لقد زودنا القرآن الكريم بمعلومات في غاية الدقة والاحكام عن قوم مدين، وكيف ان شعيباً دعاهم الى عبادة الله “عزوجل”، وما دار بينهم وبين النبي شعيب من جدال استأثر بخمس وثلاثون آية، بل ان القران نص على اسم شعيب في احد عشر مرة من سبع سور من القران، كما اوضح لنا طريقتهم في محاججة النبي شعيب واعراضهم عن دعوة التوحيد .
واضف الى ذلك ان الله “عزوجل” اشار الى انهم كانوا أسوا الناس معاملة فهم يبخسون المكيال والميزان ويطففون فيهما فيأخذون بالكثير ويدفعون بالقليل، ويقطعون السبيل ويخيفون المارة.
وتكمن أهمية هذا المقال في انه يبحث في موضوع من موضوعات القرآن الكريم يتوقف عليه بقاء الامم وارتقاؤها، او سقوطها وانحدارها، وهو موضوع الآدب والاخلاق، ولاسيما واننا في زمان ضُيَعت فيه القيم، وهُمشَت فيه الآدب والأخلاق، ولذلك يظهر في قصة النبي شعيب “عليه السلام” كثير من آداب تعامل الداعية مع المدعو .
وفي الوقت نفسه، ان نبي الله شعيب “عليه السلام” لقب بخطيب الأنبياء، وذلك لما أعطي من منطق وأسلوب لين، وقد بعثه الله تعالى الى أهل مدين الذين عصوا ربهم بالكفر وبالتطفيف في المكيال والميزان[1]، ولم يصدر منهم تجاه نبيهم سوى التكذيب والاستهزاء كما ورد في قوله تعالى:﴿ قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾[2] ، ورغم كل هذا كان النبي شعيب “عليه السلام” مثالاً يحتذي به في الصبر على الحق والحرص على مصالح العباد، ونذكر من الآداب التي أظهرها “عليه السلام” في دعوته نبينها في ثلاث مطالب . كما يلي:
اولاً:- مكافحة الفساد
يجب على الداعية اولاً أن يلتمس مواضع الخلل والضعف عند المدعوين، وان هذا الخلل ان لم يعالج فستنحرف الى الضلال، فقدوتنا في هذا المجال هو نبي الله شعيب “عليه السلام” الذي علم فساد قومه وغشهم في المكيال وظلمهم الناس، فقال لهم :﴿ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾[3] ، تؤكد الروايات التاريخية كان المعتاد عند أهل مدين هو البخس في الكيل والوزن، اذ دعاهم شعيب الى ترك هذه العادة، وان انقاصهم في الوزن كان على وجهين، أحدهما ان يكون الاستنقاص من قبلهم فيكيلون ويزنون للغير ناقصاً، والوجه الآخر هو استيفاء الكيل والوزن لأنفسهم زائداً عن حقهم فيكون نقصاُ في مال الغير، وكلا الوجهين مذموم[4]، فنهاهم النبي شعيب عن ذلك بقوله :﴿ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ﴾[5] ، ويتضح من الآية القرآنية ان النبي شعيب اكد لقومه، أن هناك رادعين يجب أن يردعاكم عن معصية الله: أحدهما: أنكم في خير ولا حاجة لكم إلى بخس أموال الناس من غير سبيل حلها. وثانيهما: أن وراء مخالفة أمر الله يوما محيطا، اي يوم القيامة أنه لا مخرج منه ولا مفر ولا ملاذ من دون الله فلا يدفع فيه ناصر ولا معين، ولا ينفع فيه توبة ولا شفاعة، ويؤل معنى الإحاطة إلى كون العذاب قطعيا لا مناص منه.[6]
وتجدر الاشارة الى ان التطفيف في المكيال ظلمّ، ولهذا بعث الله نبياً ينهي عن اتيانه، ولولا هذه الاهمية لما ادرج الله تعالى تحريمه والويل لفاعله في السور المكية منها على سبيل المثال لا الحصر سورة المطففين وهود. وقد سعى النبي شعيب الى مكافحة هذه الآفة التي تمس نظافة القلب واليد، كما تمس المروءة والشرف، وبذلك يمكن القول ان النبي شعيب عليه السلام اراد ان يؤكد لقومه ان عقيدة التوحيد هي في الاساس مرتبطة بالأمانة ونظافة القلب وعدالة المعاملة وشرف الأخذ والعطاء، ومكافحة السرقة الخفية سواء قام بها الافراد ام قامت بها الدول فهي بذلك ضمانة لحياة انسانية أفضل[7] .
ثانيا: وضوح الهدف :
كان لشعيب “عليه السلام” هدف واضح ومحدد لا غبار عليه، فقد اعلن عنه امام قومه في قوله تعالى :﴿ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ…﴾[8] ويستفاد من هذه الآية أنّهم كانوا يتهمون شعيباً بأنّه كان يريد الربح لنفسه، ولهذا فهو ينفي هذا الموضوع، ويقول ليس لي هدف دنيوي فغايتي هي ان أصلحكم بموعظتي ونصيحتي، وهذا هو هدف الأنبياء جميعاً، حيث كانوا يسعون إِلى إِصلاح العقيدة، وإِصلاح الأخلاق، وإِصلاح العمل، وإِصلاح العلائق والروابط الاجتماعية وأنظمتها. يقول صاحب كتاب تفسير الميزان في تفسيره للآية :” انهم لما سمعوا من شعيب الدعوة إلى ترك عبادة الأصنام والتطفيف،ردوه بأن ذلك اقتراح منه مخالف لما هم عليه من الحرية الإنسانية التي تسوغ لهم أن يعبدوا من شاءوا و يفعلوا في أموالهم ما شاءوا.
فرد عليهم شعيب بأن الذي يدعوهم إليه ليس من قبل نفسه حتى ينافي مسألتهم ذلك حريتهم، ويبطل به استقلالهم في الشعور والإرادة، بل هو رسول من ربهم إليهم وله على ذلك آية بينة، والذي أتاهم به من عند الله الذي يملكهم ويملك كل شيء وهم عباده لا حرية لهم قباله، و لا خيرة لهم فيما يريده منهم. وعلى أن الذي ألقاه إليهم من الأمور التي فيها صلاح مجتمعهم وسعادة أنفسهم في الدنيا والآخرة، وأمارة ذلك أنه لا يريد أن يخالفهم إلى ما ينهاهم عنه بل هو مثلهم في العمل به، و إنما يريد الإصلاح ما استطاع، ولا يريد منهم على ذلك أجرا إن أجره إلا على رب العالمين”[9] .
اذن لا بد للداعية ان يكون له هدف سام محدد يرنو اليه، سواءً كان ذلك الهدف معلناً أمام المدعوين او لم يكن، ويسعى الى تحقيقها على شريحة معينة من المدعوين، فيقوم بالتخطيط المنظم والدعوة الموجهة المركزة تجاه تلك الفئة حتى يحقق أهدافه المرجوة.
ثالثاً: اجتناب وقوع الداعية فيما ينهى عنه :
ان من اهم ما يجب ان يراعيه الداعية هو الأدب، وقدوته في ذلك انبياء الله تعالى”عليهم السلام” ،حيث يقول الله تعالى على لسان النبي شعيب “عليه السلام” حين خاطب قومه ﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾[10]
ومن الجدير بالإشارة، ان هذه الآية القرآنية مهمّة، كيف يستطيع الداعية لله تعالى أن يؤثِّر في مجتمعه ويقنعهم، إن لم يطبّق كلامه على نفسه ؟ ما الذي يضع الدعاة اليوم في مواقف لا تقدير لهم ولا احترام ؟ هو أنَّ كلامهم شيء، وسُّلوكهم شيءٌ آخر ، ما يقولونه بألْسِنَتِهم لا يُطَبِّقونه بأفعالهم ، لذلك قال أمير المؤمنين “عليه السلام” لجابر بن عبدالله الأنصاري: ” يا جابر، قوام الدين والدنيا بأربعة: عالم مستعمل علمه، وجاهل لا يستنكف أن يتعلم، وجواد لا يبخل بمعروفه، وفقير لا يبيع آخرته بدنياه، فاذا ضيع العالم علمه استنكف الجاهل أن يتعلم، وإذا بخل الغني بمعروفه باع الفقير آخرته بدنياه“[11].
وعليه ان شعيباً “عليه السلام” قال لهم لا اريد ان انهاكم ثم أذهب من خلفكم فافعل ما نهيتكم عنه لأحقق لنفسي نفعاً به ، وذلك ان الادب يعد من اكثر الامور تأثيرا في المدعوين، فكيف يتوقع ان يتوب المدعو من الكذب او الغيبة وهو يرى الداعية يرتكبها! لا بد من وجود المصداقية عند الداعية حتى لا يكون ممن يقول الله تعالى فيهم ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾[12] فهذه الآية استفهام على جهة الانكار والتوبيخ، فكيف يقول الانسان عن نفسه من الخير ما لا يفعله. وذلك ينبغي أن ترى الدِّين في الأسواق وفي البيع والشراء، وفي الإيجار والاستئجار، وفي الوعد والعهد ، وبين الزوج وزوجته، وبين الأخ وأخيه، والجار وجاره ، وفي السَّفر والحضر، وفي كل نشاطات الحياة ، يجب أن ترى الدّين هنا ، ومن لم يكن له ورعٌ يصدّه عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله بشيء من عمله[13] .
نستنتج من ذلك ان التطفيف بالميزان والكيل وعدم مخافة الله تعالى هو سبب في هلاك الأمم والشعوب والافراد والجماعات، وانه يعد من الظلم والله حرم الظلم على نفسه، كذلك يتضح من قصة النبي شعيب ان الظلم اذا دام فأن نتيجته الى الخسران والى الهلاك فكم من قرية ذكرت في القران الكريم كان سبب تدميرها هو ظلم أهلها .
اضف الى ذلك، ان عدم الايمان بما جاء به الرسل في التوحيد والشرك بالله يعد جرم خطير يستحق عذاب الله بان سلط الله عليهم جنودا من عنده فسينالهم سوء العذاب وغضب الرحمن ، كذلك اتخاذ الجبابرة والعصاة اولياء لهم يؤدي الى هدم المجتمع وتفسيخه وبالتالي تؤدي بإصحابها الى نار جهنم.
جعفر رمضان
[1] للمزيد من التفاصيل ينظر. لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، تاريخ الرسل والملوك،( بيروت: دار الكتب العلمية ،1407ه) ،ج1، ص228.
[2] سورة هود ، الآية 87
[3] سورة هود، الآية 85
[4] عبد الله زاهد، السسن الالهية في الامم والجماعات،( بيروت: دار الفكر للنشر والتوزيع،1969)، ص
[5] سورة هود، الآية 84.
[6] محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان،(بيروت: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات،1417ه) ، ج ١٠ ، ٣٦٢
[7] للمزيد من التفاصيل ينظر: سيد قطب ، في ظلال القرآن،(القاهرة: مطبعة البابي الحلبي وشركاؤه ،د.ت)، ج4، ص1917.
[8] سورة هود، الآية 88
[9] محمد حسين الطباطبائي ، المصدر السابق، ج1،ص 358
[10] سورة هود، الآية 88
[11] محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، (بيروت: مؤسسة الوفاء للطباعة،1983)،ج74،ص 418.
[12] سورة الصف، الآية 2-3.
[13] للمزيد من التفاصيل ينظر. (شبكة المعلومات الدولية)، www.nabulsi.com