كتاب الله وقصته في التاريخ*
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض”.
الحمد لله وسبحانك، اللهم صل على محمد واله مظاهر جمالك وجلالك وخزائن أسرار كتابك الذي تجلى2 فيه الأحدية3 بجميع أسمائك4، حتى المستأثر منها الذي لا يعلمه غيرك. واللعن على ظالميهم أصل الشجرة الخبيثة.. وبعد.
أرى مناسباً أن أقدم تذكيراً نفحة قاصرة عن معنى الثقلين5 لا من حيث المقامات الغيبية والمراتب المعنوية والعرفانية، فبيان من هو مثلي أعجز من أن يتجرأ على الحديث عن مقامات عرفانية أحاطت بكل دائرة الوجود من المُلك6 إلى الملكوت الأعلى7 ومنه إلى اللاهوت8، وإن ما لا يصل إلى فهمي وفهمك هو ثقيل تحمله، فوق الطاقة إن لم أقل يستحيل، ولا من حيث ما أصاب البشرية لهجرها حقائق المقام العالي للثقل الأكبر والثقل الكبير9 الذي هو الأكبر من كل ما سواه عدا الثقل الأكبر وهو الأكبر المطلق.
ولا من حيث ما أصاب الثقلين على يد أعداء الله والطغاة المكرة،مما يصعب إحصاؤه على من هو مثلي لمحدودية الاطلاع والوقت، ولكني رأيت مناسباً أن أذكّر بإشارة عابرة مقتضية لما جرى على الثقلين، ولعل في عبارة “لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض” إشارة إلى أن كل ما ألمَّ بأي من الثقلين بعد الوجود المقدس لرسول الله ( ص) قد أصاب الثقل الاخر أيضاً وإن هجر أي منهما هجر للاخر، حتى يرد هذان المهجوران الحوض على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وهل أن هذا الحوض هو مقام اتصال الكثرة بالوحدة10 واضمحلال القطرات في البحر، أم هو شيء اخر لا سبيل للعرفان والعقل البشري إلى إدراكه.
وينبغي القول: إن ما أصاب وديعتيّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، من ظلم الطواغيت هو ظلم للأمة الإسلامية، بل للبشرية جمعاء، يعجز القلم عن تبيانه، ويلزم التذكير هنا بأن حديث الثقلين11 متواتر12 بين جميع المسلمين، وقد روته كتب أهل السنة، الصحاح الستة13 وغيرها، عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، بألفاظ متعددة وموارد متكررة، فوصل حدّ التواتر.
فهذا الحديث حجة بالغة على البشرية جمعاء ولا سيما المسلمين بمختلف مذاهبهم فهم مسؤولون جميعاً عن ذلك بعد أن تمّت الحجة عليهم، وإن كان هناك من عذر للعامة بسبب جهلهم وعدم اطلاعهم، فلا عذر لعلماء المذاهب.
ولنر الان ما جرى على القران هذه الوديعة الإلهية، وتركة رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم لقد شرعت نوائب مفجعة حرية أن يُبكى منها دماً بعد استشهاد الإمام علي عليه السلام 14، فقد استغل عباد الأنا والطواغيت القران الكريم، واتخذوه وسيلة للحكومات المعادية للقران، وأبعدوا مفسري القران الحقيقيين والعارفين بالحقائق الحقة ممن تعلموا القران كله من الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أبعدوهم بذرائع شتى، وبالقران، وبمؤامرات معدة من قبل، في وقت لم يزل فيه نداء “إني تارك فيكم الثقلين” مدوّياً في أسماعهم، وفي الحقيقة فقد أخرجوا القران الذي كان وما يزال الدستور الأعظم لحياة البشر وشؤونهم المادية والمعنوية حتى يرِدوا الحوض من الميدان، وأبطلوا حكومة العدل الإلهي وهي أحد أهداف هذا الكتاب المقدس، وأسسوا أسس الانحراف عن دين الله وكتابه والسنّة الإلهية، فبلغ الأمر حداً يخجل القلم عن تبيانه.
وكلما ارتفع هذا البنيان المنحرف ازداد الانحراف، فقد عطلوا القران الكريم إلى حد بدا وكأنه لا دور له في الهداية، وهو الكتاب الذي تنزل من مقام الأحدية السامي15، بالكشف16 المحمدي التام، هدى للعالمين، ومحوراً لجميع المسلمين كافة، بل وعموم الأسرة البشرية، والسمو بها إلى ما يجب أن تسمو إليه وإنقاذها وهي وليدة علم الأسماء17 من شرور الشياطين والطغاة.
وهو الكتاب الذي تنزّل لبسط العدل والقسط في العالم، وتسليم الحكم إلى أولياء الله المعصومين عليهم صلوات الأولين والاخرين ليفوّضوه بدورهم لمن يُضمن به صلاح الإنسانية.
وبلغ الانحراف درجة أن الحكومات الجائرة والخبثاء من فقهاء البلاط وهم أسوأ من الطغاة اتخذوا القران وسيلة للظلم وترويج الفساد وتسويغ أعمال الظلمة والمعاندين لإرادة الحق تعالى، وواأسفاه أن القران وهو كتاب الهداية لم يعد له من دور سوى في المقابر والماتم، بسبب الأعداء والمتامرين والجهلة من الأصدقاء. كان الحال كذلك وما زال، فأصبح الكتاب الذي ينبغي أن يكون وسيلة لتوحيد المسلمين والعالمين، ودستوراً لحياتهم أصبح وسيلة للتفرقة وإثارة الخلاف، أو عُطّل دوره كليّاً. وقد رأينا كيف يُعتبر مرتكباً لكبرى الكبائر من ينادي بالحكومة الإسلامية ويتحدث بالسياسة. في حين أن سيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، والقران والسنة ملأى بالنصوص المعنية بدور الإسلام الكبير في الشؤون السياسية، وأصبح وصف عالم الدين بالسياسي مرادفاً لوصفه بعدم الدين وما زال هذا الوصف موجوداً. وأخيراً آل الحال إلى أن تعمد القوى الشيطانية الكبرى ابتغاء محو القران وحفظ مطامعها الشيطانية إلى طبع القران بخط جميل، وتوزيعه على نطاق واسع، وتنفذ ذلك بأيدي الحكومات المنحرفة التي تتظاهر بالإسلام زيفاً، وهي بعيدة عن تعاليمه، وبهذا المكر الشيطاني تعطّل القران.
وقد رأينا كيف أن محمد رضا بهلوي18 طبع القران فاستغفل به البعض، وكيف امتدحته فئة من رجال الدين جاهلة بالأهداف الإسلامية.
نحن نفخر، ويفخر شعبنا المتمسك بالإسلام والقران بأننا أتباع مذهب يهدف إلى إنقاذ حقائق القران الممتلئة دعوة إلى الوحدة بين المسلمين، بل البشرية من المقابر باعتبارها أنجع علاج منقذ للإنسان من القيود المكبلة لرجليه ويديه وقلبه وعقله، والسائقة له إلى الفناء والعدم والرق والعبودية للطواغيت.
* منهجية الثورة الإسلامية – صفحة 73.
2- التجلي: إن العرفاء والفلاسفة الإسلاميين يسمون انكشاف حقائق أنوار الغيب على القلوب الصافية النقية بالتجلي.
3- الحضرة الأحدية: يعبّر العرفاء عن المتعين الأول في المراتب الإلهية بالحضرة الأحدية ثم تكون مرتبة الألوهية والواحدية.
4- الأسماء: عالم الأسماء هو عالم الحقائق التي تلازم واجب الوجود، فالمقصود من الأسماء ليس هو لفظ العالم والقادر بل المسمى بالعالم والقادر، وأما الألفاظ هذه في أسماء الأسماء.
5- الثقلين هي مثنى “الثقل” والثقل في شرح الأحاديث وتفاسير القران له معانٍ مختلفة، منها: الميراث الثقيل، والشيء الكبير، والشيء الثقيل، والشيء الثمين، والأمانة النفيسة والغالية وغير ذلك من معانٍ، والمقصود منهما في حديث الثقلين هو: القران، وعترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
6- الملك: إن الملك هو الشيء المادي العنصري المحسوس، ويقال عالم الملك لعالم الشهادة الذي هو العالم الطبيعي المشهود الجسماني.
7- استدلّ الفلاسفة والمتكلمين على ضرورة وجود عالم يفصل بين عالم الطبيعة أي(عالم الملك) وعالم الألوهية أي(اللاهوت) وأن عالم الملكوت هذا هو عالم مجرّد من المادة والزمان والمكان بشكل مطلق. واعتبر الحكماء العرفاء أن للملكوت مرتبتين هما: المرتبة العليا، والمرتبة السفلى، واصطلحوا على تسمية المرتبة العليا ب”الملكوت الأعلى” واعتبروها عالم ولادة العقل الإنساني، بينما اصطلحوا على تسمية المرتبة السفلى ب”الملكوت الأسفل” واعتبروها عالم المثال أي الخيال.
8- اللاهوت: انه مقام الواحدية ومقام الجامع باعتبار جامعية للأسماء والصفات.
9- مر ذكره سابقاً.
10- “الكثرة” في الفلسفة هي سلسلة مراتب الموجودات وتنوّع ظواهر الوجود المادية وغير المادية. و”الوحدة” هي الذات الإلهية التي هي منشأ ومبدأ صدور الوجود كلّه وجميع الكائنات. لذا فإن مقام “اتصال الكثرة بالوحدة” هو مقام ومرتبة أخروية، وهو فوق الكثرة وذيل الوحدة، وواسطة صدور الكثرة عن الوحدة، وكان عند بدء الخلق، وعودة واتصال الكثرة بالوحدة يكون عند نهاية العالم.
11- “حديث الثقلين” من الأحاديث المعروفة، رواه أشخاص كثيرون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة.وكثرة مصادر ورواة هذا الحديث من طريق العامة أمر ملفت. ويستنبط من هذا الحديث ومن نظائره أمور مهمة منها:أ كما أن القران باقٍ بين الناس إلى يوم القيامة، فعترة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً ستبقى إلى يوم القيامة، أي أنّ الأرض لا تخلو في أيّ زمان من وجود إمام وقائد حقيقي.ب إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بإرشاده للمسلمين إلى اتباع هذين الثقلين والأمانتين العظيمتين أمّن لهم جميع احتياجاتهم العلمية والدينية، وهداهم إلى أن أهل بيته هم المرجع لاكتساب العلم والمعرفة.ج لا يحق لأي مسلم أن يخرج من ظلّ إرشادهم وهدايتهم.
د جميع العلوم اللازمة والحاجات الدينية للناس موجودة عند أهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم.
ه إذا أطاع الناس غير أهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم ولم يتمسّكوا بهم، فإنّهم سيضلوا.
12- التواتر: إخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب وهو إصطلاح هل الحديث.
13- “الصحاح” جمع “صحيح” وهي ستة كتب صحيحة اختارها علماء العامة من بين كتب الحديث، واتخذوها أساساً ومبنىً يرجعون إليه في استنباط الأحكام والعقائد والتفسير وقسم من تاريخ صدر الإسلام. هذه الكتب هي:
أ صحيح البخاري، لمحمّد بن إسماعيل البخاري (256 196ه.ق) (869 812م).
ب صحيح مسلم، لمسلم بن الحجاج النيشابوري المعروف بالقشيري (292 206 ه.ق) (821 876م).
ج سنن ابن ماجة، لمحمّد بن يزيد بن ماجه، المتوفى (273 ه.ق، 886م).
د سنن أبي داوود، لأبي داوود البجستاني سليمان بن داوود، المتوفى (275 ه.ق 888م).
ه جامع الترمذي، لمحمّد بن عيسى بن سورة الترمذي، المتوفى (279 ه.ق، 892م).
و سنن النسائي، لأحمد بن شعيب النسائي، المتوفى (303 ه.ق، 915م).
14- أمير المؤمنين علي عليه السلام هو أول أئمة المسلمين بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولد داخل الكعبة عام 600م، أمّه: فاطمة بنت أسد، أبوه: أبو طالب، عمّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، منذ سنه السادسة عاش في بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وهو أول رجل أسلم لرسول الله ووعده بالنصرة.
في أوائل الدعوة جمع رسول الله قومه وأهله بأمر من الله سبحانه وتعالى ليدعوهم إلى الإسلام فدعاهم لمؤازرته ونصرته، ووعد من يفعل ذلك بأن يكون أخاً له ووصيه، وكرّر دعوته تلك ثلاث مرات، وفي كلّ مرّة كان عليّ عليه السلام وحده يجيبه بالإيمان والنصرة والمؤازرة.
وفي ليلة الهجرة النبوية،ورغم علمه بمؤامرة قريش، وعزمهم على قتل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بات في فراش النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وفاءاً منه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنصرة والمؤازرة.
ويوم المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، اخاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وعند عودة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من حجّة الوداع، وفي محل يقال له “غدير خم” بلّغ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الناس بأن عليّاً عليه السلام هو ولي أمر المسلمين من بعده، ووصيه.
كان عليّ عليه السلام إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دوماً في أيام وحدته، وناصراً له في الصعاب والمخاطر.
لكن وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولأسباب معروفة نُحّيَ مدة خمسة وعشرين عاماً عن إدارة الحكومة الإسلامية وقيادة الأمّة. طوال هذه المدّة كان يراقب الأمور، ويمنع الانحرافات.
وبعد مقتل الخليفة الثالث، بايعه الصحابة وجمع من الناس للخلافة. ودامت ولايته أربعة أعوام وتسعة أشهر. أعاد خلالها معظم التغييرات التي حدثت بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى حالتها السابقة. لكن المعارضين الذين رأوا مصالحهم مهددة بالخطر، رفعوا لواء المعارضة من كلّ جانب، وأشعلوا الحروب الداخلية، وسفكوا الدماء بحجة الثأر لدم الخليفة الثالث، إلى أن اغتالوا وحيد التاريخ، وأفضل المسلمين بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهو قائم يصلّي في محرابه.
الحديث عن شخصية أمير المؤمنين علي عليه السلام أمر صعب جداً، فهو لم يتوانى للحظة عن التضحية والفداء في سبيل نشر دين الله. تربى في بيته الطيني أبناء كالحسن والحسين عليه السلام وزينب عليه السلام الذين تركوا في التاريخ اثاراً عميقة جدّاً، ورفعوا المشعل الوضّاء للإنسانية. وكانوا القدوة للبشرية الباحثين عن الحقيقة.
15- مر ذكره في صفحة 5 راجع ذلك.
16- الكشف: هو زوال الحجاب والوقوف على ما وراء الحجاب من حقائق الأشياء.
17- “علم الأسماء” نوع من العلم والمعرفة يهتم بشؤون القدرة العلمية للموجود الإنساني، والمقصود هو أن الإنسان هو وليد علم الأسماء، وعلم الأسماء هو علم عرضه الله سبحانه وتعالى على الإنسان ليصبح أهلاً للخلافة على الأرض، ولو لم يعلّم الله هذا العلم لادم لما أصبح أهلاً للخلافة على الأرض.
18- محمد رضا بهلوي هو اخر ملك في السلسلة البهلوية، ولد في شهر تشرين الأوّل عام 1919م، أبوه رضا خان، قام بمؤامرة استلم على أثرها السلطة، وجعل ابنه محمد رضا ولي عهد له. بعد إتمام دراسته الأولى، غادر محمد رضا إلى سويسرا لإكمال دراسته، وبعد عودته التحق بالكليّة العسكرية. وفي عام 1941 م قام الحلفاء الغربيون بعزل رضا خان ونفيه، وتعيين محمد رضا ملكاً محلّه.
عهده يقسم إلى قسمين رئيسيين هما: العهد الأول (1955 1941) في هذه الفترة لم يتمكن محمد رضا من مسك زمام الحكم بشكل كامل ليحل محلّ أبيه، والعهد الثاني (1978 1955م) في هذه الفترة التي دامت ثلاثة وعشرين عاماً أدار فيها حكومته بصلاحيات كاملة، ومارس سلطته كسلطان مستبد مطلق العنان.