في رحاب نهج البلاغة

التعليمات الإدارية الصادرة من أمير المؤمنين عليه السلام إلى عمّاله وولاته

من كتاب أمير المؤمنين عليه السلام إلى محمد بن أبي بكر رحمه الله

1- يقول عليه السلام في كتابه إلى محمد بن أبي بكر رحمه الله، عندما ولّاه مصر: “فاخفض لهم جناحك، وألِن لهم جانبك، وابسط لهم وجهك، وآس بينهم في اللحظة والنظرة، حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم ولا ييأس الضعفاء من عدلك بهم، فإنّ الله تعالى يسألكم معشر عباده عن الصغيرة من أعمالكم والكبيرة، والظاهرة والمستورة، فإن يعذب فأنتم أظلم، وإن يعف فهو أكرم”.

هذه الكلمات مواعظ أخلاقية رفيعة، وفي نفس الوقت تبيّن الأصول العامّة للثقافة الإدارية للمجتمع والحياة العامّة.

يأمر الإمام عليه السلام هنا محمداً رحمه الله أن يلين جانبه للناس، ويبسط لهم وجهه، فلا يجد الناس فيه استعلاء المستكبرين وانقباض وجه المتغطرسين.

إذ ينبغي للحاكم أن يبسط سلطانه على القلوب، حتى تخفق له حبّاً وودّاً من خلال اللين في الكلام، والابتسامة التي تشيع السرور في النفوس التي تنتظر منه بسط الوجه والرضى والمحبّة الدائمة.

“وآس بينهم في اللحظة والنظرة”.

ثم ينتقل الإمام إلى المساواة في النظر بين الأشخاص، فيقول: إذا تحدّثت إلى رعيّتك فليكن نظرك موزّعاً بينهم بالسوية. فلا تجعله موجّهاً إلى فئة معيّنة أو شخص واحد، ولا تحابي بعض الناس في نظراتك دون بعض.

وقد يسأل أحد: ما قيمة النظرة حتى يؤكّد عليها الإمام ويأمرنا بالمساواة فيها.

يقول الإمام عليه السلام: “حتى لا يطمع العظماء في حيفك، ولا ييأس الضعفاء من عدلك بهم”.

فإذا ساوى بنظره بين الناس أشعر الناس أنّه يساوي في اهتمامه ورعايته للناس، فلا يطمع فيه أصحاب المطامع.

وفي الجانب الآخر لا ييأس الضعفاء من عدله، بل يبقى الأمل في نفوسهم أن يشملهم باهتمامه، ويحوطهم برعايته، فيذكرهم إذا غابوا ويتفقّد أحوالهم ويعينهم على بلوى الفقر ومتاعب الحياة.

2- ثم يقول عليه السلام: “ولا تُسخط الله برضى أحد من خلقه، فإنّ في الله خلفاً من غيره، وليس من الله خلف في غيره”.

يأمر الإمام والي مصر أن يتّخذ من الله وليّاً وناصراً عوضاً عمّا في أيدي الأقوياء والمستأثرين الذين يرون بأنّهم إذا تخلّوا عن الحاكم وغابوا عن مجلسه فسوف يضعف. ثمّ يقول له: لا تسخط الله برضى الأغنياء والأقوياء، فإنّ قوّتهم إلى زوال، وارتبط بالقوّة الإلهية المطلقة المهيمنة على الكون من أوّله إلى آخره.

ثم يقول له: “فإنّ في الله خلفاً من غيره، وليس من الله خلف في غيره”.

تذكرنا هذه الكلمة بدعاء الإمام الحسين عليه السلام “ماذا وجد من فقدك وما الذي فقد من وجدك”؟

إذا انفضّ الأغنياء من حول الحاكم، فإنّ الله عز وجل يخلفه بقوّته وتوفيقه، وتسديده، ولكن ليس لله بديل ولا عوض، إذا أعرض عن عبده وأوكله إلى نفسه، إذا هجرته الرحمة الإلهية، وتخلّى الله عنه وأوكله إلى قوّته وحاشيته وحراسته، فإنّه لا بديل لقوّته المطلقة.

فإذا التفت الحاكم إلى هذه المعاني فلا يستوحش لتفرُّق الناس عنه.

3- ثم يقول عليه السلام لحاكم مصر: “صلِّ الصلاة لوقتها الموقّت لها، ولا تعجل وقتها لفراغ، ولا تؤخّرها عن وقتها لاشتغال، واعلم أنّ كلّ شيء من عملك تبع لصلاتك”.

لا ينبغي للحاكم أن يؤخّر صلاته عن وقتها بسبب انشغاله بمهام الإدارة والحكم مهما بلغت في خطورتها الاجتماعية.

إنّه التنظيم الدقيق لوقت الحاكم بين الإدارة وبين الالتفات إلى ذاته وعبادته وعلاقته بالله حتى لا تستغرقه مسؤولياته الاجتماعية، فيهمل أمر الصلاة، فهو يستمدّ من عبادته القوّة في إدارته وعمله، وفي تجدّد طاقاته النفسية، وتعيد السكينة إلى نفسه، فإنّ هموم العمل تفقد الإنسان التوازن والاتزان والحزم والحسم في القرار.

فيحتاج إلى محطّة عبادية وخلوة مع الله بعيداً عن ضجيج الناس يُجدّد فيها الاتصال بالله.

وبذلك يستعيد قواه ونشاطه وحيويته “فإن كل شيء تبع لصلاتك”.

وفي دعاء كميل: “حتى تكون أعمالي وأورادي كلها ورداً واحداً”.

وما أجمل أن تكون حياة القادة امتداداً للصلاة، وتعبيراً للعبودية لله تعالى، وتطبيقاً لمفاهيم الاستعانة والتوكّل والثقة بالله.


* كتاب قبسات من الثقافة الإدارية في نهج البلاغة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى