مقالات

أهل السنة…

نريد في هذا الفصل توضيح شيء مهم لا غنى للباحث أن يتعمق فيه، ليكتشف بدون لبس بأنّ الذين يتسمّون “بأهل السنّة” ليس لهم في الحقيقة من سنّة النبيّ شيء يذكر .

وذلك لأنّهم، أو بالأحرى لأنّ أسلافهم من الصحابة والخلفاء الراشدين عندهم الذين يقتدون بهم، ويتقرّبون إلى الله بحبّهم وولائهم، قد وقفوا من السنّة النبويّة موقفاً سلبياً إلى درجة أنّهم أحرقوها، ومنعوا من كتابتها والتحدّث بها 1 .

وإضافة لما سبق توضيحه لابدّ لنا من كشف الستار عن تلك المؤامرة الخسيسة التي حيكتْ ضدّ السنّة النبويّة المطهّرة لمنع انتشارها والقضاء عليها في المهد، وإبدالها ببدع الحكّام واجتهاداتهم، وآراء الصحابة وتأويلاتهم .

وقد عمل الحكّام الأولون

أوّلا: على وضع الأحاديث المكذوبة التي تؤيّد مذهبهم في منع الكتاب لعموم السنّة النبويّة والأحاديث الشريفة.

فها هو الإمام مسلم يخرج في صحيحه، عن هدّاب بن خالد الأزدي، عن همام، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:

“لا تكتبوا عنّي، ومن كتب عنّي غير القرآن فليمحه، وحدّثوا عنّي ولا حرج…” 2 .

والغرض من وضع هذا الحديث، هو تبرير ما فعله أبو بكر وعمر اتّجاه الأحاديث النبويّة التي كتبها بعض الصحابة ودوّنوها، وقد وُضع هذا الحديث في زمن متأخّر عن الخلفاء الراشدين، وغفل الوضّاعون الكاذبون عن الأُمور التالية:

أ: لو قال هذا الحديث صاحب الرسالة لامتثل أمره الصحابة الذين كتبوا عنه، ولمحوه قبل أن يتولّى أبو بكر وعمر حرقها بعد سنوات عديدة من وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).

ب: لو كان هذا الحديث صحيحاً لاستدلّ به أبو بكر أولا، ثمّ عمر ثانياً، لتبرير منعهما كتابة الأحاديث ومحوها، ولاعتذر أُولئك الصحابة الذين كتبوها إمّا جهلا وإمّا نسياناً 3 .

ت: لو كان هذا الحديث صحيحاً لوجب على أبي بكر وعلى عمر أن يمحوا الأحاديث محواً لا أن يحرقاها حرقاً 4 .

ث: لو صحّ هذا الحديث فالمسلمون من عهد عمر بن عبد العزيز إلى يوم الناس هذا كلّهم آثمون، لأنّهم خالفوا نهي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعلى رأسهم عمر ابن عبد العزيز الذي أمر العلماء في عهده بتدوين الأحاديث وكتابتها، والبخاري ومسلم اللذان يُصحّحان هذا الحديث ثمّ يعصيانه، ويكتبان أُلوف الأحاديث عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).

ج: وأخيراً لو صحّ هذا الحديث لما غاب عن باب مدينة العلم علي بن أبي طالب، الذي جمع أحاديث النبيّ في صحيفة طولها سبعون ذراعاً، ويسمّيها الجامعة (وسيأتي الكلام عنها لاحقاً بحول الله).

ثانياً: عمل الحكّام الأمويون على التأكيد بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غير معصوم عن الخطأ، وهو كغيره من البشر الذين يخطئون ويصيبون، ويروون في ذلك عدّة أحاديث.

والغرض من وضع تلك الأحاديث هو التأكيد على أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يجتهد برأيه، فكان كثيراً ما يخطئ ممّا حدا ببعض الصحابة أنْ يصوّب رأيه، كما جاء ذلك في قضية تأبير النخل، ونزول آية الحجاب، والاستغفار للمنافقين، وقبول الفدية من أسرى بدر، وغير ذلك ممّا يدعيه “أهل السنّة والجماعة” في صحاحهم وما يعتقدونه في صاحب الرسالة (عليه وآله أفضل الصلاة وأزكى السلام).

ونحن نقول لأهل السنّة والجماعة

إذا كان هذا هو دينكم، وهذا هو اعتقادكم في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكيف تدعون التمسّك بسنّته، وسنته عندكم وعند أسلافكم غير معصومة، بل غير معلومة ولا مكتوبة 5 ؟

على أننا نردُّ على هذه المزاعم والأكاذيب وندحضها من نفس كتبكم وصحاحكم 6 .

فهذا الإمام البخاري يخرج في صحيحه من كتاب العلم، وفي باب كتابة العلم، عن أبي هريرة قال: ما من أصحاب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أحد أكثر حديثاً عنه منّي، إلاّ ما كان من عبد الله بن عَمْرو فإنّه كان يكتُبُ ولاَ أكتُبُ 7 .

ويستفاد من هذه الرواية بأنّ هناك من أصحاب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من كان يكتب أحاديثه، وإذا كان أبو هريرة يروي أكثر من ستّة آلاف حديث عن النبيّ شفاهياً، فإنّ عبد الله بن عمرو بن العاص فاق هذا العدد كتابياً، ولذلك اعترف أبو هريرة بأنّ عبد الله بن عمرو أكثر منه أحاديث عن النبيّ لأنّه كان يكتب، ولا شكّ بأنّ هناك في الصحابة كثيرين ممّن كانوا يكتبون عن النبيّ أحاديثه، ولم يذكرهم أبو هريرة لعدم اشتهارهم بكثرة الرواية عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

وإذا أضفنا إلى هؤلاء الإمام علي بن أبي طالب الذي كان ينشر من فوق المنبر صحيفة يسمّيها الجامعة، جمع فيها كلّ ما يحتاجه الناس من أحاديث النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد توارثها الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) وكثيراً ما تحدّثوا عنها.

فقد قال الإمام جعفر الصادق

“إنّ عندنا لصحيفة طولها سبعون ذراعاً، إملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخط علي بيده، ما من حلال ولا حرام وما من شيء يحتاج إليه الناس، وليس قضية إلاّ وهي فيها حتى أرش الخدش” 8 .

وقد أشار البخاري نفسه في صحيحه إلى هذه الصحيفة التي كانت عند علي في عدّة أبواب من كتابه، ولكنّه وكما عوّدنا البخاري فإنّه بتر الكثير من خصائصها ومضمونها.

قال البخاري في باب كتابة العلم:

عن الشعبي، عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟

قال: “لا إلاّ كتاب الله، أو فهم أعطيه رجلا مسلماً، أو ما في هذه الصحيفة”.

قال: قلت: وما في هذه الصحيفة؟

قال: “العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر” 7 .

كما جاء في صحيح البخاري في موضع آخر قوله:

عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن علي قال: “ما عندنا شيء إلاّ كتاب الله، وهذه الصحيفة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ” 9 .

كما جاء في موضع آخر من صحيح البخاري قوله:

عن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال: خطبنا علي فقال: “ما عندنا كتاب نقرأه إلاّ كتاب الله، وما في هذه الصحيفة” 10 .

وينقل البخاري في باب آخر من صحيحه قوله:

عن علي (رضي الله عنه) قال: “ما كتبنا عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ القرآن، وما في هذه الصحيفة” 11 .

كما أخرج البخاري في موضع آخر من صحيحه قوله:

عن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال: خطبنا علي (رضي الله عنه) على منبر من آجر، وعليه سيف فيه صحيفة معلّقة، فقال: “والله ما عندنا كتاب يقرأ إلاّ كتاب الله، وما في هذه الصحيفة” 12 .

ولم ينقل البخاري ما قاله الإمام جعفر الصادق من أنّ الصحيفة تسمّى الجامعة; لأنّها جمعتْ كلّ حلال وكلّ حرام، وفيها كلّ ما يحتاجه الناس حتى أرش الخدش، بإملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخطّ علي بن أبي طالب، فاختصرها بقوله مرّة: بأنّ فيها “العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر”، ومرّة أُخرى بقوله: فنشرها عليّ فإذا فيها أسنان الإبل، وإذا فيها المدينة حرم… وإذا فيها ذمّة المسلمين واحدة… وإذا فيها من والى قوماً بغير إذن مواليه…”.

إنّه التزوير والتعتيم على الحقائق، وإلاّ هل يعقل أنْ يكتب علي هذه الكلمات الأربعة في صحيفة، ويعلّقها على سيفه، وتلازمه عندما يخطب من فوق المنبر، ويجعل منها المرجع الثاني بعد كتاب الله، فيقول للناس: “ما كتبنا عن النبيّ إلاّ القرآن، وما في هذه الصحيفة”؟!

وهل كان عقل أبي هريرة أكبر من عقل علي بن أبي طالب إذ كان يحفظ عن رسول الله مائة ألف حديث من غير كتابة 13 ؟

عجيب والله أمر هؤلاء الذين يقبلون مائة ألف حديث عن أبي هريرة الذي لم يصحب النبيّ إلاّ ثلاث سنوات، وكان يجهل القراءة والكتابة، ويزعمون بأنّ علياً باب مدينة العلم الذي تعلّم منه الصحابة شتى العلوم والمعارف، كان يحمل صحيفة فيها أربعة أحاديث، ظلّت تلازمه من حياة الرسول إلى أيام خلافته، فيصعد بها على المنبر وهي معلّقة على سيفه؟ كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلاّ كذباً.

على أنّ في ما أخرجه البخاري كفاية للباحثين والعقلاء، وذلك عندما ذكر بأنّ فيها العقل، فهو دليل بأنّ في الصحيفة أشياء كثيرة تخص العقل البشري والفكر الإسلامي.

ونحن لا نريد إقامة الدليل على ما في الصحيفة، فأهل مكّة أدرى بشعابها، وأهل البيت أدرى بما فيه، وقد قالوا بأنّ فيها كلّ ما يحتاجه الناس من حلال وحرام حتى أرش الخدش.

ولكنّ الذي يهمنا في هذا البحث هو أنّ الصحابة كانوا يكتبون أحاديث النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقول أبي هريرة بأنّ عبد الله بن عمرو كان يكتب أحاديث النبيّ، وقول علي بن أبي طالب: “ما كتبنا عن رسول الله إلاّ القرآن وما في هذه الصحيفة” كما جاء في صحيح البخاري، هو دليل قاطع على أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم ينه عن كتابة أحاديثه أبداً، بل العكس هو الصحيح، وأنّ الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه “لا تكتبوا عنّي ومن كتب عنّي غير القرآن فليمحه” هو حديث مكذوب، وضعه أنصار الخلفاء لتأييد وتبرير ما فعله أبو بكر وعمر وعثمان من حرق الأحاديث النبويّة ومنع السنّة من الانتشار.

وممّا يزيدنا يقيناً بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم ينه عن كتابة الأحاديث عنه بل إنّه أمر بها، هو ما قاله الإمام علي (عليه السلام) أقرب الناس للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): “ما كتبنا عنه غير القرآن، وما في هذه الصحيفة” والذي صحّحه البخاري.

وإذا أضفنا إلى هذا قول الإمام جعفر الصادق بأنّ الصحيفة الجامعة هي من إملاء رسول الله وخطّ علي، فمعناه أنّ النبيّ أمر علياً بالكتابة.

وحتى لا يبقى عندك شكّ أيّها القارئ العزيز، أزيدك ما يلي:

أخرج الحاكم في مستدركه، وأبو داود في صحيحه، والإمام أحمد في مسنده، والدارمي في سننه، أخرجوا كلّهم حديثاً مهماً جداً بخصوص عبد الله بن عمرو الذي ذكره أبو هريرة بأنّه كان يكتب عن النبيّ:

قال عبد الله بن عمرو: كنت أكتب كلّ شيء أسمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فنهتني قريش وقالوا: تكتب كلّ شيء سمعته من رسول الله، وهو بشر يتكلم في الغضب والرضى؟

قال عبد الله: فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأومأ إلى فيه وقال: “أكتب فو الذي نفسي بيده ما خرج منه إلاّ الحقّ” 14 .

ونُلاحظ من خلال هذا الحديث بأنّ عبد الله بن عمرو كان يكتب كلّ ما يسمعه من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلم ينهه النبيّ عن ذلك وإنّما وقع النهي من قريش، ولم يرد عبد الله التصريح بأسماء الذين نهوه عن الكتابة; لأنّ في نهيهم طعن على رسول الله، كما لا يخفى، فأبهم القول بأنّهم قريش، والمقصود بقريش زعماؤها من المهاجرين، وعلى رأسهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعبد الرحمان بن عوف، وأبو عبيدة، وطلحة، والزبير، ومن سار على رأيهم.

كما نلاحظ بأنّ نهيهم لعبد الله كان في حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا ما يؤكد عمق المؤامرة وخطورتها.

وإلاّ لماذا يعمد هؤلاء لنهي عبد الله عن الكتابة بدون الرجوع إلى النبيّ نفسه؟

كما يفهم أيضاً من قولهم له: إنّ رسول الله بشر يتكلّم في الغضب والرضى، أنّ عقيدتهم في النبيّ كانت هزيلة إلى درجة أنّهم يشكّون فيه بأنّه يقول باطلا ويحكم ظلماً خصوصاً في حالة الغضب، وما قول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما ذكر له عبد الله بن عمرو نهي قريش وما قالوه في شأنه فقال (صلى الله عليه وآله وسلم):

“أكتب فو الذي نفسي بيده ما خرج منه إلاّ الحقّ” ـ إشارة إلى فمه ـ لدليل آخر على علم الرسول بشكّهم في عدالته، وأنّهم يجوّزون عليه الخطأ وقول الباطل، فأقسم بالله بأنّه لا يخرج من فمه إلاّ الحقّ.

وهذا هو التفسير الصحيح لما جاء في قوله سبحانه وتعالى:

﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ﴾ 15 .

وأنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) معصوم عن الخطأ وقول الباطل، وبهذا فإنّنا نجزم بأنّ كلّ الأحاديث والروايات التي وضعت في زمن الأمويين، والتي يستفاد منها بأنّه غير معصوم لا يصح شيء منها، كما أنّ الحديث المذكور يشعرنا بأنّ تأثيرهم على عبد الله بن عمرو كان كبيراً حتى أمسك عن الكتابة، كما صرّح هو بنفسه إذ قال: “فأمسكت عن الكتابة” وبقي على ذلك إلى أن جاءتْ مناسبة تدخّل فيها رسول الله بنفسه لإزالة الشكوك التي تثار حول عصمته وعدالته، وكانت كثيراً ما تثار حتى بمحضره (صلى الله عليه وآله وسلم) كقولهم له صراحة: “ألست نبي الله حقاً؟” 16 أو: “أنت الذي تزعم أنّك نبي” 17 ، أو “ما أُريد بهذه القسمة وجه الله” 18 ، أو كقول عائشة للنبي: “إن ربّك يسارع في هواك” 19 ، أو قولها له: “أقصد” إلى غير ذلك من العبارات النابية التي تُعربُ عن شكّهم في عصمته واعتقادهم بأنّه يحيف ويظلم ويخطئ ويكذب والعياذ بالله.

فكان (صلى الله عليه وآله وسلم) صاحب الخلق العظيم رؤوفاً رحيماً، كثيراً ما يزيح تلك الشبهات بقوله مرّة: “ما أنا إلاّ عبد مأمور” 20 ، ومرة يقول: “إنّي لأخشاكم لله وأتقاكم له”21 ، وأخرى يقول: “والذي نفسي بيده ما خرج منه إلاّ الحقّ” 22 ، وكثيراً ما كان يقول: “رحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر” 23 .

فلم تكن هذه الكلمات النابية التي تطعن في عصمته وتشكّك في نبوته صادرة عن أُناس متروكين أو عن المنافقين، ولكنّها مع الأسف صدرت عن عظماء الصحابة، وعن أُمّ المؤمنين، والذين هم عند “أهل السنّة والجماعة” قدوة وأُسوة حسنة، فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم.

وممّا يزيدنا يقينا بأنّ حديث “لا تكتبوا عنّي” هو حديث موضوع لا أساس له من الصحة، ولم ينطق به رسول الله إطلاقاً; أنّ أبا بكر نفسه كان يكتب عن رسول الله بعض الأحاديث التي جمعها في عهد النبيّ، ثمّ بعدما تولّى الخلافة بدا له أن يحرقها لأمر قد لا يخفى على الباحثين.

فها هي ابنته عائشة تقول: جمع أبي الحديث عن رسول الله فكانت خمسمائة حديث، فبات يتقلّب، فقلت: يتقلّب لشكوى أو لشيء بلغه، فلمّا أصبح قال: أي بنية هلمّي بالأحاديث التي عندك، فجئته بها فأحرقها 24 .

وهذا عمر بن الخطّاب أيضاً في خلافته يخطب يوماً في الناس قائلا: “لا يبقين أحد عنده كتاباً إلاّ أتاني به فأرى فيه رأيي” فظنوا أنّه يريد النظر فيها ليقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف، فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار” 25 .

كما بعث في الأمصار يأمرهم: “من كان عنده شيء فليمحه” 26 .

فهذا أكبر دليل على أنّ الصحابة عامّة، سواء منهم المقيمين في المدينة أو في بقية الأمصار الإسلامية الأُخرى، كلّهم عندهم كتبٌ جمعوا فيها الأحاديث النبويّة التي كتبوها على عهده (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأحرقت كلّها بفعل أبي بكر أوّلا، ثمّ عمر ثانياً، ومُحيتْ بقية الكتب التي في الأمصار بأمر عمر في خلافته 27 .

وعلى هذا فلا يمكن لنا، ولا لأيّ عاقل أن يصدّق بأنّ رسول الله نهاهم عن كتابة الحديث، بعدما عرفنا بأنّ أكثر الصحابة كانت عندهم كتب للأحاديث، وخصوصاً الصحيفة التي كانت تلازم الإمام علي وطولها سبعون ذراعاً، ويُسميّها الجامعة; لأنّها جمعتْ كلّ شيء.

وبما أنّ السلطة الحاكمة والسياسة السائدة اقتضت مصالحها محو السنّة وحرقها وعدم التحدّث بها، فإنّ الصحابة المؤيّدين لتلك الخلافة امتثلوا الأوامر ونفّذوها، فلم يبقَ لهم ولا لأتباعهم من التابعين سوى الاجتهاد بالرأي، أو الاقتداء بسنّة أبي بكر، وسنّة عمر، وسنّة عثمان، وسنّة معاوية، وسنّة يزيد، وسنّة مروان بن الحكم، وعبد الملك بن مروان، والوليد بن عبد الملك، وسنّة سليمان بن عبد الملك، إلى أن جاء عمر بن عبد العزيز فطلب من أبي بكر الحزمي أن يكتب له ما كان من حديث رسول الله أو سنّته أو حديث عمر بن الخطّاب 28 .

وهكذا يتبيّن لنا أنّه حتى في الظروف التي سمحتْ بتدوين السنّة، وبعد مرور مائة سنة على طمسها ومنعها، نرى الحاكم الأموي المعتدل والذي ألحقه “أهل السنّة” بالخلفاء الراشدين، يأمرُ بجمع سنّة رسول الله وسنّة عمر بن الخطّاب، وكأنّ عمر بن الخطّاب شريك محمّد في رسالته ونبوّته!!

ولماذا لم يطلب عمر بن عبد العزيز من أئمّة أهل البيت الذين عاصرهم أن يعطوه نسخة من الصحيفة الجامعة؟! ولماذا لم يكلّفهم هم بجمع الأحاديث النبويّة، فهم أعلم بحديث جدّهم من غيرهم؟!

فالمحقّقون والباحثون يعرفون سرّ ذلك.

وهل يحصل الاطمئنان إلى تلك الأحاديث التي جمعها “أهل السنّة والجماعة” من بني أُميّة وأعوانهم الذين يمثّلون خلافة قريش، وقد عرفنا حقيقة قريش وعقيدتها في رسول الله وسنّته المطهّرة؟

ويبقى واضحاً بعد هذا بأنّ السلطة الحاكمة وعلى مرّ عصور الخلافة عملت بالاجتهاد والقياس ومشاورة بعضهم.

وبما أنّ السلطة قد أقصت الإمام علياً عن مسرح الحياة وأهملته، فلم يكن لها عليه من سلطان لحرق ما كتبه في عهد الرسالة بإملاء النبيّ نفسه.

وبقي علي بن أبي طالب يحتفظ بتلك الصحيفة التي جمع فيها كلّ ما يحتاجه الناس حتّى أرش الخدش، ولمّا تولّى الخلافة كان يُعلّقها على سيفه، ويصعد على المنبر ليخطُب في الناس ويُعرّفهم بأهمّيتها.

وقد تواترت الأخبار عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بأنّهم توارثوا تلك الصحيفة أباً عن جدّ وكابراً عن كابر، وكانوا يفتون بها في المسائل التي يحتاجها معاصروهم ممّن اقتدوا بهديهم.

ولذلك كان الإمام جعفر الصادق، والإمام الرضا، وغيرهم من الأئمة يردّدون دائماً نفس الكلام بخصوصها ويقولون:

“إنّنا لا نفتي الناس بآرائنا، إنّا لو كنّا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين، ولكنّها آثار من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أصل علم نتوارثها كابر عن كابر، نكتنزها كما يكتنز الناس ذهبهم وفضّتهم” 29 .

وقال جعفر الصادق مرّة أُخرى

“حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله، وحديث رسول الله هو قول الله (عزّ وجلّ) ” 30 .

وبكلّ هذا يُصبحُ حديث الثقلين المتواتر 31 : “تركتُ فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً” 32 ، هو الحقّ الذي ليس بعده إلاّ الضلال، وتصبحُ السنّة النبويّة الصحيحة ليس لها من حافظ وراع وقيّم غير الأئمة الأطهار من آل بيت المصطفى المختار.

كما يُستنتجُ من هذا أنّ شيعة أهل البيت الذين تمسّكوا بالعترة هم أهل السنّة النبويّة، وأن “أهل السنّة والجماعة” مدّعون ما ليس لهم، ولا تقُوم دعواهم على حجّة ولا دليل.

والحمدُ لله الذي هدانا لهذا 33 .

  • 1. يراجع في هذا الصدد كتاب “فاسألوا أهل الذكر” من صفحة 200 وما بعدها (المؤلّف).
  • 2. صحيح مسلم 8: 229، (كتاب الزهد والرقائق، باب التثبّت في الحديث وحكم كتابة العلم).
  • 3. قال محمّد أبو زهرة في كتابه (الحديث والمحدّثون): 233: “إنّ امتناعبعض الصحابة عن كتابة الحديث ومنعهم منه لم يكن سببه نهي النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عن كتابة الحديث; بدليل أنّ الآثار الواردة عنهم في المنع أو الامتناع من كتابة الحديث لمن ينقل فيها التعليل بذلك، وإنّما كانوا يعلّلون بمخافة أن يشتغل الناس بها عن كتاب اللّه، أو بمخافة أن يهمل الناس الحفظ اعتماداً على الكتابة، أو لغير ذلك من الأغراض”.
  • 4. راجع إحراق أبي بكر للأحاديث النبويّة: تذكرة الحفاظ للذهبي 1: 7، وكذلك عمر بن الخطّاب حيث منع من التحدث بالسنّة النبويّة فضلا عن كتابتها، تقييد العلم 49، طبقات ابن سعد 1: 140.
  • 5. لأنّ تدوين السنّة النبويّة تأخّر إلى زمن عمر بن عبدالعزيز أو بعده، أمّا الخلفاء والحكّام الذين حكموا قبله فقد أحرقوها ومنعوا من كتابتها والتحدّث بها (المؤلّف).
  • 6. الغريب أنّ أهل السنّة كثيراً ما يروون الحديث ونقيضه في نفس الكتاب، والأغرب من ذلك أنّهم كثيراً ما يعملون بما هو مكذوب، ويهملون ما هو صحيح (المؤلّف).
  • 7. a. b. صحيح البخاري 1: 36 (كتاب العلم، باب كتابة العلم).
  • 8. بصائر الدرجات: 162 ح3، الكافي 1: 239 ح1.
  • 9. صحيح البخاري 2: 221 (كتاب فضائل المدينة، باب حرم المدينة).
  • 10. صحيح البخاري 4: 67 (كتاب الجزية والموادعة، باب ذمّة المسلمين وجوارهم واحدة)، صحيح مسلم 4: 115 (كتاب الحج، باب فضل المدينة).
  • 11. صحيح البخاري 4: 69 (كتاب الجزية، باب كيف ينبذ إلى أهل العهد).
  • 12. صحيح البخاري 8: 144 (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة، باب ما يكره من التعمّق والتنازع في العلم).
  • 13. 1- أبو هريرة من الشخصيات الروائية البارزة عند أهل السنّة، وله من الشهرة التي جعلته كنار على منار لكثرة الروايات التي نسبها إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، مع ملاحظة قصر مدّة صحبته للنبيّ عليه الصلاة والسلام، ممّا أثار الجدل والأخذ والردّ حول هذه الشخصية، فكثر عليه الاعتراض من قبل علماء السنّة أنفسهم قبل غيرهم، والاعتراضات التي وجهت إليه ترجع إلى ثلاث نقاط:1 ـ الكم الهائل من الروايات التي نقلها ونسبها إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، والتي تقدّر 8740 رواية في الكتب التسعة، مع قصر مدّة صحبته للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والتي تقدر بسنتين وبضعة شهور.2 ـ طبيعة الروايات التي نقلها، فإنّها تضمنت الكثير من الخرافات والاسرائيليات المأخوذة من اليهود ككعب الأحبار وغيره.3 ـ اعتراض الكثير من الصحابة على ما يرويه، ممّا أدى ببعضهم إلى التحقيق معه وإظهار كذبه في بعض الموارد; لأنّه كان ينسب أشياء إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو لم يسمعها منه، وعندما يحقق عليها ينسبها إلى ميت أو يرطن بالحبشية.وكان أبو هريرة من وعّاظ السلاطين والمتمسحين بهم، وهناك كلام كثير حول هذه الشخصية يمكن مراجعته في الأبحاث التالية:1 ـ أبو هريرة، السيدّ شرف الدين العاملي.2 ـ أكثر أبو هريرة للدكتور مصطفى بوهندي.3 ـ شيخ المضيرة أبو هريرة، محمود أبو رية.
  • 14. مستدرك الحاكم 1: 104 صحّحه ووافقه الذهبي في تلخيص المستدرك، سنن أبي داود 2: 176، سنن الدارمي 1: 125، مسند الإمام أحمد بن حنبل 2: 162 وصحّحه محقّق الكتاب العلاّمة أحمد محمّد شاكر، المصنّف لابن أبي شيبة 6: 229، تفسير ابن كثير 4: 264، جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البرّ 1: 71.
  • 15. القران الكريم: سورة النجم (53)، الآية: 3 و 4، الصفحة: 526.
  • 16. قاله عمر بن الخطّاب في صلح الحديبية، أخرجه البخاري 3: 182 (كتاب الصلح، باب الشروط والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط).
  • 17. قالته عائشة بنت أبي بكر للنّبي كتاب إحياء العلوم للغزالي 2: 65 (كتاب النكاح، الباب الثالث).
  • 18. قاله صحابي من الأنصار للنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخرجه البخاري 5: 106 (كتاب المغازي، باب غزوة الطائف).
  • 19. صحيح البخاري 6: 24، 128 (كتاب التفسير، تفسير سورة الأحزاب).
  • 20. المعجم الكبير 12: 114.
  • 21. صحيح البخاري 6: 116 (كتاب النكاح، الترغيب في النكاح).
  • 22. مسند أحمد 2: 162 وصرّح محقّق الكتاب العلاّمة أحمد محمّد شاكر بصّحته.
  • 23. مسند أحمد 1: 380، صحيح البخاري 4: 61 (كتاب الجهاد والسير، باب ما كان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يعطي المؤلّفة قلوبهم وغيرهم من الخمس).
  • 24. كنز العمّال 10: 285 ح29460، تذكرة الحُفّاظ للذهبي 1: 5.
  • 25. الطبقات الكبرى لابن سعد 5: 188، سير أعلام النبلاء 5: 59.
  • 26. كتاب العلم للنسائي: 11، كنز العمال 10: 292 ح29476.
  • 27. أنظر رعاك الله إلى هذا العمل الشنيع الذي فعله الخلفاء أبو بكر وعمر اتّجاهالسنّة النبويّة، والخسارة العُظمى التي لا تُقدّر والتي تسبّبا فيها للأمّة الإسلامية التي كانت في أشدّ الحاجة للأحاديث النبويّة لفهم القرآن وفهم أحكام الله تعالى، وإنّها لعمري أحاديث صحيحة لأنّهم كتبوها عنه مباشرة وبدون واسطة، أمّا الأحاديث التي جُمعَتْ فيما بعد أغلبها أحاديث موضوعة; لأنّ الفتنة وقعت، وقتل المسلمون بعضهم، وكتبت بأمر الحكّام الجائرين (المؤلّف).
  • 28. مقدّمة الموطأ لمالك 1: 26، تحقيق: محمّد فؤاد عبدالباقي، سنن الدارمي 1: 126، وفي تاريخ الخلفاء للسيوطي: 241، وكنز العمال 1: 332 عن حاطب بن خليفة البرجمي قال: (شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو خليفة، فقال في خطبته: ألا وإنّ ما سنّ رسول اللّه وصاحباه فهو دين نأخذ به وننتهي إليه…).
  • 29. بصائر الدرجات: 319، بحار الأنوار 2: 172 ح3.
  • 30. أصول الكافي 1: 53 ح14، بحار الأنوار 2: 179 عن منية المريد: 373.
  • 31. قال ابن حجر في الصواعق 2: 440 “ثمّ اعلم أنّ لحديث التمسك بذلك طرقاً كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابياً… وفي بعض تلك الطرق أنّه قال ذلك بحجّة الوداع بعرفة، وفي أُخرى أنّه قاله بالمدينة في مرضه وقد امتلأت الحجرة بأصحابه، وفي أُخرى أنّه قال ذلك بغدير خم، وفي أخرى أنّه قال لما قام خطيباً بعد انصرافه من الطائف… ولا تنافي إذ لا مانع من أنّه كرّر عليهم ذلك في تلك المواطن وغيرها اهتماماً بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة”.وجاء في نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار 2: 226 انّ حديث الثقلين روي عن (34) صحابياً.وبما أنّ حديث الثقلين له هذه الطرق المتعدّدة فيكون متواتراً، لصدق ضابط التواتر عليه، وهو أن ينقله من يحصل العلم بصدقهم، أو أن ينقله كثير بحيث يمتنع تواطئهم على الكذب، وهذا صادق على حديث الثقلين; لأنّ له أكثر من 34 طريقاً، بل نجدهم حكموا بتواتر كثير من الأخبار التي لم تصل عدد رواتها إلى نصف هذا المقدار، ومن شاء فليرجع لكتاب (النظم المتناثر من الحديث المتواتر) للكتاني، ويرى ذلك بنفسه.وقد ذكرنا سابقاً أنّ حديث الثقلين له طرق متعدّدة، وألفاظ متقاربة; لأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكره في مناسبات متعدّدة، وقد رواه مسلم في صحيحه أيضاً، وعليه فما ذكره في كشف الجاني: 170 من أنّ حديث الثقلين غير متواتر ناشئ من عدم معرفة أقسام الحديث ومعرفة المتواتر من الآحاد، وما ذكره أيضاً حول رواية مسلم لحديث الثقلين بلفظ يختلف عمّا ذكره المؤلّف ما هو إلاّ تغطية وهروب من الإشكال الذي عجز أهل السنّة عن حلّه: وهو لماذا خالفتم وصية النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بالكتاب والعترة، فتركتم أهل البيت وتمسكتم بالسنّة الأموية المعادية للقرآن والعترة الطاهرة؟!وفي الواقع إنّ حديث الثقلين كان وما زال يسبب أزمة كبيرة للمذهب السنّي الذي خالفه بكلّ صراحة وجرأة، وما زال علماء المذهب السنّي عاجزين عن الإجابة عن ذلك، وما زال أبناء المذهب السنّي يكتشفون الحقيقة في أحقّية أهل البيت بواسطة حديث الثقلين، فما يذكره عثمان الخميس وغيره ما هو إلاّ اعتراف بالفشل وعدم إيجاد الجواب المقنع لمخالفة حديث الثقلين.
  • 32. راجع مصادر الحديث بألفاظه المختلفة: مسند أحمد 3: 14 ومواضع أُخر، المستدرك للحاكم 3: 109 وصحّحه، مسند ابن الجعد: 397، كتاب السنّة لابن أبي عاصم: 630 ح1554، السنن الكبرى للنسائي 5: 45، مسند أبي يعلى 2: 303 ح1027، تفسير ابن كثير 4: 122 وصحّحه، الطبقات لابن سعد 2: 194، السيرة النبويّة لابن كثير 4: 416 وقال: “قال شيخنا أبو عبد الله الذهبي: وهذا حديث صحيح” وغيرها من المصادر.
  • 33. الشيعة هم أهل السنة ، تأليف الدكتور محمد التيجاني السماوي ، تحقيق و تعليق مركز الأبحاث العقائدية .
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى