الحجّ فريضة عباديّة عظيمة تحمل في جنباتها رسائل ومقاصد وأهداف عديدة؛ حيث نلاحظ الامتدادات والتأثيرات المتعدّدة لها على الجانب الروحي والأخلاقي والتربوي، وعلى الجانب الاجتماعي والسياسي، وعلى جوانب أخرى أيضاً، من المناسب القيام بجولة مختصرة حول بعض الأهداف والرسائل والمقاصد الكامنة وراء هذه الفريضة، حيث يمكننا الإشارة إلى ثلاث منها:
1ـ الرسالة الروحيّة
إذا أردنا أن نقسّم حجّاج بيت الله الحرام تقسيماً عامّاً، فيمكن أن نجعلهم على قسمين:
القسم الأوّل: الحجاج الذين ينصبّ جلّ اهتمامهم على مراعاة الضوابط الشرعيّة الفقهيّة؛ فحينما يريد حاجّ هذ القسم الطوافَ حول الكعبة الشريفة فإنه يبذل قصارى جهده في عدم انحراف يساره عن الكعبة، وأن لا تجرفه الحشود يميناً أو يساراً بحيث يخالف الشرط الفقهي المذكور، وحينما يرتئي السعي بين الصفا والمروة يظلّ متجهاً نحوهما أثناء السير دون تعرّج يخالف الشرط الفقهي المذكور، كما نجده حين رمي الجمرات مركّزاً على إصابة حصاه للجمرة، وخاصّةً النقطة القديمة بعد التوسعة الأخيرة على مبنى بعض الفقهاء، فهذا الحاجّ يعيش الهمّ الفقهي للحجّ مهتماً بتطبيق الأحكام الشرعيّة الفقهيّة المنصوص عليها في هذه الفريضة، وأن لا يتوّرط في صدور ما يوجب منه كفّارةً شرعيّة مثلاً.
فإذا سألت حاجّ هذا القسم عن الشيء الذي شغل باله وهو يطوف حول الكعبة فسيكون جوابه: إنّ الذي شغل بالي هو أن تكون الكعبة عن يساري؛ وإذا سألته: ما الذي شغل بالك في المزدلفة؟ فيكون التفتيش عن نوعيّة الحجر، واستحباب شكل خاصّ له حسب الشروط المذكورة في محلّه هو الشاغل له؛ وإذا قلت له: هل شعرت في أعماق قلبك بوجود حالة روحيّة تجذبك نحوه تعالى؟ وهل دخلت الخشيةُ قلبَك وأنت تقوم بالأعمال؟ فسيقول لك: ربما لم أتأثر كثيراً ولم ينتابني مثل هذا الشعور. وإذا سألته: ما الذي حصل لك في عرفة؟ فسيكون الجواب هو قراءة الدعاء فقط والانتظار في الخيمة ليحلّ الغروب كي نفيض إلى المزدلفة ونحن في نقاش وحوار، وهكذا الإحساس في بقيّة الأعمال الأخرى في هذه الفريضة1.
القسم الثاني: الحجاجّ الذين لا يلتفتون كثيراً إلى المسائل الفقهيّة، ولا يرون للضوابط الشرعيّة الفقهيّة اعتباراً هامّاً دقيّاً؛ حيث نجد حاجّ هذا القسم يطوف حول الكعبة كيف ما شاء، كما ويرمي بأيّ طريقةٍ، دون التركيز على إصابة الجمرة أو عدم إصابتها، وغير آبهٍ بكلّ هذه التفاصيل، ويبرّر ذلك بكون الغرض الأساسيّ من الحجّ بالنسبة له هو عبارة عن العيش مع الله سبحانه وتعالى وقراءة الأدعية والأذكار في المواطن المعيّنة.
ويمكن أن نصطلح على القسم الأوّل بـ«الحج الفقهي»، وعلى الثاني: بـ «الحج الروحي».
والصحيح: إنّ رسالة الحجّ لا ينبغي الاقتصار فيها على قسمٍ واحد من القسمين المتقدّمين، وإنما أراد الدين والشريعة الجمع بينهما، أي المحافظة على الحالة الروحيّة في الحجّ، وفي الوقت نفسه لابد من الانضباط في المسائل الفقهيّة المنصوص عليها في هذه الفريضة.
لقد ركّزت الشريعة المقدّسة على الجانب الروحي الذي ينبغي على الحاجّ أخذه بعين الاعتبار وهو يمارس طقوس هذ الفريضة الهامّة؛ فلو أردنا التأمّل في الحجّ الفقهيّ فسنلاحظ أنّ ذكر الله تعالى لا يتجاوز عندهم في هذه الفريضة سوى مرّات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة2، بينما نجد أنّ الآيات الكريمة في هذا الموضوع تنصّ على ما يلي: ﴿ … فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ﴾ 3؛ وتنصّ أيضاً: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ﴾ 4؛ فقد كانت العرب بعد أداء المناسك تجتمع وتلتقي وتتفاخر بآبائها وقبائلها وعشائرها، فأراد القرآن أن يلغي هذه الحالة الفكريّة في العشيرة والقبيلة والانتماء الصغير من هنا وهناك، لكي يكون الجميع في انتماءٍ واحد هو الله سبحانه وتعالى، لهذا طلب منهم ذكر الله أكثر من ذكرهم الانتماءات الاجتماعيّة من هنا وهناك.
وفي الحقيقة، فإنّ الرسالة الأساسيّة التي تنصّ عليها تعاليم السماء هي ضرورة ذكر الله تعالى والغوص في معاني هذه الحركات الظاهريّة؛ فربما يمكن للبعض أن يفهم أسرار بعض العبادات كأن يقال مثلاً: إن عباديّة الخمس والزكاة والكفارات5لكونها مساعدة للفقراء والمساكين وتقوية الحالة الماديّة للمجتمع الإسلامي ودفع مصالحه العامّة، ولكنّ بعض العبادات لا تحمل مثل هذا الوضوح في المعاني كما في الفريضة محلّ حديثنا، فما معنى الطواف حول بناءٍ يرتفع بضعة أمتار؟ وما هو السرّ وراء رمي الجمار على جدار أو عمود يقال عنه إنّه الشيطان؟ وما هو السرّ في السعي بين الصفا والمروة بمقدار 425 متراً تقريباً ذهاباً وإياباً؟!
هذا كلّه يؤكّد أنّ العبادات التي لا تبدو واضحة المعاني تحمل رسائل ينبغي على الإنسان استذكارها في حالة الارتباط الروحي بينه وبين الله سبحانه وتعالى؛ فعندما يقوم الحاجّ برمي الجمرة فعليه استذكار تلك الواقعة الإبراهيميّة، ليس لكونها حدثاً تاريخيّاً صرفاً قد مرّت عليه السنون والأيام، وإنّما لاستلهام العبرة منها ليحدّث نفسه ويُشعرها وكأنّها في مواجهة الشيطان، فيقوم بدورة تدريبيّة روحيّة، وحينما يرمي الجمرات فلابد أن يستحضر حالة تسويل الشيطان له وما أوقعه فيه ـ خلال سنوات عمره الطويلة ـ من المآزق والانحرافات عن خطّ الله تبارك وتعالى، وحينما يقوم برميه فهو يقوم بطرده من أعماق روحه وذاته.
ينبغي أن يعيش الحاجّ هذه الحالة وهو يمارس طقوس الحجّ الاعتياديّة، وعليه أن يسأل نفسه عن الفرق بين رمي ذلك الحائط الذي يقع في منى والحائط الذي أمامه ليخلص إلى هذه النتيجة: إنّ الحائط الذي أمامه حائطٌ عاديّ لا يحمل أيّ معنى وراء رميه، ولكنّ ذلك الحائط يحمل في جنباته معانٍ عدّة تتلخّص في: استذكار تلك الحالة الإبراهيميّة كي يتمثّل الحاجّ بتلك الشخصيّة التي مارست الرمي لتطرد الشيطان وتبغضه من حاقّ إرادتها، وإذا لم يستطع أن يصل الحاجّ إلى مقام إبراهيم عليه السلام ومنزلته فهو يستطيع ـ دون شكّ ـ الوصول إلى مقامٍ أدنى، وكما قال الإمام عليّ عليه السلام: (أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَ اجْتِهَادٍ وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ)6، فمن خلال المحاولة والإصرار يمكن للحاجّ أن يصل إلى ذلك.
وكذا الحال في الطواف حول الكعبة، فهو في ظاهره ليس إلا حركةً دائريّة، لكن يمكن للحاجّ أن يستشعر بهذه الحركة معانٍ روحيّة عظيمة؛ فالكعبة تقع في نقطة مركزيّة في مدينة مكّة القديمة وتنبئ كلّ خطوة منها بخطوات رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حيث خطا وصلّى هو وعلي وخديجة، وفي نفس هذا المكان كانت تجربة ذلك الإنسان الكبير، ويمكن للحاجّ أن يستحضر كلّ ذلك التاريخ بخطواته.
أجل، في روح هذه العمليّة يوجد جانبٌ معنوي يجب أن يثوّره الحاجّ في نفسه ويعيشه في أعماقه، وعليه أن يستشعر عظمة تلك البضعة القليلة من صحابة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلّم، حيث كانوا معه في مكّة وتعرّضوا لأشدّ أنواع العذاب، ويستشعر في الوقت نفسه النفايات التي رميت على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم وهو يصلّي إلى جانب المسجد الحرام، فهنا كانت معاناة الرسول عليه السلام ولابد أن يكون الحاجّ مستعداً للتضحيّة في سبيل الإسلام بمكانته الاجتماعيّة وبعض خصوصيّاته ووجاهته، وربما للتضحيّة بنفسه أيضاً.
كانت هذه مجرّد أمثلة، وإلا فإنّ عمليّة الربط بين الحياة اليوميّة وبين تلك الأعمال الماديّة هو الذي يريده الشارع المقدّس، أمّا مجرّد هذه الأعمال الماديّة فيمكن الإتيان بمشابهها في بلدك وبيتك دون كلفة العناء والسفر والمشقّة؛ حيث يمكن لك الدوران حول بيتٍ من البيوت أو السعي بين جبلين مثلاً، فليست رسالة الحجّ الأساسيّة الأمور البدنيّة فقط، وإنما هي كامنة في الجانب الروحي، وهو العيش مع الله سبحانه وتعالى ومع تاريخ القيم والمثل العليا.
وهكذا ينبغي أن يرافق الحاجّ هذا الشعور في كلّ مواطن الحجّ ومنازله؛ ففي عرفة مثلاً ـ والذي جعله الرسول الأكرم صلى الله عليه وعلى آله وسلّم في بعض نصوصه الحجّ كُلّه، حيث قال: (الْحَجُّ عَرَفَةُ) 7ـ لابد من استشعار هذه الحالة أيضاً؛ فاللوحة البيضاء المبسوطة على وجه الصحراء والتي تتكوّن من أكثر من مليوني حاجّ ربما تعيش حالة روحيّة متميّزة لا تميّز عنصريّ فيها بين زيد وعمرو وبكر وخالد، ولا حتى تميزاً في الملبس على الإطلاق، يتساوى فيها الغني مع الفقير والقويّ مع الضعيف، وفي هذه النقطة التي تُعدّ أقرب نقطة إلى الله سبحانه وتعالى يتضرّع الحاجّ ليقدّم نفسه وذاته وتجربته أمام خالقه ويطلب منه الغفران، يتضرّع بقراءة مثل دعاء الإمام الحسين عليه السلام الذي يحمل قمّة التفاني في الله والفناء فيه، فالحاجّ يمكنه استحضار كلّ هذه الصور في تلك البقعة المباركة؛ فهو لا يمتلك جاهاً ولا مالاً ولا أيّ شيء آخر، وقد جلس بين يديّ ربه بثوبين أبيضين كثوبي الكفن، علّه بذلك يستحضر يوم المحشر الأكبر حينما تخرج الناس من الأجداث إلى ربهم سراعاً، وحينما يُقدّر له استشعار هذه الحالة الروحيّة بينه وبين الله تبارك الله فسيتقرّب إلى الله تعالى أكثر.
ومن هنا نعرف السرّ وراء الأخبار التي أكّدت على أنّ الحاجّ سيرجع كيوم ولدته أمّه8؛ إذ ليست العمليّة عمليّة ماديّة صرفة خالية من المعاني، وإنما لكونه قد تجاوز التوبّة والتطهّر في هذه الرحلة العظيمة، وقد استشعر بقيام القيامة وحين قيامها سيندم كلّ إنسان على ما فعل ويتمنّى العودة ليعمل غير ما عمل، وحينما يحسّ الحاج بذلك ويتملّكه الندم والبكاء من خشية الله، فسوف تُمحى ذنوبه فيرجع كما ولدته أمّه. وليس الرجوع هذا لصرف تلك الأعمال الماديّة من طوافٍ ومشي ورمي جمرات؛ إذ يتمكّن الإنسان في أيّ مكان من المشي كما أسلفنا، وإنما يُعطي الإنسان قيمة للمشي وبقيّة الحركات من خلال حالته الروحيّة التي يمرّ بها.
المؤسف أنّ بعض الأشخاص حينما يمارس بعض الطقوس العباديّة كالصلاة مثلاً تراه وكأنّه يريد ممارسة فنّ التجويد وإخراج الحروف من مخارجها الصحيحة وينسى الحالة الروحيّة مع الله سبحانه وتعالى. وهذه من تسويلات الشيطان كما وصفها الإمام الخميني؛ إذ يجب عليه محاولة الجمع بين ظاهر العبادة وباطنها؛ فليست العبادة باطناً بلا ظاهر، ولا العبادة ظاهر بلا باطن، وإنما هي جمعٌ بين هذا الظاهر والباطن، أو كما يقول السيد محمد باقر الصدر عن الحج: الحجّ اعتكاف جماعي؛ حيث تلاحظ جميع الحجيج قد منعوا أنفسهم مجموعةً من المحرّمات وانقطعوا عن كلّ لذائذ الدنيا حتى النظر في المرآة وإبعاد الحشرات عن أجسامهم ليعيشوا حالة الإعراض التامّ عن الدنيا والابتعاد عن شؤون الجسد، فهي رحلة إلى الله واعتكاف أمّة كاملة في مسجد كبير اسمه الحرم.
وخلاصة القول: إنّ أوّل بُعد للحجّ والذي يعدّ من أهم الأبعاد فيه، هو هذه الرحلة الروحيّة إلى الله سبحانه وتعالى، وبقدر ما نستشعر التكاليف الشرعيّة الفقهيّة التي هي واجبة علينا ولا يجوز الخروج عنها قيد أنملة، علينا أن نعيش إلى جانبها معنى الحجّ وروحه.
2ـ الرسالة العملية
لا تختص فريضة الحجّ ـ بوصفها عبادة من العبادات ـ بالجانب الروحي، بل لها دلالات ورسائل ترتبط بواقعنا اليومي والاجتماعي والسياسي والمالي والاقتصادي، بل وفي واقع علاقاتنا مع بعضنا بعضاً، وسننطلق في بيان ذلك من خلال مثال نربط فيه بين شيئين وسنجد كيفيّة الربط بينهما:
حينما نقارن بين قراءة الإمام الحسين لدعائه المشهور في التاسع من ذي الحجّة، وبين ما قام به في سنته الأخيرة من حلّ إحرامه في يوم التروية والتوجّه للعراق موطن ثورته، أقول: حينما نقارن من حقّنا أن نتساءل: هل هناك من علاقة بين الحجّ وبين العمل الثوري والجهادي والسياسي والاجتماعي أم لا؟
هناك توجّهان في مقام الإجابة على ذلك:
التوجّه الأوّل: يؤمن هذا التوجّه بعلمانيّة الأمور العباديّة وينفي صلتها بالحياة الاجتماعيّة والسياسيّة، وعلى المكلّف أن يصلّي ويصوم ويحجّ ويزكي في سياق العلاقة الفرديّة من دون أن يكون له علاقة بأيّ أمر آخر.
التوجّه الثاني: يذهب هذا التوجّه إلى ثنائيّة البُعد المعنوي والروحي من جهة، والبعد الاجتماعي والسياسي من جهة أخرى، بحيث لا يمكن الفصل بينهما على الإطلاق؛ وذلك لأنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وعلى آله وسلّم هو الذي ربط بينهما، فقد ربط صلى الله عليه وعلى آله وسلّم بين الحجّ بوصفه عبادة من العبادات وبين هذا البعد حينما أرسل علياً عليه السلام في موسم الحجّ لإعلان البراءة من المشركين، ولم يختر انشغال الناس بطقوسهم العباديّة والحالة الروحيّة التي يمرّون بها والانتظار ريثما ينقضي موسم الحجّ العبادي ويرجعوا إلى بلدانهم، ومن ثمّ إعلان البراءة من المشركين، والذي هو إعلانٌ سياسيّ من الدرجة الأولى في تاريخ الدعوة الإسلاميّة.
فمع إمكانيّة كلّ ذلك، إلا أننا نجده صلى الله عليه وعلى آله وسلّم اضطرّ لإرسال عليّ عليه السلام إلى وفد الحجيج ليعلن على رؤوسهم جميعاً البراءة من المشركين، وبذلك يعلن بداية مرحلة سياسيّة جديدة في تاريخ الدعوة والدولة والمجتمع الإسلامي.
هذا كلّه يؤكّد على وجود مجال للربط العميق بين الحجّ وبين الشأن الاجتماعي والسياسي، نعم كون العبادات لله تعالى ومن ضمنها مواطنها التي تحيا فيها لا يفضي إلى تسييسها وتجييرها لصالح حزبٍ معيّن أو حركة سياسيّة خاصّة، كما بتنا نلاحظ ذلك اليوم في واقع مساجد المسلمين، حيث يمتنع البعض من الذهاب إلى المساجد نظراً لانتماءات المساجد الحزبيّة والسياسيّة، فلابد من الحفاظ على كون العبادات والمساجد لله سبحانه وتعالى، ولا ينبغي زجّ مثل هذه الخلافات في داخلها، إلا أنّ هذا لا يفضي إلى قطع الارتباط بين هذه المواسم والمشاهد والمراقد المشرّفة بالحياة الاجتماعيّة أو السياسيّة، بل إنّ الكعبة مثلاً قد جعلها الله قياماً للناس كما جاء في القرآن الكريم، وهو ما يعطي معنى علاقتها بقيامة المجتمع، حيث قام الاجتماع البشريّ على أساسها، وبذلك نعرف أنّ لها علاقة بحياتهم الاجتماعيّة والسياسيّة.
نعم؛ من الممكن أن يختلف المسلمون فيما بينهم في كيفيّة ربط الحجّ بالسياسة والاجتماع، لكن من حيث المبدأ نلاحظ أنّ هناك ربطاً عظيماً بينهما، حيث نجد أنّ الحجّ لوحده يعطي درساً يقرّر أن الاختلافات الطبقيّة لا قيمة لها، وهذه مسألة اجتماعيّة سياسيّة؛ فحينما يقف الإنسان الفقير المسكين وبجانبه الإنسان الثري ويطوف معه على وتيرة واحدة ويرتدي معه نفس اللباس، فهذا نوع من محاولة جعل الناس سواسية في الحالة الاجتماعيّة، وأن الاختلافات الطبقيّة والماليّة والاقتصاديّة لا تؤدي إلى تمايزهم، حيث تتحطّم كلّ هذه الأنواع من التمايزات في موسم الحجّ، كلّ هذا يعني وجود رسالة اجتماعيّة وسياسيّة كبيرة وعظيمة تقدّمها لنا هذه العبادة.
كما أنّ نفس تلاقي المسلمين في الحجّ يقرّب بينهم ويوحّد صفوفهم؛ فقد أختصم مع إنسان دون أن أراه فتبدأ الصورة السلبيّة التي انحتها في مخيّلتي عنه وأصفه بأوصاف غير سليمة، ولكن حينما ألتقي به تنهار كلّ هذه الصور السلبيّة عنه؛ حيث أجده إنساناً طيّباً دمث الخُلق رغم وجود أخطاء بسيطة عنده من هنا وهناك. وهذا يكشف عن أنّ التواصل الاجتماعي بين المسلمين، مهما اختلفت مذاهبهم وقوميّاتهم وجغرافيّتهم، سوف يُسقط جميع هذه الفوارق، فالإسلام لا يمانع حبّ الأوطان والقوميّات، إلا أنّه لا يريد لحبّها أن يطغى على حبّ الله تعالى ورسوله، وبذلك يحصل لقاءٌ مع أبناء القوميّات الأخرى، ويراهم الإنسان عن كثب، وبإمكانه الجلوس معهم في دائرة المسجد الحرام والتحدّث معهم والاستماع إليهم وكذا العكس، وبذلك تنكشف للفرد شخصيّته مباشرةً دون حواجز أو رتوش، فيأخذ كلّ واحدجٍ عن الآخر صورةً جديدة، فهناك أشخاص كثيرون كان لديهم تصوّر مخيف عن أبناء المذهب الإمامي مثلاً، ولكن حينما التقوا بهم عرفوا أنّ هؤلاء لا يعبدون الحجارة ولا القبور، وهم موحّدون لله تبارك وتعالى. وبذلك تبدّدت كلّ تلك الصور التي نحتت في أذهانهم عنهم.
وربما يمكن من خلال هذا التواصل تأمين الالتئام والاتحاد بين المسلمين، فلا تفرّقهم العشائريّات ولا القوميات ولا النزعات الوطنيّة ولا أيّ شيء من هذا القبيل، نعم قد يختلفون فيما بينهم ومن حقّهم ذلك، ولكن مع هذا عليهم معرفة كيفيّة التواصل وطرائقه الصحيحة.
الحجّ مدرسة للتواصل الاجتماعيّ، حيث يوجّه الحاج نداءً من تلك الأجواء المقدّسة أن لا خلاف فيما بين المسلمين رغم الاختلافات التي تحصل بينهم، وما هذه إلا رسالة اجتماعيّة وسياسيّة في نفس الوقت، ويمكن للحجيج أن يعقدوا لقاءات ـ لو سمح الوضع بذلك ـ مع بعضهم بعضاً، ويتم تنظيمها عبر هيئات المجتمع المدني لرفع الالتباسات الحاصلة فيما بينهم؛ فالحجّ فرصة تأريخيّة للمسلمين، لكن ـ وللأسف الشديد ـ لم يفقهوا كيفيّة الاستفادة منها، بل تركوها على شكلها الظاهري، ولم يستثمروها لتتحوّل في قلب الإنسان إلى طهارة ونقاء.
ونجد أنّ الكثير من المسلمين لم يفقهوا كيفيّة الانتفاع من الحجّ لإعطاء رسالة إلى الأمم الأخرى على أنّنا موحَّدون وأقوياء في نفس الوقت، وللتواصل فيما بينهم والترابط لكي تكبر تلك العلاقات الاجتماعيّة التواصليّة، الأمر الذي يقوّي وضع الأمّة الإسلاميّة في قبال أعدائها، لا سيما ونحن في مرحلة حرجة وحساسة من التاريخ الإسلامي؛ حيث نحتاج إلى الكثير من الوعي والبصيرة والتأسيس في هذا المضمار.
3ـ رسالة مذهبية خاصة
وبالإضافة إلى الرسالتين المتقدّمتين، هناك رسالة أخرى تخصّ أبناء المذهب الجعفري؛ حيث لابد أن يعرفوا أنهم رُسلُ مذهبهم إلى تلك البقاع، ويلاحظوا التشويه المتعمّد لصورتهم أينما كانوا، من هنا يمكن لهم ـ ومن خلال الممارسة العمليّة أمام الملايين من مسلمي الطوائف الأخرى في تلك الأماكن المقدسّة ـ أن يقدّموا إيحاءً إيجابيّاً وصورةً نقيّة عن أتباع جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، وبذلك نجبر الطرف المقابل على أخذ نظرة الخلق الرفيع والتأدّب والتديّن والتشرّع عنّا، وأنّ أتباع المذهب الجعفري محافظون على الضوابط الشرعيّة، وهذه فرصة تاريخيّة لابد من استثمارها؛ حيث يمكن للحاجّ الشيعي أن يقدّم صورةً حسنة من خلال أفعاله وردودها وتصرّفاته وحركاته وسكناته في تلك الأماكن المقدّسة، كما ويمكن من خلال أسلوب حواره مع الآخرين أن يجذبهم إلى شخصه، حتى لو لم يستطع إقناعهم باللسان والحجّة والبيان، لكن يمكن له تقديم رسالة إيجابيّة خصوصاً للحاجّ الذي جاء من بلدان بعيدة وربما تكون هذه المرّة هي الوحيدة في حياته التي لا تتكرّر نظائرها في السنوات القادمة؛ إذ تبقى هذه التجربة التي حصلت له مع أبناء المذهب الجعفري تحفر في ذاكرته ناقلاً لها لأجياله اللاحقة متحدّثاً عن أخلاقهم وتشرّعهم وتديّنهم لا كما ينقل ويُصوّر عنهم.
أجل حجاج المذهب الجعفري رسل جعفر بن محمد الصادق عليه السلام إلى تلك الديار الطاهرة؛ فعليهم تقديم رسالة الأخوّة إلى سائر المسلمين، لا سيما من أهل السنّة، ونبذ العداء معهم، وكسر الصور الإعلاميّة النمطية المغلوطة عن العداوة بينهم وبينهم، فهم معهم رغم الاختلاف في بعض الأمور، ولابد من كونهم صفّاً واحداً أمام الأعداء، كما أنّ طريقة التعامل بالحسنى هذه تحمل في نفسها ثواباً وأجراً.
لقد حضر الأئمة عليهم السلام للحجّ في كلّ سنة وعام إلا في بعض الظروف الاستثنائيّة التي حصلت لهم، وقد كان الشيعة يلتقون بأئمتهم في هذه الأماكن أيضاً حيث كان المفهوم عندهم أنّ من تمام الحجّ اللقاء بالإمام وزيارته؛ لأنّ اللقاء به تواصلٌ معه ويكشف عن برنامج سياسي وفرصة تاريخيّة، لكي يعطيهم الإمام المواعظ ويصنع منهم رسلاً بين الحجيج، لتحقيق رسالة القرآن العزيز والرسول الكريم صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم9.
- 1. لا شكّ في ضرورة الجانب الفقهي؛ لأن الحجّ يبطل أو ربما يختلّ أو تجب فيه بعض الكفارات لو حصل إخلال عمديّ أو سهوي في بعض مسائل هذه الفريضة.
- 2. يرى الفقهاء عدم وجوب ذكر الله في تلك المواطن سوى في بداية الإحرام وصلاة الطواف.
- 3. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 198، الصفحة: 31.
- 4. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 200، الصفحة: 31.
- 5. عباديّة هذه الفرائض لاشتراط قصد القربة في إخراجها وأدائها.
- 6. نهج البلاغة، جاءت هذه العبارة في رسالته التي كتبها إلى واليه على البصرة عثمان بن حنيف حينما بلغه إجابته دعوة وليمة قوم من أهلها، رقم الكتاب: 45، ص417.
- 7. جامع الترمذي، ص341.
- 8. روى الشيخ الطوسي في تهذيب الأحكام: «عَنْ مُوسَى بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: الْحَاجُّ يَصْدُرُونَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ، فَصِنْفٌ يَعْتِقُونَ مِنَ النَّارِ؛ وَصِنْفٌ يَخْرُجُ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ؛ وَصِنْفٌ يُحْفَظُ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ، فَذَلِكَ أَدْنَى مَا يَرْجِعُ بِهِ الْحَاجُّ»، ج5، ص21.
- 9. محاضرة ألقيت في وفد الحجاج العراقيين عام 2011م-حيدر حب الله-تحرير: مركز إجابات للبحوث الدينية