الباحث: عمار حسن الخزاعي
الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين وبعد:
المقام، هو ((جملة الظروف الحافَّة بتولد النص))([1])، من متكلم وسامع وظروف وعلاقات اجتماعية، وما ورد من الأحداث في الماضي والحاضر، ثمّ المعتقدات والتراث والعادات والتقاليد([2])، وهو ليس إطاراً ولا قالباً، وإنّما هو جملة الموقف الاجتماعي المتحرك، الذي يعدُّ المتكلم جزءاً منه، وكذلك السامع والكلام نفسه، وغير ذلك مما له اتصال بالمتكلم([3]).
وقد أخذ المقام سمة الهيمنة في الدِّراسات اللغوية التواصلية في الآونة الأخيرة؛ لما له من أثرٍ على المتكلِّم في اختياره لأدواتٍ معينة من دون أخرى من أجل التعبير عن مقاصده([4]) . ومن هذا المنطلق سندرس لفظة دلالة لفظة (الولي) في حديث الغدير في ضوء المقام الذي أُنتج به من أجل محاولة الوصول إلى قصدية الرسول محمَّد (صلى الله عليه وآله).
في البدء أنَّنا نقرُّ أنَّ لفظة (الولي) في اللغة تحمل دلالات متعدِّدة منها: الصاحب والصديق والمحب والعبد والسيد، وكذلك الولي بمعنى الخليفة والحاكم، إلَّا أنَّنا لو تتبعنا المقام الذي ورد به الحديث واستحضرنا الظروف التي صاحبت انتاج هذا الحديث لتوصَّلنا بشكلٍ يقيني إلى دلالة واحدة لا غير وهي أنَّ الرسول (محمد صلى الله عليه وآله) كانت مقصديته من هذا الحديث تنصيب علي بن أبي طالب (عليه السلام) إمامًا للأمَّة من بعده . ولهذا الأمر جملة من المعطيات: منها
أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لمَّا عاد من الحجِّ وقف في مفترق الطرق وجمع النَّاس إليه في مكان يُسمَّى غدير خم، فخطبة خطبةً تناول بها جملة من الأمور منها: أنَّه نعى نفسه الزكية، ثمَّ سأل المتجمهرين عن مدى تبليغه للرسالة فأقرُّوا جميعًا بأنَّه بلَّغ عن الله تعالى تمام التبليغ، ثمَّ ذكَّرهم بجملةٍ من الأحكام منها: ((أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن جنته حق وناره حق، وأن البعث حق بعد الموت، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور؟ قالوا: بلى نشهد بذلك، قال: اللهم اشهد))([5]) .
إلى هنا فالنبي (صلى الله عليه وآله) تكلَّم في الشهادتين ويوم القيامة والجنة والنار والبعث، وهذه من أهم العقائد، وهي مقدِّمة تستدعي أن يكون بعدها أمر عظيم، وقد بدأه بالحضِّ ((على التمسك بكتاب الله ووصى بأهل بيته، أي فقال: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض))([6]) .
ثمَّ بعد ذلك: ((أَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ [عليه السلام]، فَقَالَ: “أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؟” قَالُوا: بَلَى، قَالَ: “أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ؟ “قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَأَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ، فَقَالَ: “مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ، فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ”))([7])، ((وأحب من أحبه، وابغض من أبغضه، وانصر من نصره، وأعن من أعانه، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار))([8])، وفي بعض المصادر أنَّه كرَّر قوله: ((أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؟)) ثلاث مرات([9]) . ثمَّ إنَّ عمر بن الخطاب قام فقال لعليٍّ (عليه السلام): ((هَنِيئًا يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ، أَصْبَحْتَ وَأَمْسَيْتَ مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ، وَمُؤْمِنَةٍ))([10]). وهذا حديث صحيح ورد بأسانيد صحاح وحسان، ولا التفات لمن قدح في صحته([11]).
فالمتتبع لسياق المقام التخاطبي لحديث النبي محمد (صلى الله عليه وآله) يفترض أنَّ النبي(صلى الله عليه وآله) إزاء حدثٍ عظيم استدعى منه الوقوف في هذه المنطقة وجمع المسلمين إليه، ثمَّ خطبته التي بدأها بنعي نفسه، وببيان أهم العقائد، كلُّ ذلك يستدعي أنَّه بصدد الكشف عن أمرٍ دينيٍّ شديد الأهمية، وهذه المعطيات تتناسب مع تنصيب الخليفة من بعده، وإلَّا فإنَّ، الأمر لا ينسجم ألبته مع أن يكون النبي (صلَّى الله عليه وآله) بصدد قول من كنت أنا صديقه أو حبيبه فعليٌ كذلك، ولا يستقيم هذا المعنى مع مقدِّمة النبي (صلَّى الله عليه وآله): ((أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؟))، فهل كان النبي (صلى الله عليه وآله) يقصد أنَّه صديقهم أو صاحبهم؟! أم كان يقصد أنَّه أولى بهم بالسمع والطاعة والأمرة عليهم. وممَّا يدلِّل على أنَّ الصحابة فهموا أنَّ النبي محمد (صلى الله عليه وآله) كان بصدد تنصيب الخليفة من بعده أنَّه ((لمَّا شاع قوله صلى الله عليه وسلم «من كنت مولاه فعليّ مولاه» في سائر الأمصار وطار في جميع الأقطار، بلغ الحارث بن النعمان الفهري، فقدم المدينة فأناخ راحلته عند باب المسجد، فدخل والنبي صلى الله عليه و[آله] جالس وحوله أصحابه، فجاء حتى جثا بين يديه، ثم قال: يا محمد إنك أمرتنا أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلنا ذلك منك، وإنك أمرتنا أن نصلي في اليوم والليلة خمس صلوات ونصوم شهر رمضان ونزكي أموالنا ونحج البيت فقبلنا ذلك منك، ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك ففضلته، وقلت: من كنت مولاه، فعلي مولاه، فهذا شيء من الله أو منك؟ فاحمَّرت عينا رسول الله صلى الله عليه و[آله] وقال: والله الذي لا إله إلا هو إنه من الله وليس مني، قالها ثلاثا، فقام الحارث وهو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك» وفي رواية «اللهم إن كان ما يقول محمد حقا «فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال: الآية 32]، فو الله ما بلغ باب المسجد حتى رماه الله بحجر من السماء فوقع على رأسه فخرج من دبره فمات، وأنزل الله تعالى “سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ” [المعارج: الآية 1- 2]))([12]).
ففهم المتلقي في ذلك العصر وإدراكه لمعنى كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) إحدى الوسائل المهمَّة التي يعتمد عليها المقام في الكشف عن دلالة الخطاب. ويؤيِّد هذا المعنى مناشدة أمير المؤمنين (عليه السلام) للصحابة في رحبة الكوفة عن هذا الحديث بقوله: ((أنشد الله من ينشد يوم غدير خمّ إلا قام، ولا يقوم رجل يقول أنبئت أو بلغني إلا رجل سمعت أذناه ووعى قلبه))([13])، فَقَامَ نَاسٌ كَثِيرٌ فَشَهِدُوا([14])، منهم ((اثْنَا عَشَرَ بَدْرِيًّا))([15])، ((وعن زيد بن أرقم: وكنت ممن كتم، فذهب الله ببصري، وكان علي كرم الله وجهه دعا على من كتم))([16]) .
فالمقام الذي أُنتج به حديث الغدير يفرز دلالة واحدة للفظة (الولي) ويُقيد هذه اللفظة بمعنى واحدٍ لا غير، وهو الدال على ولاية الأمر دون بقية المعاني الأخرى، بدليل الظروف التي صاحبت حديث الغدير من معطيات الزمان والمكان، وكذلك معطيات السياق اللغوي واختيار المقدمات التي تنصُّ على دلالةٍ بعينها، وأخيراً انتشار الحديث بشكل ملفت ممَّا يدلُّ على أنَّه يحمل أمراً عظيماً، وكذلك فهم الصحابة له، والمعجزة التي أصابت من كذَّبه الحارث بن النعمان الفهري، أو من كتمه وهو زيد بن أرقم . كلُّ ذلك يوحي بشكلٍ قاطع لذي لبٍ وقلبٍ سليم بأنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) كان بصدد تنصيب خليفة من بعده يتولَّى أمر الأمة.
الهوامش:
([1]) التفكير البلاغي عند العرب أسسه وتطوره إلى القرن السادس، حمادي صمود، (د.ط)، منشورات الجامعة التونسية، (د.ط)، 1981م: 201.
([2]) ينظر: اللغة العربية معناها ومبناها، تمام حسان، عالم الكتب، القاهرة، ط5، 2006م: 352.
([3]) المصدر نفسه: 346.
([4]) ينظر: تحليل الخطاب، ج. براون وج. سيرل، ترجمة وتعليق محمد لطفي الزيلعي ومنير التريكي، جامعة الملك سعود للنشر العلمي السعودية، (د.ط)، 1997م: 32.
([5]) السيرة الحلبية إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون، علي بن إبراهيم بن أحمد الحلبي، أبو الفرج، نور الدين ابن برهان الدين (المتوفى: 1044هـ)، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الثانية – 1427هـ: 3/384 .
([6]) المصدر نفسه .
([7]) مسند الإمام أحمد بن حنبل، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (المتوفى: 241هـ)، شعيب الأرنؤوط – عادل مرشد، وآخرون، إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1421 هـ – 2001 م: 30/430.
([8]) السيرة الحلبية إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون: 3/384 .
([9]) المصدر نفسه .
([10]) مسند الإمام أحمد بن حنبل: 30/430.
([11]) السيرة الحلبية إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون: 3/384 .
([12]) المصدر نفسه .
([13]) المصدر نفسه .
([14]) مسند أحمد بن حنبل: 32/56 .
([15]) المصدر نفسه .
([16]) السيرة الحلبية إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون: 3/385 .
المصدر: http://inahj.org