مقالات

الحق الحقيق

خُطَى الخزاعي
لقد أولت الشريعة الغراء مسألة الألقاب والأوصاف التي قلّدت بها الأنبياء والأوصياء، ومن يقع في طول مهمتهم الإلهية، عناية ملحوظة، نُدرك منها أنَّ تلك المسألة لم تكن عفوية، أو أنَّها أمر كمالي تشريفي كالمتداول في أكثر الاستعمالات العرفية للألقاب في المجتمعات؛ بل هي مسألة دقيقة مقصودة ذات قراءات متنوعة، فيمكن أن تحكي تلك الألقاب عن مهمة مطلوبة معينة، ودور إلهي محدد، وقد تنطوي أيضًا على قراءة مجملة لطبيعة الظروف الموضوعية الخاصة المعاشة من لدن تلك الشخصية، والمساهمة بقوة في تحديد الدور المعين الذي ستضطلع به، أو قد لا تحكي هذه الالقاب عن دور، أو تكني عن ظرف؛ بل تصرح بالتأييد والموافقة الإلهية العامة لسيرة تلك الشخصية ومواقفها، فيكون ذلك اللقب أو الوصف حجة من الشارع على الخلق في اتباع تلك الشخصية، ونصرتها، والتسليم لفعلها المؤيد من لدن الله تعالى، وقد يكون هناك تداخل في القصد الشرعي من دور، وظرف، وتأييد ونحوها باختيار اللقب المعين، والوصف المخصوص.
وتطبيقًا لما تقدم فقد قلَّد الشارع المقدس أئمة العترة الطاهرة (صلوات الله وسلامه عليهم) بأوسمة من الألقاب والأوصاف المستبطنة للأدوار المطلوبة، والظروف المؤثرة، والتأييدات الحجة، منها ما جاء في وصف إمامنا الحسن المجتبى (صلوات الله وسلامه عليه) بـ (الحق الحقيق) في زيارته المخصوصة (السَلامُ عليكَ أيُّها الحقُّ الحقيق)([1])، وهو وصف مكتنز بالتأييد الشرعي، وما يستتبعه من أثر في الحجية والإلزام، كما ويستشف منه تلويح بطبيعة ظرفه التي كانت من الصعوبة والتعقيد بمكان، أن جعلت أكثر الناس بحالة من اللاوضوح في الرؤية، والتخلخل في العقيدة، فيجيء وصف (الحق الحقيق) لتلك الذات الطاهرة، معالجًا لالتباس الظرف، وآخذًا بالأعناق صوب الحجة الإلهية المؤيدة، و(الحقُّ نقيض الباطل. حقَّ الشيْء يَحِقُّ حَقّاً أي وَجَبَ وُجُوباً)([2])، وحقيق، صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من حقَّ، حقَّ على، حقَّ لـ: جدير، حريّ، خليق، حريص ” {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَ أَقُولَ عَلَى اللهِ إلاَّ الْحَقَّ}([3])، وهو حقيق بكذا: خليق له “كأنما هو ثابت لازم له)([4])، والوصف مؤلف من مفردتين من المادة نفسها، فاللفظة الأولى تدل أن ذات الحسن (صلوات الله وسلامه عليه) هي مدار الحق الواجب، والثانية تدل على ثبوت هذا الحق لتلك الذات الجديرة به، والخليقة له، ولزومه لها بلا زوال أو تغير، فيحج الشارع الناس بهذا الوصف ذو العناية الزائدة والإلزام المؤكد تجاه الحجة الإلهية باتباعها، فما كان من غالب الناس  إلّا أن قابلوا  تلك الحجة بالإعراض والجحود والتذمر إلى الحدِّ الذي جعل إمامنا (صلوات الله وسلامه عليه) يعاني الأمرين، وينال شرف أعظم الابتلاء مع الطبقة الأولى لأولياء الله المصطفين، حتى قال(صلوات الله وسلامه عليه) واصفًا حال اتباعه: (والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إلى معاوية سلمًا)([5])، وبهذه الكلمات وغيرها يستشعر المنصف فضلًا عن الموالي تضحية الإمام وصعوبة مهمته، كما ويقرأ بأن الله تعالى قد أودع لكل ظرف حجة جديرة به، وذات قابلية تامة في أداء المهمة المطلوبة والنهوض بأعباء المسؤولية الإلهية على أتم وجه، وبالتالي تتجلى أمامنا من معطيات صعوبة الظروف وشدتها، واختيار الله تعالى الإمام الحسن (صلوات الله وسلامه عليه) لخصوص تلك المرحلة بالذات، شيء من ملامح شخصية إمامنا السبط الأكبر وقدراته الفائقة ومؤهلاته العظيمة، وأبعاد ذاته الطاهرة التي تنحسر الأبصار و وتعجز البصائر عن إدراك سعتها وامتدادها.    
الهوامش:
[1] جمال الأسبوع ، السيد ابن طاووس (المتوفى 664ه):39.
[2] العين، الفراهيدي البصري (المتوفى: 170هـ) :3/6.
[3] معجم اللغة العربية المعاصرة، د. أحمد مختار عبد الحميد عمر (المتوفى: 1424هـ) بمساعدة فريق عمل: 1/533.
[4] المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم (مؤصَّل ببيان العلاقات بين ألفاظ القرآن الكريم بأصواتها وبين معانيها)، د. محمد حسن حسن جبل: 1/469.
[5] الاحتجاج، الشيخ الطبرسي( المتوفى 548ه): 2/10.

المصدر: http://inahj.org

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى