد الخالدي