لعل أهم مبرر يطرحه دعاة الهيمنة الاجتماعية، واهم شعار يرفعونه، هو تعزيز الروح الجمعية وأولوية المصلحة العامة.
ولا شك أن الشعور بالحاجة إلى انتماء اجتماعي، هو من أقوى المشاعر المتجذرة في نفس الإنسان، فهو يوفر له الإحساس بالقوة والأمن، كما أن عضويته في المجتمع تساعده في تسيير شؤون الحياة ومواجهة مشاكلها.
ولا شك أيضاً أن قوة المجتمع تتحقق بتضامن أفراده، واهتمامهم بالمصالح العليا لمجتمعهم.
ويظهر من تاريخ البشرية القديم والحديث أن هناك رؤيتين في الوصول إلى هذه الغاية والهدف:
الرؤية الأولى: تبالغ في التقليل من شأن الفرد، وتدعو إلى إذابته وصهره في بوتقة المجتمع، ليسلم قياده، ويكبت رغباته، ويكبح جماح فكره، خضوعاً للإرادة الجمعية، والتزاماً بتوجيهاتها.
وتلك هي سمة المجتمعات الإقطاعية والتقليدية التي يسودها الاستبداد الشمولي، كما تبنت هذه الرؤية المدرسة الماركسية الشيوعية في التاريخ الحديث.
ورغم أن عنوان هذه الرؤية وشعارها هو الجماعة والأمة والمصلحة العامة، إلا أنها غالباً ما أنتجت واقعاً مبايناً ومناقضاً لهذا العنوان في تاريخ البشرية القديم والحديث، حيث تؤدي إلى هيمنة أفراد أو طبقة من الناس على مقاليد الأمور، ليتحكموا في مصير الأمة والشعب، وليتخذوا ما شاءوا من القرارات التي تخدم مصالحهم الخاصة، وتلبي رغباتهم في المزيد من التسلط والاستئثار.
كما نقرأ ذلك في تاريخ العصور الأوروبية الوسطى، ومعظم تاريخ السلاطين المسلمين، وفي سيرة ستالين، وهتلر، وعيدي أمين، وصدام حسين، وأمثالهم من طغاة هذا العصر الذين رفعوا شعارات القومية والوطنية، وحكموا باسم الشعب والجماهير.
أما الرؤية الثانية: فهي تهتم بإعلاء شأن الفرد، وتدعو إلى احترام خصوصياته الشخصية، وحماية حقوقه المنبعثة من طبيعته الإنسانية، وترى أن قوة المجتمع تتحقق بقوة أفراده وتوافقهم على عقد ونظام اجتماعي لإدارة شؤونهم العامة.
في ظل هذه الرؤية يتمتع الفرد بحرية التفكير والتعبير عن الرأي، واتخاذ القرار في شؤونه الخاصة، وما يختاره لنفسه من أسلوب حياة ونمط سلوك.
ويشترك مع سائر أفراد محيطه الاجتماعي في صياغة قوانين وأنظمة الحياة العامة، وفي تقرير الأهداف العليا للمجتمع.
وأعتقد أن المجتمعات الإيمانية التي اتبعت تعاليم الأنبياء في التاريخ القديم، كانت تأخذ بهذه الرؤية، وتعمل وفقها، قبل أن يصيبها الانحراف والفساد بتسلّط من زوّروا و زيّفوا تعاليم الأديان.
كما أن المجتمعات الحديثة في الدول المتقدمة تنتمي إلى هذه الرؤية، فقوة أميركا هدف وشعار لمواطنيها، وتعزيز الروح الوطنية منهج بارز، يزداد تألقه وتجليه أمام التحديات التي تواجههم، كما حصل بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م.
وكذلك الحال في سائر الدول الغربية التي سعت مجتمعاتها للتوفيق بين ممارسة الحقوق الفردية والحريات الشخصية، وبين تعزيز الروح المجتمعية الوطنية، وخدمة المصالح العامة.
ويقتضي التنويه أن الإشادة بالتوجه العام لهذه المجتمعات المتقدمة لا يعني الإشادة بكل التفاصيل والجوانب، ففي داخل تلك المجتمعات نفسها أخذٌ وردٌّ ومعارضةٌ ونقدٌ للكثير من السياسات والممارسات1.
- 1. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ حسن الصفار (حفظه الله)، و المقالة منشورة في جريدة الدار الكويتية 22 / 1 / 2010م – 12:58 م – الجمعة, 22 يناير 2010م – العدد: 616.