مقالات

من الذي عبس وتولى؟

بسم الله الرحمن الرحيم

إعداد: زكريا بركات

من البحوث التي يهتمُّ بها الدارسون في تفسير القرآن الكريم، وكذا الباحثون في سيرة النبيِّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) : البحث عن الشخص الذي عبس في وجه الأعمى وتولَّى عنه، فبيَّن القرآن الكريم خطأ ما قام به هذا العابس من غير أن يصرِّح باسمه وهويَّته.

وقد ظنَّ فريقٌ من المفسِّرين أنَّ الذي عبس وتولى هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بينما نفى فريقٌ آخر أن يكون النبي الأكرم هو المقصود بذلك، وهو الصحيح الذي لا مرية فيه نظراً إلى الأدلَّة التي نسوقها في هذا الموضوع.

ومن المفسِّرين الذين نفوا نسبة ذلك إلى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) : المفسِّر الشهير والعالم الرباني المعروف العلامة الطباطبائي (رحمه الله) في تفسيره المسمَّى بـ “الميزان في تفسير القرآن”.

وفي هذا الموضوع نلخِّص ما قاله العلامة الطباطبائي (رحمه الله) في تفسير الميزان حول قوله تعالى: (عبس وتولى) وأنه هل يصحُّ القول بأنَّ المراد به صاحب الخلق العظيم، وسيد الخلق أجمعين، وخاتم الأنبياء والمرسلين؛ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ونسأل الله أن يوفِّقنا إلى فهم كلام العلماء الربانيين، والاغتراف من معينهم.

قال العلامة الطباطبائي (رحمه الله) ـ ما ملخَّصُه ـ :

1 ـ ليس في آيات سورة “عبس” دلالة ظاهرة على أنَّ الذي عبس هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل هو مجرد خبر عن وقوع العبوس من غير تصريح بالشخص الذي صدر منه العبوس والإعراض.

2 ـ صفة العبوس من الصفات الذميمة، وهي ليست من صفات النبي صلى الله عليه وآله؛ فقد كان رسول الله (ص) في منتهى اللطف في التعامل حتى مع الأعداء، فكيف يمكن أن نتصوَّر أنه عبس في وجه واحد من المؤمنين من أهل الخشية؟!

3 ـ وفي الآيات صفة أخرى ذميمة، وهي الاهتمام بالأثرياء أهل الفسق والإعراض مع التشاغل عن الاهتمام بالفقراء أهل التقوى، وهذا النوع من السلوك لا يصدر من أقل الناس تديُّناً وخُلقاً، فكيف يصدر ممن هو أسوة البشرية في الأخلاق الكريمة؟!

4 ـ لقد نزلت سورة “نون” قبل سورة “عبس”، ووصف الله في سورة “نون” نبيه الكريم بـ (وإنك لعلى خلق عظيم) ، والمذكور من الصفات الذميمة في سورة عبس لا يتناسب مع الخلق المتوسِّط فضلاً عن الخلق العظيم.

5 ـ لقد أمر الله تعالى نبيه الكريم بأن يتواضع للمؤمنين، فقال تعالى: (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) وذلك في الشعراء: 215 ، وهي سورة مكية والآية نازلة في سياق آيات نزلت في أوائل الدعوة.. كما نهى الله نبيَّه الكريم عن الاهتمام بدنيا أهل الدنيا، فقال تعالى: (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم) في سورة الحجرات: 88 ، والآية في سياق ما نزل في أول الدعوة العلنية، كما أمر اللهُ نبيَّه في أوَّل الدعوة العلنيَّة أن يُعرض عن المشركين، فقال تعالى: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) سورة الحجر: 94 . فيتبين من ذلك أنَّ النبي (ص) مأمور بالاهتمام بالمؤمنين والإعراض عن أهل الدنيا والشرك وعدم الاهتمام بدُنياهم، بينما سورة عبس تفيد أنَّ المعاتَب ـ بفتح التاء ـ اهتمَّ بالمشركين ودُنياهم وأعرض عن المؤمن لعماه وفقره وأهمله ولم يهتم به، بل عبس في وجهه..! فنسبة هذا إلى رسول الله (ص) يعني نسبة المعصية إليه، وهذا باطل لا يمكن القبول به، فلزم تنزيهه عن هذا.

6 ـ إنَّ العقل يدرك قُبح تفضيل الأغنياء بسبب غناهم على الأعمى الفقير بسبب عماه وفقره، ورسول الله (ص) سيِّد أهل العقل وأفضلهم وأشرفهم، فلو فرضنا أنه ليس في القرآن الكريم ما يدل على النهي عن هذا القبيح، فإدراك العقل لقبحه كاف لانتهاء الكريم عنه.

7 ـ رُوي عن أهل البيت عليهم السلام أنَّ الفعل القبيح الذي هو الاهتمام بالدنيا وأهلها والإعراض عن أهل الآخرة والعبوس في وجه المؤمن التقي، هو فعلٌ صدر عن رجل من بني أُميَّة، فالعتاب في سورة عبس هو موجَّه إلى ذلك الشخص من بني أميَّة، وليس إلى صاحب الخلُق العظيم صلى الله عليه وآله وسلم، والرواية مذكورة في “تفسير القمِّي”.

والحمد لله ربِّ العالمين.

https://chat.whatsapp.com/GaqaJFFGf23GppIuC0IMcm
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى