بسم الله الرحمن الرحيم
أين كانت الجنة التي أخرجَ منها آدم عليه السلام؟
بسم الله الرحمن الرحيم وبعد فقد ورد سؤال من بعض الإخوة الكرام يقول فيه أين كانت الجنة التي أنزل منها آدم (ع) فهل هي جنة الخلد التي ستكون مقراً للأنبياء والصالحين بعد هذه الحياة الدنيا أم هي جنة في بعض بقاع الأرض كما قيل أم هي في مكانٍ غيرهما حيث يقول تعالى (وَقُلۡنَا یَـٰۤـَٔادَمُ ٱسۡكُنۡ أَنتَ وَزَوۡجُكَ ٱلۡجَنَّةَ وَكُلَا مِنۡهَا رَغَدًا حَیۡثُ شِئۡتُمَا وَلَا تَقۡرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّـٰلِمِینَ) (فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّیۡطَـٰنُ عَنۡهَا فَأَخۡرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِیهِۖ وَقُلۡنَا ٱهۡبِطُوا۟ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوࣱّۖ وَلَكُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ مُسۡتَقَرࣱّ وَمَتَـٰعٌ إِلَىٰ حِینࣲ).
فنقول في الجواب:
إن أحسن السبل في هذا المقام لمعرفة الحقيقة هي آيات الكتاب المجيد بعد التأمل في كل آيةٍ ترتبطُ بما نحنُ فيه لأن الآيات يفسر بعضها بعضا وذلك خير من ان نذهب الى اجتهادات الرجال و ظنونهم ثم بعد ذلك إن وجدنا في الأخبار أو الخطب او غيرهما ما يمكنُ أن يكون مزيدا من البيان أخذنا به شريطة أن يكون قطعي السند والدلالة وإلا فالكثير من الأحاديث حتى المشهور منها قد يكون مما توارثه المتأخرون عن المتقدمين فاعتبر للتقاليد وتقديس القديم من التراث سنداً لا ريب فيه وهو ليس كذلك وعليه فنقول إن التأمل في هذه الآيات قبل التعرض لغيرها يستفاد منه أن آدم وحواء عليهما السلام وابليس أيضاً كانوا جميعا في هذه الجنة لصيغة الجمع في قوله تعالى (اهبطوا)حيث يدل على أن الجميع كانوا في مكان واحد والهبوط ظاهره يدل على مكانٍ أعلى من مكانٍ آخر وأن الجنة التي كانوا فيها غير أرضنا هذه بما يستفاد أيضا من قوله تعالى (ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) كما يستفاد أيضا من هذه الآية وهي (فقلنا يا آدم إن هذا عدوٌ لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى) فنقول إن إبليس كان قريبا منهما لكلمة (هذا) ويستفاد أيضاً أنها ما كانت بقعة من بقاع الأرض بما وصفت لآدم عليه السلام بقوله (إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى) حيث أنه ليس هناك بقعة من بقاع هذه الأرض بما نعرف من هذه الأرض أنها توصف بهذه الصفات فإن هذا يدل أيضا على أن تلك الجنة ما كانت على وجه هذه الأرض ومن أنها لا تتعرض لحرارة الشمس أو البرودة ويستفاد من قوله تعالى (فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) إن الجنة التي كان فيها ليست من جنان الخلد وإلا لما خدع آدم عليه السلام بالبحث عن شجرةٍ تكون سببا لهذا الخلد وكيف أيضا يمكن فرض شجرة مضرة تسبب إيذاء وإبداء للسوءة في جنة الخلد فهي إذن ليست من جنان الخلد كما وأنها ليست من جنان الأرض حيث يستفاد من هذه الآيات أن آدم عليه السلام قد عرف أنها جنة بشروط معينة وهذه لا تنطبق عليها صفة جنة الخلد ولا ما يمكن فرض كونها ايضا جنة على وجه هذه الأرض وهاهنا لابد من وقفةٍ قبل التوغل في البحث القرآني عن هذه الجنة ولو بنظرة سريعة إجمالية إلى كلمة الأرض الواردة في القرآن المجيد لنرى ما هو المراد منها وهل ذلك يدلُ على أن الأرض تساوي عدم الخلود والدثور والفناء كما هو شأن كلمة الدنيا أو أنها أرض واحدة في مقابل سماوات أو أنها دائما هي من منازل الدنو التي لا قيمة لها لأنها من العالم السفلي وان العظم فقط هو في السماوات السبع حيث أن الخلود من شأن سكان السماوات وأن الجنة التي ستكون للمتقين هي أيضا في السماوات العلا أم أن الأرض أيضا قد تكون محلا للخلود وغاية مطلوبة للعظماء وقد تمنى الخلافة فيها حتى سكان السماوات ولذا نبدأ بالتعرض لذكر بعض الآيات الواردة لبيان المراد من كلمة الأرض حيث يقول تعالى تارة (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض) وتارة أخرى يقول (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض)حيث يفهم من مثل هذه الأيات أن المراد هي ارضنا هذه القائمة على الفساد لا بقية الارضين و ان الأرض دائما أريدت في مقابل السماء ولست بصدد الحديث عن السماء والسماوات ها هنا لأنها ليست موردا للسؤال ولكن نقول لا أرض إلا ولها سماء تقابلها ولا سماء أيضا إلا ولها أرض ولذا ورد في القرآن المجيد (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن) أي وكذلك خلق سبعاً من الأرضين والمراد من الأرضين الجانب السفلي من الواقع الكوني حيث يعبر عن الجانب العلوي بالسماء و هو يبقى علوا لارتباطه بمبدء الكون الامتناهي ليكون مصدرا للفيض على جميع الارضين من عالم الامكان وعليه فنقول لابد من التأمل في المعاني الواردة في القرآن لفهم المراد من السماء والأرض حتى لا يتصور المسلم بمجرد أن يسمع بالأرض أنها هي هذه التي نعيش على سطحها فقط وأنها ستفنى وتنتهي ثم إن الجنان والنيران سيكونان في محل آخر من العالم في السماوات أو غيرها إن فرضنا أن هناك ما ليس بسماء ولا أرض ومما يمكن أن يعين في فهم المراد من الأرض قوله تعالى (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا – حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلامٌ عليكم طبتم فادخلوها خالدين وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين) حيث يستفاد من ذلك أي من كلمةٍ (وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة إلى آخره) إن الجنة ستكون في إحدى هذه الأرضين السبع أو هي جنان تكون في هذه الأرضين أيضا حين تبدل الأرض غير الأرض لكنها تبقى أيضا كسبع أرضين في مقابل سبع سماوات وسيأتي حيث يفهم أيضا إن محل الجنان والخلد ومحل الاختبار ومحل النيران هي هذه الأرضون السبع ومن ذلك نفهم أن الجنة التي كان فيها آدم وحواء عليهما السلام كانت إحدى هذه الجنان لكنها ليست من جنان الخلد وليست جنة من جنان الأرض كما يتوهم.
وفي موطن آخر يقول تعالى (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) حيث راح الكثير من المفسرين ليقول هي وراثة بعض الصالحين لهذه الأرض كما حصل مثلا لسليمان أو ما سيحصل للمهدي ومن سيكونون معه من الأنصار المخلصين لكن وراثة وسلطانا كهذا لا يعمّ من تأريخ البشرية حتى جزءا ضئيلا في مقابل قرون عالم الدنيا بظلماتها وسلطان الجور وذلك لا يحسن به أن يقال في حقه إن الأرض يرثها عبادي الصالحون وهذا يخالف عدل الله بأن تكونَ مواريث الأرض لبعض المؤمنين الذين كانوا مع سليمان أو سيكونون مع المهدي فقط ولا تكونُ لمن تقدمهم من الأنبياء ولا من سيتأخر عنهم من المؤمنين فإذن هي تلك الأرض التي تكون من هذه الارضين السبع بعد الموت وهي جنان الخلد حيث أن الورثة الحقيقيين لواقع الأرض خلداً لا الارض فناءا هي الأرضون التي ستكون جنان خلدٍ للمتقين بعد فناء هذا العالم وحيث يقول تعالى في موطنٍ آخر (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين) حيث أن ظهور هذه أيضا هي أرض تلك الجنان الخالدة التي يكون فيها سلطان الله ظاهراً حيث يقول إن الأرض لله يورثها من يشاء لا كما هي هذه الأرض التي هي أرض الفناء والتي ورثها طول هذا التأريخ هم السلاطين والمبطلون وحيث يقول تعالى أيضا (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم) حيث يستفاد من هذه الآية أيضا أن الاستخلاف ثابت دائم وهو استخلاف من مضوا من الصالحين لجنات النعيم كما هو استخلاف بقية الصالحين لتلك الجنان التي هي جنان الخلد وكلمة الأرض كالجنس قد يراد منها الأرضون أو هي في بعض هذه الأرضين السبع وهناك هو الاستخلاف الدائم والوراثة الحقيقية والتمكن من واقع دين الحق الذي ارتضاه الله لعباده الصالحين و هو منهج الكمال المستمر الى ما لا نهاية له وسيبقى الكمال في بقية العوالم مستمرا وهذه الأرض نقطة انطلاق وليست خاتمة السير والسلوك إلى الله تعالى فذلك لا حد له حيث أنه تعالى المبدأ اللامتناهي وكذلك هو الغاية اللامتناهية المطلوبة في جميع العوالم وهناك هي قيم الحق التي لا يشوبها باطل ولا يمنعها مانع وإلا فكيف يورث البعض ويستخلف البعض من المتقين دون غيرهم من الذين جاءوا وذهبوا مظلومين مضطهدين كأمثال أبي ذر وعمار ومالك وغيرهم من الأبرار على طول تأريخ البشرية من الأنبياء والأئمة وسائر المخلصين من عباد الله الأطهار وحكمة الله تعالى في الصالحين والطالحين بتبع ميزان الحق لا تتبدل ولا تتغير عدلا منه تعالى بالنسبة إلى الجميع وهناك آيات أخرى لا يسعها هذا المختصر للاستدلال بها على أن تلك الجنة التي كان فيها آدم عليه السلام هي ليست من جنان الخلد ولا كذلك هي جنة من جنان هذه الأرض لكن هاهنا لعل الكثير من التفاسير شرقت أو غربت في تعيين المراد من تلك الجنة حتى كاد أن يقول الكثير منهم على أن المراد من الأرض هي أرض الجنة التي هي في السماوات وذلك حينما غض الطرف المسلم عن آيات القرآن نفسها وجعل التفسير تابعا لكلمات قدماء المفسرين أو استند فقط إلى الأحاديث بعيدا عن التأمل في الآيات الشريفة وهذا النهج التقليدي هو الذي أوقف عقل المسلم من التأمل والتعمق في حقائق الشرع المبين كتابا وسنة وسيرة للصالحين و هذا ما توصلت إليه بتبع الآيات الشريفة والله تعالى هو العالم بحقائق الأمور وفقنا الله تعالى وإياكم إلى الحق والتأمل في دقائق الأمور شرعا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كان ذلك في يوم 21/12/2018
المطابق 12 ربيع الثاني 1440 هجري.
المصدر: http://kazemalkhaghani.com