مقالات

خديجة الكبرى(ع)

قبل تشريع الصيام، وفي العاشر من شهر رمضان أصيب رسول الله (ص) بحزنٍ عميق، ففي ذلك اليوم رحلت رفيقة رسالته ومعاناته زوجُته السيدة خديجة الكبرى عليها السلام التي كان رسول الله (ص) يقول فيها :”رُزقتُ حبَّها[1].

والحبُّ هو انجذاب قلب الحبيب بسبب كمالات في المحبوب، وهو انجذاب ينطلق من الفطرة التي أودعها الله في الإنسان تشدُّه نحو الكمال، لذا عبّر رسول الله (ص) عن حبّه للسيدة خديجة (ع) بقوله “رُزقت حبَّها” فما هي تلك الكمالات التي جذبت رسول الله (ص) إلى خديجة الكبرى؟

والتي كان بسببها المكانة العظيمة لها عند الله تعالى ورسول الله (ص) وأهل بيته (ع).

نطلّ أولاً على المكانة، ثم نحاول فهم أسبابها الكمالية.

مكانة السيدة خديجة عند الله تعالى

وردت أحاديث عديدة تبيّن مقام السيدة خديجة عند الله عز وجل منها:

·   ورد أنّه “نزل جبرئيل على رسول الله (ص) يسأله عن خديجة (ع)، فلم يجدها، فقال: إذا جاءت فأخبرها أنَّ ربّها يقرئها السلام[2].

·  ما ورد أنّ رسول الله (ص) قال لابنته فاطمة (ع) يواسيها برحيل أمّها: “إنّ جبرئيل عليه السلام عهد إليّ أنّ بيت أمّك خديجة في الجنّة بين بيت مريم ابنة عمران، وبين بيت آسية امرأة فرعون، من لؤلؤ جوفاء، لا صخب فيه ولا نصب”[3].

ومن مآثر السيدة خديجة أنّ الله تعالى اختار بيتها[4]مكان الانطلاق في إسراء رسول الله (ص) موسِّعاً من المسجد الحرام ليضم بيتها إليه فقال عز وجل: ” سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى[5].

مكانة السيدة خديجة عند رسول الله (ص)

كان النبي الأعظم (ص) يتحدث عن السيدة خديجة (ع) بافتخار أمام المسلمين، فقد ورد أنّه (ص) قال في المسجد: “يا معشر الناس، ألا أدلّكم على خير الناس جدّاً وجدّة؟

قالوا: بلى يا رسول الله.

قال (ص): الحسن والحسين (ع)؛ فإنّ جدّهما محمد، وجدتهما خديجةُ بنت خويلد”[6].

وكان (ص) يهتم بمن كان له علاقة بالسيدة خديجة فقد ورد أنَّ عجوزاً دخلت على رسول الله (ص): فألطفها، فلما خرجت سألته عائشة من هذه؟

فأجاب (ص): “إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإنّ حسن العهد من الإيمان”[7].

ومن شدّة حبّ رسول الله (ص) للسيدة خديجة سمّى العام الذي توفيت فيه، وتوفي فيه أيضاً عمُّه أبو طالب بعام الحزن.

مكانة السيدة خديجة عند أهل البيت (ع)

كانت السيدة خديجة محلّ افتخارٍ للأئمة (ع) في انتسابهم إليها. ففي كربلاء وقف الإمام الحسين (ع) يخاطب القوم:

“هل تعلمون أنَّ جدتي خديجة بنت خويلد أوَّلُ نساء هذه الأمة اسلاماً[8].

·   وفي زيارتنا للإمام الحسين (ع) علّمنا أهل البيت (ع) أن نسلم عليه قائلين: “السلام عليك يا ابن خديجة الكبرى”[9].

وأن نقول له: “أشهد أنك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة[10].

كما ورد في زيارة القائم (عج) عن الشيخ سعيد بن القسم بن روح: “تسلِّم على رسول الله (ص)، وعلى أمير المؤمنين (ع) بعده، وعلى خديجة الكبرى (ع) وعلى فاطمة الزهراء (ع) وعلى الحسن والحسين عليهما السلام وعلى الأئمة (ع) واحداً واحداً إلى صاحب الزمان (عج) “[11].

مآثر السيدة خديجة

ما هي أسباب هذه المكانة للسيدة خديجة (ع) عند الله تعالى ورسوله (ص) وأهل بيته (ع)؟

يمكن أن نقارب الأسباب بمواصفات السيدة خديجة الآتية:

1- بصيرتها

كان للسيدة خديجة (ع) بصيرة واضحة تجلّت في اكتشافها المبكر لكمالات رسول الله (ص).

فقد ورد أنَّ رسول الله (ص)، قبل البعثة، حينما كان متوجّهاً نحو منزل السيدة خديجة، ليخبرها عن نتاج التجارة التي موّلتها، كانت السيدة خديجة جالسة مع نساء قومها في موضع تستشرف الطريق، فرأت رسول الله (ص) من بعيد، لكنَّها لم تتعرّف إليه، فقالت لنساء قومها:” يا هؤلاء، ما ترين أنَّ لهذا الرجل قدراً عظيماً؟ أما ترينه منفرداً وعلى رأسه غمامة تسير بمسيره، وتقف لوقوفه، وتظلّه من الحرّ والبرد، والطير ترفرف عليه بأجنحتها، ولها زجل وتسبيح وتمجيد وتقديس لله ربّ العالمين، يا ليت شعري من هو؟! أظنّ هذا الرجل يقصد حيَّنا، فلما دنا منها تبيَّنته، فقالت لهن: هذا محمد بن عبد الله،! فقرب منها، فسلّم، فردّت (عليه السلام) وقرّبته منها، ورفعت مجلسه، فبشَّرها بما رزقها الله تعالى من تجارتها، ففرحت بذلك فرحاً شديداً، وقالت: يا محمد، أعرض عليك أمراً وهي حاجة، لي بعضها، وهي لك حظّ ورغبة، قال: وما هي؟ قالت: أريد أن تتزوجني، فقد تباركت بك، ورأيت منك ما أحبّ، وأنا من عرفت شرفي وحسبي ونسبي وموضعي من قومي وسيادتي في الناس، وكثير لا ينالون تزويجي، وقد عرضت نفسي عليك…”[12].

وبسبب بصيرتها هذه كان رسول الله (ص) يخبرها بما يحدث معه، فقد ورد أنّ أوّل تواصل من قبل جبرئيل برسول الله (ص) أخبرها به[13]، فكانت المصدِّقة له في ذلك.

2- اهتمامها بما يهتمّ به رسول الله (ص)

كانت السيدة خديجة قبل البعثة تهتم وتتفاعل إيجاباً مع اهتمامات رسول الله (ص)، فكان حينما يصعد إلى جبل حراء تواكبه بالطعام والشراب، معينة له في ما يقوم به.

وقد زاد اهتمامها لما يهتمّ به بعد البعثة الشريفة مواكبة له في ذلك، وهذا ما نلاحظه من خلال ما روي أنَّ رسول الله (ص): “افتقد علياً (ع)، فاغتم لذلك غماً شديداً، فلما رأتْ ذلك خديجة قالت: يا رسول الله، أنا أعلم لك علمه، فشدّت على بعيرها ثم ركبت، فلقيت عليّ بن أبي طالب فقالت له: ائت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فإنّه بك مغتم…

قالت خديجة: فمضيت فأخبرت رسول الله (ص)، فإذا هو قائم يقول: اللهمّ فرّج غمي بأخي عليّ. فإذا بعليّ قد جاء، فتعانقا. قالت خديجة: ولم أكن أجلس إذا كان رسول الله (ص) قائماً، قالت: فما افترقا متعانقين حتى ضربت عليّ قدماي”[14].

3- تصديقها المبكر لرسول الله (ص)

ورد أنّ إحدى زوجات النبي (ص) تعجبت من كثرة ذكر رسول الله (ص) للسيدة خديجة (ع) فردّ عليها قائلاً: “صدّقتني إذ كذّبتني الناس…”[15].

لقد كانت السيدة خديجة أول امرأة آمنت برسول الله (ص)، بل ورد أنّ النبيّ (ص) بُعِثَ يوم الاثنين، وأنّ السيّدة خديجة (ع) أسلمت في نفس ذلك اليوم.

وورد عن الإمام علي (ع): ” ما كان يصلي مع رسول الله (ص) غيري وغير خديجة”[16].

وقد ورد عن أحد القادمين إلى مكة في أوّل البعثة النبويَّة قوله:
“جئت في الجاهلية حتى قدمت مكة لابتاع لأهلي من ثيابها وعطرها، وآويت إلى العباس، وكان رجلاً تاجراً، [فبينما أنا] جالس عنده… أنظر إلى الكعبة، وقد حلقت الشمس في السماء إذ أقبل فتى شاب حتى رمى ببصره إلى السماء، فنظر، ثم أقبل إلى الكعبة، فدنا منها، فلم يلبث إلا يسيراً حتى جاء شاب، فصنع كما صنع، ثم قام إلى جنبه، فما مكث إلا يسيراً، حتى جاءت امرأة فقامت خلفهما، فأهوى الشاب فركع، فركعا، فرفع فرفعا، ثمّ أهوى إلى الأرض ساجداً فسجدا، فقلت: يا عباس، أمر والله عظيم! فقال: أمر والله عظيم! هل تدري من هذا؟ قلت: لا. قال: هذا محمد بن عبد الله ابن أخي، هل تدري من هذه المرأة؟ قلت: لا. قال: هذه خديجة بنت خويلد زوجة ابن أخي. هل تدري من هذا الفتى؟ هذا علي بن أبي طالب ابن أخي. هذا الذي ترى ذكر أنّ ربّه ربُّ السماوات والأرض أمره بهذا الدين، فهو عليه، ولا والله، ما أعلم على ظهر الأرض كلّها أحداً على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة”[17].

4- مواساتها لرسول الله (ص) بالمال

أكمل رسول الله (ص) حديثه السابق: “صدّقتني إذ كذّبتني الناس، وواستني بمال إذ حرمني الناس..”[18].

وقد روي عن ابن عباس أنه فسّر قوله تعالى: “فوجدك عائلاً فأغنى” أي وجدك فقيراً، فأغناك بمال خديجة[19].

لقد كانت السيدة خديجة صاحبة ثروة كبيرة، فقد كانت تملك- فيما ورد – عشرات العبيد والإماء، وآلاف الإبل، ومئات الأواني من الذهب والفضة وغير ذلك، وقد بذلت كلّ أموالها في سبيل دعوة رسول الله (ص) حتى بقيت تنام هي ورسول الله (ص) في كساءٍ واحد لم يكن لها غيرها.

5- حملها لمشكاة الأئمة(ع)

أكمل رسول الله (ص) حديثه السابق: “صدّقتني إذ كذّبتني الناس، وواستني بمال إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد إذ لم يرزقني من غيرها”[20].

لقد أكرم الله تعالى السيدة خديجة بأن اختارها رحماً طاهراً للحوراء الإنسية السيدة الزهراء (ع) فعن رسول الله (ص): “لما عرج بي إلى السماء أخذ بيدي جبرئيل (ع) فأدخلني الجنة، فناولني من رطبها فأكلته، فتحوّل ذلك نطفة في صلبي، فلما هبطتُ إلى الأرض واقعتُ خديجة فحملَتْ بفاطمة، ففاطمةُ حوراء إنسية، فكلّما اشتقتُ إلى رائحة الجنة شممتُ رائحة ابنتي فاطمة”[21].

هجرتها نسوة مكة، فكنَّ لا يدخلْنَ عليها، ولا يسلّمْنَ عليها، ولا يتركْنَ امرأة تدخل عليها، فاستوحشت خديجة (ع) لذلك،إلا أن الله تعالى أكرمها بحديث جنينها معها فكانت فاطمة (ع) وهي جنين“تُحدِّثُها من بطنها وتصبِّرها…، فدخل رسول الله (ص) يوماً فسمع خديجة تحدِّث فاطمة (ع)، فقال لها: يا خديجة، من تحدثين؟ قالت: الجنين الذي في بطني يحدّثني ويؤنسني. قال (ص): يا خديجة، هذا جبرئيل يخبرني أنّها أنثى، وأنَّها النسلة الطاهرة الميمونة، وأنَّ الله تبارك وتعالى سيجعل نسلي منها، وسيجعل من نسلها أئمة، ويجعلهم خلفاءه في أرضه بعد انقضاء وحيه.

فلم تزل خديجة (ع) على ذلك إلى أن حضرت ولادتها، فوجّهت إلى نساء قريش وبني هاشم: أن تعالين لتلين مني ما تلي النساء من النساء، فأرسلن إليها: أنت عصيتنا، ولم تقبلي قولنا… فلسنا نجيء ولا نلي من أمرك شيئاً.

فاغتمت خديجة (ع) لذلك، فبينما هي كذلك، إذ دخل عليها أربع نسوة سمر طوال، كأنّهنَّ من نساء بني هاشم، ففزعت منهنّ لما رأتهن، فقالت إحداهن: لا تحزني يا خديجة، فإنّا رسل ربّك إليك، ونحن أخواتك، أنا سارة، وهذه آسية بنت مزاحم، وهي رفيقتك في الجنة، وهذه مريم بنت عمران، وهذه كلثوم أخت موسى بنت عمران (ع)، بعثنا الله إليك لنلي منك ما تلي النساء من النساء”[22].

” اللهم صلّ على الصدّيقة فاطمة الزكية حبيبة حبيبك ونبيك وأمّ أحبائك وأصفيائك التي انتجبتها وفضلتها على نساء العالمين… وكما جعلتها أمّ أئمة الهدى وحليلة صاحب اللواء والكريمةَ عند الملأ الأعلى فصلِّ عليها، وعلى أمِّها خديجة الكبرى صلاة تكرم بها وجه أبيها محمَّد صلى الله عليه وآله وتقرّ بها أعين ذريتها، وأبلغهم عني في هذه الساعة أفضل التحية والسلام”[23].


[1]المازندراني، محمد صالح،  شرح أصول الكافي، تحقيق الميرزا أبو الحسن الشعراني، ط1، بيروت، دار إحياء التراث العربي للطابعة والنشر والتوزيع، 2000م، ج7، ص144.

[2]النيسابوري، الفتال، روضة الواعظين، تحقيققديم السيد محمد مهدي السيد حسن الخرسان، (لا،ط)، قم، منشورات الشريف الرضي، (لا،ت)، ص269.

[3]القاضي، النعمان، شرح الأخبار، تحقيق محمد الحسيني الجلالي، (لا،ط)، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، (لا،ت)، ج3، ص17.

[4]النووي، محيي الدين، المجموع، (لا،ط)، دار الفكر، (لا،ت)، ج9، ص248.

[5]سورة الإسراء، الآية1.

[6]الصدوق، الآمالي، تحقيق قسم الدراسات الإسلامية، ط1، قم، مؤسسة البعثة، 1417هـ، ص522.

[7]النيسابوري، الفتال، روضة الواعظين، ص269.

[8]الصدوق، الآمالي، ص222.

[9]الطوسي، مصباح المتهجد، ط1، مؤسسة فقه الشيعة، بيروت، 1991م، ص720.

[10]المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، 1983م، ج97، ص187.

[11]الحلي، منتهى الطلب، (لا،ط)، (لا،ن)، (لا،ت)، ج2، ص893.

[12]الخصيبي، حسين بن حمدان، الهداية الكبرى، ط4، بيروت، مؤسسة البلاغ، 1991م، ص51-54.

[13]الريشهري، محمد، الصلاة في الكتاب والسنة، تحقيق ونشر دار الحديث، ط1، (لا،ت)، ص137.

[14]الكوفي، محمد بن سليمان، مناقب الإمام أمير المؤمنين (ع)، تحقيق محمد باقر المحمودي، ط1، قم، مجمع إحياء الثقافة الإسلامية ، 1412 هـ، ج1، ص304.

[15]النيسابوري، الفتال، روضة الواعظين، ص269.

[16]المازندراني، محمد صالح،  شرح أصول الكافي، ج7، ص144.

[17]الكوفي، محمد بن سليمان، مناقب الإمام أمير المؤمنين (ع)، ج1، ص271-272.

[18]النيسابوري، الفتال، روضة الواعظين، ص269.

[19]الحائري، محمد مهدي، شجرة طوبى، ط5، منشورات المكتبة الحيدرية، النجف الأشرف، 1385هـ، ج2، 233.

[20]المرجع السابق.

[21]الصدوق، الآمالي، تحقيق قسم الدراسات الإسلامية، ط1، قم، مؤسسة البعثة، 1417هـ ، ص546.

[22]الصدوق، الآمالي،  ص690-692.

[23]الطوسي، مصباح المتهجد، ص401.

المصدر:موقع سراج القائم

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى