كان يعرف الطريق المعهود للحكم في الكوفة وفي غيرها، وقد قال حينما بدأت حركات التمرد تتكاثر ضد حكمه: «إني لعالم بما يصلحكم ويقيم لي أودكم»، لكن عليّاً لم يكن ليفعل ذلك، أو يرتكب ما يشين قِيَمه ومبادئه ويفضي بروحه إلى الفساد والمفسدة، ولذلك أكمل عبارته السابقة «ولكني لا أصلحكم بفساد نفسي».
بين الدولة والقيم ينتصر عليٌّ للقيم والمبادئ، ولا يكترث كثيراً للحكم. لقد جرّب البعد عنه لأكثر من خمسة وعشرين عاماً، فما ازداد له حبّاً ولا به تعلقاً، وحين وصله وجده أهون عليه من أن يتشبث به «ولألفَيْتُم دُنياكُم هذه أَزهدَ عندي من عَفْطَةِ عَنْز».
كان بإمكان عليٍّ أن يجرب دواء أهل الكوفة وغيرهم بعدد بسيط من المشانق والرؤوس التي تتدلى عليها، وكان ذلك كفيلاً بزرع الخوف وإلقاء الرعب في نفوسهم، لأنهم سيشعرون بالخطر وسيرون الموت أقرب إليهم من أي أمر آخر، وسيسرعون لرضاه وطاعته، لكنه لم يفعل، ربما لقلة اكتراثه بالدنيا، ولأنه وضع العاقبة أمامه في الآخرة.
الضعف المحمود في شخصية عليٍّ هو أنه يخاف الدماء، فلذتها في الحرب مع العدو تختلف تماماً عن أمرها في صراع الحكم والسلطة، لذلك لا يَسِلُّ سيفه حتى يُجبر، ولا يحارب حتى يُهاجم، ولا يستمر وهو يرى في الحلول البديلة نجاة من أنهار الدماء.
دماء طلب الحق تختلف كثيراً عن دماء طلب الحكم، والفارق بينها هو قيمية الصراع في الأولى ودونية الصراع في الثانية، فهي في الأولى عروجٌ إلى الله وقتالٌ في سبيله، وفي الثانية قتالٌ من أجل الدنيا ومناصبها.
قد ينصرف ذهن القارئ حين أتحدث عن القتال من أجل المناصب، إلى منصب الحكم وإدارة البلاد فقط، وفي ذلك ظلمٌ واضحٌ لأنفسنا، فنحن نتقاتل على المناصب وعلى الزعامة وعلى المكانة، وننتهك الكثير من الحرمات والمحرمات، لأننا وبكل بساطة نريد فرض أنفسنا في كل فرصة نرى أنها في متناول أيدينا، ولا نقبل أن ينازعنا عليها أحد، سواءً كانت الفرصة والموقع دينيّاً أو دنيويّاً.
أحياناً نتقاتل على مسجدٍ أو على منبرٍ للخطاب الديني، وعلى مرشح انتخابات وعلى رأي سياسي، وعلى تمثيل نريده خالصاً لنا، وعلى فتات الفرص التي تلقى بين أيدينا، ولو أتيح لنا أمر أكبر من ذلك، لوجدنا من المبررات ما يسوغ خصامنا وتقاتلنا.
«لعمري لقد أعددتما سلاحاً وخيلاً ورجالاً، إن كنتما أعددتما عند اللـه عذراً فاتَّقيا الله سبحانه ولا تكونا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً. ألم أكن أخاكم في دينكما، تحرِّمان دمي وأحرِّم دماءكما؟ فهل من حدث ما أحلّ لكما دمي». هكذا يتحدّث عليٌّ مع اثنين من إخوانه من موقع الدين، وموقع النصح، وموقع التذكير.
ويرسل عبدالله بن عباس إلى أحدهما قبل وقوع الحرب ليستفيئه إلى طاعته، فيقول له: «لا تلقين فلاناً. فإنك إن تلقه تجده كالثور عاقصاً قرنه، يركب الصعب ويقول: هو الذلول، ولكن ألق (صاحبه) فإنه ألين عريكةً فقل له: يقول لك ابن خالك. عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق. فما عدا مما بدا»، وهو هنا تذكير بالقرابة والنسب والدم الواحد.
ويتحرك عليٌّ في مواقفه من موقع القيم إلى موقع النصح والتذكير، ثم إلى موقع القرابة، وأخيراً محاولة الفرار من الدماء والحروب إلى الصلح والصبر والتحمل.
فحينما أراد علي الخروج من الربذة إلى البصرة قام إليه ابن لرفاعة بن رافع، فقال: «يا أمير المؤمنين، أي شئ تريد؟ وإلى أين تذهب بنا»؟ فقال: «أما الذي نريد وننوي فالإصلاح، إن قبلوا منا وأجابونا إليه»، قال: «فإن لم يجيبوا إليه»؟ قال: «ندعهم بعذرهم ونعطيهم الحق ونصبر»، قال: «فإن لم يرضوا»؟ قال: «ندعهم ما تركونا»، قال: «فإن لم يتركونا»؟ قال: «امتنعنا منهم».
أحببت عزيزي القارئ في ذكرى شهادة علي أن تستحضر موقفه وهو مريض ومسجى يوصي أولاده بقاتله «انظروا إذا أنا متُّ من ضربتي هذه فاضربوه ضربةً بضربة، ولا يُمثّل بالرجل، فإني سمعت رسول الله: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور». وعندما يؤتى إليه بقدح اللبن يقول لأولاده «خذوه لأسيركم، أطعموه مما تأكلون واسقوه مما تشربون. الله الله في أسيركم». وتضم إلى هذه المواقف مواقفه وهو في موقع القوة والحكم، فهل تراه إلا جوهراً لامعاً؟ وهل تراه إلا طهراً لا تدنسه مغريات الحكم ولا مفاسد السلطة1؟
- 1. سماحة الشيخ محمد الصفار (حفظه الله)، نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ حسن الصفار (حفظه الله)، و المقالة منشورة في صحيفة الوسط البحرينية 22 / 8 / 2011م – 7:28 ص – العدد 3271 – الموافق 22 رمضان 1432هـ.