نور العترة

مدارج السالكين من الايمان الى اليقين …

إنّ اللّه سبحانه وتعالى خلق الإنسان لِحِكمةٍ بالغة وَمَوعظةً سامِقة وَعِبرةً فائقة وَسِرٌ عظيم، فَبَدأ خَلْقَهُ بأطوار: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ 1، وَجَعله الآية التي من أجلِها خَلَقَ هذا الكونَ الفَسيح، والمِحوَرَ الذي يَدور حَوله ولأجله كلُّ شيء. فهذا التَّناغِمُ الطِّيني والرّوحي في شَأن خلق الإنسان، وهذه النّفس وهذا البَدن وما يَحويه من حَواس وَ مَدارك وقُدرات أودعها اللّه فيه إنّما هِي أدواتُ السّعي لبلوغ أهداف ومراتِبَ سامية، انّهُ السير نحو التّكامل والرُقي والوصول الى مرتبة الخلافة، قال اللّه تعالى مُخاطباً الملائكة: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً … ﴾ 2.

والخَلافة مِن أكمَل وأعلى المَراتب وَمِن أجْلِها أمَرَ اللّه الإنسان بالسّير لِطَيّ المَحطّات وإدراك أعلى المنازل، فَوَصَف القرآن المجيد هذا السعي “بالكَّدح” في قَوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴾ 3، فالإنسان حينما يَصِل الى مَدارج الكّمال فَهُو من حَيث الفّهم الفَلسَفي مهمته في الحياة الدنيا ستؤهله ليكون المَركز والمَحور الذي يَدور حَوله كل شيء في هذا الكون، وَهيَ مَهمّة عَظيمة وَمَنزِلة عالية لا يُدركها الّا مَن وَعى حقيقتها فبادر لها مُسابقاً وَسَعى نَحوَها مجاهداً، فالمَقصَد الحقيقي لِخَلق الإنسان هو عبادة اللّه كما تُشير لذلك الآية: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ 4 واللام في كلمة لِيَعْبُدُونِ تَحمِل في طيّاتها الكثير من الإشارات والمَعاني حَول طبيعة ونوع العبادة المَرجُوّة والمطلوبة، وهِيَ قطعاً تَعني العِبادَة الروحية والإرتباط التام المُطلق باللّه سُبحانه وتعالى، العبادة التي تَتَحوّل من خلالها جَميع الأعمال من حَركات وَسَكنات وكلمات الى جُسور تَمتَدُّ بَين العاشِق والمَعشوق، إنّها عِبادَة المَّعرفة وهي الغاية التي من خلالها يَسمو الانسان ويَبلُغ أعلى مَدارج الرُّقي والتّكامل، ليكون المِحوَر في هذا الوجود. ويَبدأ التّكامل الإنساني أو ما يُطلق عليه بالتّكامل المّعرفي بأدنى درجاته عندما يكون الإنسان في بَطنِ أمِّه: ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ 5، وهذه أشارة الى أنّ الإنسان يُولَد وهو مُجَرّد من كلّ مَراتب المعرفة، عَكسَ ما ذَهَب اليه ديكارت مِن أنّ المبادئ الفطريّة الأولية تُولَد مع ولادة الإنسان وخروجه الى عالم الدنيا.

الإيمان

الإيمانُ مَرتَبةٌ مِن مراتب الإعتقاد ومَحَطّةٌ يَبلُغَها الإنسان خلال مَسيرته التّكاملية. لَم تَجتمع كُلُّ المذاهب على تَعريفٍ مُوَحّدٍ لِمُفردة الإيمان. فقد وَصَف المُعتزلة والزّيدية وأهلَ الحديث أنّ الاِيمان هو مُفردة تُشير الى إعتقادٍ وتصديقٍ للقلوب والجّوارح مع إقرار اللّسان بهذا الإعتقاد. ومالَ الأشاعرة إلى أنّ الاِيمان يحصل بالقلب واللسان معاً، وذهب فريق الى أن الإيمان يصدق عن طريق الإقرار القلبي، وطائفة أخرى رأت أن الإيمان أساسه إقرار اللسان كنتيجة للمعرفة القلبية6.
وَللإيمان بُعدٌ آخر وحقيقة أعمق توضحه العديد من آيات القرآن الكريم: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ 7. لذا فإنّ المَّعرفة وحدها تُمثل بعداً واحداً للإيمان الكامل، فالقرآن واضحٌ جَليٌّ في وَصف مَن أرتدّوا على أدبارهم وشاقّوا الرّسول وقد تَبيّن لَهُم الهُدى لكن هذا البُعد من المعرفة لا يكفي لأستكمال حقيقة الإيمان، بل هو ضِلعٌ واحد من أضلاع ألإيمان، فاللّه سُبحانه وتعالى يقول: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ ﴾ 8، وفي أية أخرى ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾ 9، وَقَوله تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ … ﴾ 10.
أذن فالأيمان لا بُد له من أطوارٍ ومراحل وَمَراتب تكامليّة لا تَتَجزأ ولا تَنفصل عن بَعضها البَّعض، وَهِيَ عَقْدٌ بالقَلب وَقَول باللِّسان وعَمَل بالاركان، فقد سُئل أمير المؤمنين عليه السلام عن الاِيمان، فقال: (الاِيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالاَركان11). فإدراك الانسان ووصوله لكمال الإيمان يُؤسس لوعي معرفي يَنعكس على حالة المؤمن لِتَنقله من حالةِ السُكون الى العَمل بمُقتضى أعتقاده وايمانه لتحقيق غائية الوجود.
وفي هذا المضمار ومن أجل أن تكتمل صورة الأيمان وحقيقتها لابُد من الأشارة الى الآية القرآنية: ﴿ … وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ 12.
فبإسنادٍ عن أبي جعفر الباقر عليه السلام في قوله تعالى {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين}. قال: فالإيمان في بطن القرآن علي بن أبي طالب عليه السلام، فمن يكفر بولايته فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين13).
وفي واقعة الخَندق سَمّاه الرّسول: الإيمان كله، ففي المناقب: عن ابن مسعود رضى الله عنه قال: لما بَرَزَ عليٌ (عليه السلام) الى عمرو بن عبد ود قال النبي (صلى الله عليه واله وسلم): (برز الايمان كله الى الشرك كله). فلما قتله قال له: أبشر يا علي، فلو وزن عملك اليوم بعمل أمتي لرجح عملك بعملهم14). وفي حديث آخر قال صلى الله عليه واله وسلم: (النظر إلى علي عبادة، وذكره عبادة، ولا يقبل الله إيمان عبد إلا بولايته والبرائة من أعدائه15).

التَّقْوى

ثُمّ يَبلُغ السّالك بَعدَ الأيمان بالله عزّوجلّ وبرسوله وبما أُنزِل اليه مَرتَبة التَّقوى، وهي مُتَرَتِّبة على الإيمان، قال اللّه تعالى: ﴿ … الم * ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ 16.
قال الامام عَلي بن موسى الرضا عليه السلام: (الْإِيمَانُ فَوْقَ الْإِسْلَامِ بِدَرَجَةٍ، وَ التَّقْوَى فَوْقَ الْإِيمَانِ بِدَرَجَةٍ، وَ الْيَقِينُ فَوْقَ التَّقْوَى بِدَرَجَةٍ، وَ لَمْ يُقَمْ‏ بَيْنَ الْعِبَادِ شَيْ‏ءٌ أَثْقَلُ مِنَ الْيَقِينِ17).
والتّقوَى تَعني الحِفظ والصّيانة. وتقوَى الله اذن هي الحَذَر مِن الله من خلال اتِّباع أوامِره والانتِهاء عَن نَواهيِه. فَعَن الإمام الصّادِق (عليه السلام) لمّا سُئِل عن تفسير التّقوَى، فقال: (أنْ لَا يَفْقِدكَ الله حَيْثُ أَمْرَكَ، وَلَا يراك حَيْثُ نَهَاكَ18).
فالتّقوَى اذن هيَ الوقاية عن طريقِ فِعل الواجِبات وَتَرُك المُحَرّمات وإتيان المُستحبّات ونَبذ المَكروهات. والتقوى على مراتب فَعَن الامام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: (التقوى على ثلاثة أوجه: تقوى الله في الله وهو ترك الحلال فضلا عن الشبهة وهو تقوى خاص الخاص، وتقوى من الله وهو ترك الشبهات فضلا عن حرام، وهو تقوى الخاص، وتقوى من خوف النار والعقاب وهو ترك الحرام وهو تقوى العام، ومثل التقوى كماء يجري في نهر ومثل هذه الطبقات الثلاث في معنى التقوى كأشجار مغروسة على حافة ذلك النهر، من كل لون وجنس وكل شجرة منها يستمص الماء من ذلك النهر، على قدر جوهره وطعمه19). وهذه المَراتب الثلاث أشارَت اليها وأكّدَتها الآية القرآنية: ﴿ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ 20.
فَفي كَشف اليَقين، عن محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ، عن سلمان الفارسي ما هذا لفظه (وقام سلمان فقال: .. قال: فأنا أشهد به أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: علي إمام المتقين وقائد الغر المحجلين وهو الأمير من بعدي21).
إنّ للتَّقوى آثاراً عظيمة تَنْعَكِس على مَن يَسعى جاهداً في هذا المسلك، فالمُتَّقي فَرَجُه قَريب وَرِزقُه وَفير وَمَقامه أمين والعاقِبَة الحَسَنة هِيَ نتاج التّقوى. والمُتَّقون أخَّروا شَهَواتهم ولَذّاتهم وَقَدّموا طاعَةَ رَبّهم، وأختاروا ولاية أحباء اللّه فَأَحَبّوهم، وانتِظارُ الفَرج مِن أعظَم أعمال المُتّقين. رُوي عن الامام العسكري عليه السلام أنه كَتب الي ابي الحسن علي بن الحسين بن بابويه القمي (عليك باصبر وانتظار الفرج، قال النبي صلى الله عليه واله: افضل اعمال امتي انتظار الفرج، ولا تزال شيعتنا في حزن حتي يظهر ولدي الذي بشر به النبي صلى الله عليه واله يملا الارض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما، فاصبر يا شيخي يا ابا الحسن علي، وامر جميع شيعتي بالصبر، فان الارض لله يورثها من يشاء من عبادة والعاقبة للمتقين22).

اليَقين

وَيَستَمِرُّ رَكْب التكامل ومسيرة العشق بلا مَلل ولا كَسل نَحوَ مَرتَبة أعلى، إنّها مَحَطَّة خَبايا النَّفس وأسرارها، حَيث يبدأ السالك بالبّحث لِمعرفة النّفس والإطلاع على حَقيقة الذّات، ولأن مَعرفتها مُرتَبطة بمعرفة اللّه، فلابُدّ للسالك في مَدارج الكَمال أن يَستغرق في البَّحث عن صفاتِ اللّه عزوجل لِيُدركَها ويَعيشَها وَيَستَشعِرها لِتَفيض عَليه من أنوارِها القُدسية ما يُمَكّنه مِنَ السير بأتجاه مَرتبةٍ أعلى وأسمى وهي اليَقين، قال الله تعالى: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ 23.
واليَقينُ هو العِلم الذي لا شَكّ فيه ومُشاهَدة الأشياء بِصَفاءِ الأنفُس، قال اللّه تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ 24، هِيَ أشارة قُرآنية تُؤكّد أنّ المُؤمن هو ذلك الذي مَلأ اللّهُ قَلبه إيماناً وهدىً وأتبَعَه بيقين. والإيمان المُتَجَرِّد عنِ اليَّقين هو أيمانٌ تُحيطُه الوَساوِسَ والشُكوك ويبقى عُرضة للأرتداد والسُقوط. ولذا فإن جميع أصحاب الاستدلالات العَقلية كان إيمانهم مَشوب بالشُبهات والأوهام، بينما الإيمان اليَّقيني والذي وَضَعَت حُدوده وأشارت اليه كلمة “وكانوا” في الآية القرأنية هو المرتبة التي يُريدها اللّه لعباده وهي أعلى مَراتب الإيمان. فعن الاِمام الصادق عليه السلام أنه قال: (الاِسلام درجة والاِيمان عن الاِسلام درجة. واليقين على الاِيمان درجة. وما أوتي الناس أقلَّ من اليقين25). وروى الفضيل بن يسار عن الاِمام الرضا عليه السلام قوله: (إنَّ الاِيمان أفضل من الاِسلام بدرجة، والتقوى أفضل من الاِيمان بدرجةٍ، ولم يُعط بنو آدم أفضل من اليقين26).
في اليقين تُسَدّد الخُطى، وتَنشَرِحَ الصُدور وتَتَزوَّد بالمَشارِقَ النّورانية الإلهية وَتَبدأ النُفوس باستقبال الفُيوضات القُدسية فَتَنْعَكِس على الجَّوارِح رَحمةً وطمأنينةً وسَكينة، وتَتَحول الغَرائز الشَهويّة الى صفات تَقْوائية يُستَعان بها لأجل إكمال السّير والكّدح المُوصِل الى القُربِ الالهي. أنَّ أكمل دَرجات المَعرفة الإلهية هي المَعرفة الإدراكيّة التي تَسِيرُ بالمؤمن الى مَرتَبة اليّقين، إنّها عِلاقة طَردية فَكلّما أزداد المُؤمِن إدراكاً كُلّما ارتَقى مَرتبةً أعلى في مَراتب اليَقين. فَلليَقين مَراتب وَدَرجات كما أشارت الى ذلك الآيات: ﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ﴾ 27، وفي آية أخرى: ﴿ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ﴾ 28،
فاليَقينُ أذن لَه مَراتِبَ ثلاث: عِلْمُ اليَقين وَعَينُ اليَقين وَحَقّ اليَقين.
فَأما عِلم اليَقين فَهو ما يَحصل للسّالك عند النَظَر والتَفَكّر بالدّلائل، كالّذي يَرى دخاناً فَيَعلَم بعلم اليقين أنّ مَصدَره ناراً، إنّه انكشاف المَعلوم للقَلب بَعد النَظر والتَّفكر. ثُم يُكمِل السّالك الدَّرب بِهِمَّة وكَدحٍ وجِهاد ويَقين نَحو المَرتبة الثانية وهي عَينُ اليَقين، قال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ 29، وهذه المَرتبة تُشير الى المَنزلة المَعرفية التي يَصل اليها السّالك من خلال الكّشف والمُشاهدة والأطمئنان القَلبي، ولا تُدرك إلا من خلال التَجرّد المُطلق للنفس، فَمُشاهدة النار هو عَين اليقين، أنه العلم بالكشف والمعاينة لأصحاب القلوب المُطمأنه من خواص المريدين للذات المقدسة، يَبلُغ فيها السالك مَرتَبَة المُشَاهِد لَهُ فلا يَشُك فيه أبدًا.
وأما المَرتبة الأعلى، وَهِيَ حينما يَصِلُ السّالك الى مَرتَبةً يَعيش فيها الاحتراق، إنها مَرتَبة حَقّ اليَقين، إنَّه الأرتباط الروحي والفَناء في اللّه لأهل الشُهود، فَحَقُّ اليَقين هِيَ مَرتَبَة الوَحدَة المَعنويّة والارتباط الحَقيقي بين العاقِل والمَعقول فَيَرى العاقل ذاتَه مُرتَبِطة بالمَعقول مُتَنَعمة بآثاره وَفُيُوضاته، وأُنّ شُؤونَ الدُنيا والآخرة بين يَديه واضحةً جَليّة، خاضِعَةً طائِعة.
وَلأن القَّلب وَصَلَ إلى حَقيقة الذّات المُقَدسة فامتَلأ مِن أنورها وَتَحَوّل بذلك الى نُورٍ قُدسي من نُور الله وَشَمسٍ يَقينيّة من فُيُوضات الكَمال المُطلق، فَهُو أينما أتّجه وَنَظَر وَفَكّر فأنه سَيَرى كلَّ الاشياء بنور شُعاع قَلبه وَيُبصِر حَقائق المَلكوت وخَفايا الدُنيا والآخرة وحقائق الأشياء وأسرارها بذلك النور الذي هُو مِن مَصدَر المُطلق. ولأنّها أرفع دَرَجات اليقين وأعلى مَراتِب الكَمال، فإن مَن أدرَكَها وَنال فُيُوضاتها هُم خَواصُ الخَواص.
فالأنبياءُ (عليهم السلام) مَعَ ما لَهُم من عَظيم المَنزلة عِند اللّه، فإن مَراتِبَهم مُختَلفة وكانوا يَتَفاضَلون على حَقيقة حقّ اليَقين لَيس إلا، والمُؤمنون أيضاً على مَراتِبَ مُختَلفة فَمِنهُم مَن أدرَك عِلْمَ اليَقين وَمِنهُم مَن سارَ وجاهَدَ نَفسه وأرتَقى بعد أن قَطَع المَسافات وَنَظَر فَعَلِم فَاسْتَوَتْ عِبادَته ظاهِرَها وباطِنَها وكانَ عِنده الزيادة والنُقصان والفَقر والرزق والحياة والممات كُلّها سَواء لانّها جميعاً مِن مَصدَر واحد. فاليَقين الذي تَحلّى به الإمام علي (عليه السلام)، هُوَ قطعاً حَق اليقين، لقوله: (لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً30).
فَعن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن عبد الله بن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: استقبل رسول الله صلى الله عليه وآله حارثة بن مالك بن النعمان الأنصاري فقال له: كيف أنت يا حارثة بن مالك] النعماني[ فقال: يا رسول الله مؤمن حقا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: لكل شئ حقيقة فما حقيقة قولك؟ فقال: يا رسول الله! عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلي، وأظمأت هواجري، وكأني أنظر إلى عرش ربي وقد وضع للحساب، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون في الجنة، وكأني أسمع عواء أهل النار في النار.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: عبد نور الله قلبه أبصرت فأثبت، فقال: يا رسول الله ادع الله لي أن يرزقني الشهادة معك فقال: اللهم ارزق حارثة الشهادة، فلم يلبث إلا أياما حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وآله بسرية فبعثه فيها فقاتل فقتل تسعة أو ثمانية ثم قتل31).
وَإليكَ أيُّها السّالكُ أخْتِم كلامي بِنِداءِ مَولى المُتّقين علي (عليه السلام): (أينَ المُوقنون الذين خَلَعوا سَرابيل الهَوى، وقَطَعوا عَنهم عَلائِقَ الدُنيا؟32).

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى