مقالات

حقوق الإنسان…

الله الودود الحكيم، هو الذي خلق الإنسان و كرمه و فضله على سائر مخلوقاته، و اختصه بالعقل و حرية الفعل، فله أن يفعل و له أن لا يفعل و هو مسؤول أمام الله في الحالتين، و أعطاه فوق ذلك حقوقاً لم يعطها لسواه من المخلوقات، و شرع الحماية العامة الكافية لها، و ضمّنها المنظومات الحقوقية التي أنزلها على الأنبياء و الرسل (عليهم السلام)، فالإعتداء على أي حق منها انتهاك للمنظومة الحقوقية الإلهية برمتها، و مخالفة لأمر إلهي يستوجب المساءلة و العقوبة في الدنيا أو في الآخرة، أو فيهما معاً.

ليس هذا فحسب ، بل أوجد حماية خاصة لكل حق من حقوق الإنسان الكبرى ، كحق الإنسان في الأرض ، و حفظ حياته ، و حفظ عرضه ، وماله ، و سمعته و كرامته ، و حفظ عقله . و اعتبر كل حق من هذه الحقوق الكبرى حداً من حدود الله ، فمن اعتدى على أي منها فإنه يعتدي على حدود الله الكبرى ، و بالتالي يقع العدوان على الله جلت قدرته ، قبل أن يقع على الإنسان الضحية !
و من هنا كانت الحماية لهذا الحقوق قوية ، و العقوبة المختصة لمن يعتدون عليها رادعة ، و لا نبالغ إذا قلنا بأن نزول الشرائع الإلهية و بعث الرسل و الأنبياء ( عليهم السلام ) ما كان إلا لتحقيق غايات كبرى ، منها تعريف الإنسان بالله الخالق الواهب لهذه الحقوق ، و حماية هذه الحقوق و تمكين كل إنسان من ممارستها على الوجه الأكمل ، و تنظيم العلاقات بين الإنسان و بين الله ، و بين الإنسان و الإنسان ، و بين الإنسان و الكون ، وصولاً إلى تحقيق الحياة المثلى التي أرادها الله للإنسان الكريم على ربع .
و قد ختم الله النبوات و الرسالات بنبوة محمد ( صلى الله عليه و آله ) و رسالته ، و ختم الشرائع و المنظومات الحقوقية بشريعة الإسلام و منظومته الحقوقية ، فهي المنظومة الحقوقية الإلهية النهائية المثلى ، و هي شريعة حقوق ، حقوق الله ، و حقوق الإنسان ، و الترتيب الأمثل لتمكين كل إنسان بممارسة حقوقه ، و فوق ذلك تضمنت نصوصاً تحمي الحقوق الكبرى للإنسان حماية خاصة :

1. حماية حق الإنسان بالأمن العام

فهو الذي يمكِّن الإنسان من ممارسة حقوقه و بدونه يستحيل ممارستها ، و بما أن الإخلال بالأمن العام يأتي من المجتمع ، فإن المجتمع بمؤسساته و على رأسها السلطة ، ملزم بتوفير الأمن العام لأفراده .
و قد احتوت الشريعة الإسلامية قواعد و نصوصاً تضمن توفير الأمن العام للإنسان و تؤدي إلى القضاء على الخوف و الإرهاب بكل أشكالهما . و إليك موجزها .
« من شهر السلاح ـ أي سلاح ـ لإخافة الناس اقتص منه ثم نفي من البلد ، و من شهره و أخذ المال ، قطعت يده و رجله ، و من شهره و أخذ المال ، ضرب و عقر ولم يقتل ، فأمره إلى الإمام إن شاء قتله و صلبه ، و إن شاء قطع يده و رجله ، و من شهر السلاح فقتل ولم يأخذ المال كان على الإمام أن يقتله ، و من شهر السلاح فقتل و أخذ المال ، فعلى الإمام أن يقطع يده اليمنى بالسرقة ، ثم يدفعه إلى أولياء المقتول ، فيتبعونه بالمال الذي أخذه ثم يقتلونه ، و إن عفا أولياء المقتول عنه ، كان على الإمام أن يقتله ، و ليس لأولياء المقتول أن يأخذوا الدية منه فيتركونه » 1 . و تعرف هذه الجريمة بجريمة المحاربة ، أو جريمة الإفساد في الأرض ، أو جريمة الإرهاب » 2 .

2. حماية حق الإنسان بحفظ حياته

الإنسان أكرم مخلوق عند الله ، و حياته أعظم حياة عند الله . ولم يسخر له ما في السماوات و ما في الأرض إلا ليمتعه في حياته بكافة الضروريات و الكماليات اللازمة لاستمرارها و بقائها . و لذا كان قتل الإنسان من أكبر الكبائر عند الله و أشنع الأفعال ، فمن يقتل إنساناً بغير إنسان فكأنما قتل الناس جميعاً . فحياة الإنسان أي إنسان مبجلة و محترمة عند الله و هي أعز حياة ، كما أنها أعز شيء على الإنسان ، فهي أحب من المال و الولد و الزوجة و من كل الناس عملياً .
و من هنا كان حق الإنسان بالحياة أهم حقوقه ، لأن بقية الحقوق تدور مع حياته وجوداً و عدماً ، و هذا يجعل قتل النفس الإنسانية من أشنع و أعظم الجرائم التي يمكن ارتكابها ، فالقتل أسوأ مظهر من مظاهر الإفساد في الأرض ، لذلك كانت عقوبته متناسبة مع بشاعة الجرم ، فالقاتل لا يرعوي و لا يعرف بشاعة فعله إلا إذا تيقن أنه إن قتل إنساناً سيقتل ، و إن سلب إنساناً حياته فإن حياته ستسلب ، فكان القصاص هو الحماية المناسبة لحفظ حياة الإنسان .
و قد شرع الله سبحانه و تعالى الأحكام الكلية و التفصيلية المتعلقة بالقصاص ، بحيث تكون العقوبة متساوية تماماً مع فعل القتل ، و أمر أن تنصف الضحية و لا يظلم الجاني و شرط أن يكون القتل عمداً و عدواناً . « يثبت القصاص بقتل النفس المحترمة المتكافئة عمداً و عدواناً ، و يتحقق العمد بقصد البالغ العاقل القتل ، أما إذا لم يكن قاصداً للقتل ، ولم يكن الفعل قاتلاً عادة كما إذا ضربه بعود ضربة خفيفة ، أو رماه بحصاة فاتفق موته لم يتحقق به موجب القصاص » 3 و يمكن الوقوف على بيان أهل بيت النبوة لكليات و تفاصيل أحكام القصاص بالرجوع إلى المرجع السابق » 4 .
و قد جعل الله تعالى لولي المقتول دوراً في كيفية تنفيذ القصاص ، فأعطاه أحياناً الخيار بأن يقتل الجاني ، أو يعفو عنه ، أو يأخذ الدية المحددة شرعاً .
و أحكام الدية مكملة لأحكام القصاص : و هي مظهر لقيمة الإنسان عند الله . و الدية : « هي المال المفروض في الجناية على النفس أو الطرف أو الجرح أو نحو ذلك ، و تثبت الدية في موارد الخطأ المحض ، أو الشبيه بالعمد ، أو فيما لا يكون القصاص فيه أو لا يمكن ، و أما ما ثبت فيه القصاص بلا رد شيء ، فلا تثبت فيه الدية إلا بالتراضي و التصالح ، سواءاً كان في النفس أو كان في غيرها 5 .
أما مقدار دية قتل المسلم العمدي‏ ، فهي مائة بعير فحل من حسان الإبل ، أو مائتا بقرة ، أو ألف دينار ، و كل دينار يساوي ثلاثة أرباع المثقال الصيرفي من الذهب المسكوك ، أو ألف شاة ، أو عشرة آلاف درهم ، و كل درهم يساوي 616 حمصة من الفضة المسكوكة . . و تستوفى دية العمد في سنة واحدة من مال الجاني ، و له اختيار أي صنف شاء ، و ليس لولي المقتول إجباره على صنف من الأصناف المذكورة 6 .

3 ـ حماية حق الانسان بحفظ عرضه

عرض الإنسان من حقوقه الأساسية الكبرى ، فعرضه كحياته يتوجب حفظه و صيانته ، و لأن الدولة هي التجسيد القانوني للمجتمع الذي يعيش فيه ، فهي ملزمة بأن تحمي حقه بحفظ عرضه ، و يتم ذلك من خلال وضع القواعد و النصوص القانونية التي تكفل حماية العرض و صيانته ، لأن عدم حفظ هذا الحق يعني مصادرته ، و لا تملك أي دولة و لا أي إنسان على الإطلاق الحق مصادرة حق إنسان آخر ، خاصة إذا كان هذا الحق من الحقوق الكبرى الأساسية اللصيقة بالإنسان .
و الشريعة الإسلامية الإلهية منظومة حقوقية اشتملت على القواعد و النصوص التشريعية الكاملة لحفظ عرض الإنسان عن كل فاحشة من الفواحش التي يمكن أن تلحق به ، و أوجبت على الحاكم و مساعديه أن يطبقوها باعتبارها حدوداً من حدود الله ، و اعتبرت عدم تطبيقها عدواناً على الله تعالى و على شرعه قبل أن يكون عدواناً على عرض الإنسان و انتهاكاً له .
و قد حدد الشارع الحكيم الأفعال و التصرفات التي تُعتبر اعتداءً على عرض الإنسان و اعتبرها جرائم ، ثم ضبطها بوصف دقيق ، و وضع الشروط الواجب توفرها قبل تنفيذ العقوبة ، و حدد العقوبة المناسبة لكل جريمة ، و سماها حدوداً لخطورتها ، و نسبها لنفسه « حدود الله » فلا يملك أحد التنازل عنها أو التفريط في تطبيقها . و سأستعرض بما أمكن من الإيجاز العقوبات المترتبة على مقترفيها .
أ ـ الزنا : « يتحقق الزنا بإيلاج الإنسان حشفة ذكره في فرج امرأة محرمة عليه أصالة من دون عقد و لا شبهة . و لا فرق في ذلك بين القبل و الدبر … و يشترط في ثبوت حد الزنا البلوغ فلا حدّ على الصبي . و الإختيار ، فلاحد على المكره و نحوه ، و العقل فلا حد على المجنون . و يثبت الزنا بالإقرار وبالبينة ، و يشترط في المقر العقل و الإختيار و الحرية ، و لا يثبت الزنا إلا بالإقرار أربع مرات ، فإذا أقر أربع مرات أُقيم عليه الحد ، و إلا فلا … و لا فرق في الأحكام المتقدمة بين كون الزاني مسلماً أو كافراً ، و لا فرق بين كون المزني بها مسلمة أو كافرة .
أما الحد ، فمن زنى بذات محرم له كالأم و البنت و الأخت و ما شاكل ، يُقتل بالضرب بالسيف في رقبته ، و لا يجب جلده قبل قتله ، و لا فرق بذلك بين المحصن و غيره و الحر و العبد و المسلم و الكافر و الشيخ و الشاب ، و لا فرق بين الرجل و المرأة إذا تابعته … و الزاني إذا كان شيخاً و كان محصناً يجلد ثم يرجم ، و كذلك الشيخة إذا كانت محصنة ، و إذا لم يكونا محصنين ففيه الجلد مائة جلدة فحسب ، و كذلك الزاني الشاب أو الشابة …
يعتبر في حصانة الرجل أن تكون له زوجة دائمة .. و إذا كانت غائبة بحيث لا يتمكن من الإستمتاع بها أو كان محبوساً لا يتمكن من الخروج إليها لا يرجم بل يجلد فقط . و المرأة تُجلد و هي كاسية و قاعدة ، و الرجل يجلد و هو قائم ، و ينبغي اتقاء الوجه و المذاكير » 7 .
ب ـ اللواط : و يثبت بشهادة أربعة رجال و بالإقرار أربع مرات ، ولايثبت بأقل من ذلك ، ويشترط في المقر العقل و الإعتبار و الحرية . و اللائط المحصن يُقتل أما غير المحصن فيُجلد مائة جلدة و كذلك يُقتل الملوط .
ج ـ التفخيذ : حد التفخيذ الجلد ، لا فرق في ذلك بين المسلم و الكافر و المحصن و غيره ، و الفاعل و المفعول به .
د ـ إذا وُجد رجلان تحت لحاف مجردين من دون أن يكون بينهما حاجز يعززان من 20 سوطاً الى99 سوطاً . و ينطبق هذا على امرأتين وجدتا مجردتين تحت لحاف واحد .
هـ ـ السحاقة : حد السحق اذا كانت غير محصنة مائة جلدة ، و يستوي في ذلك المسلمة و الكافرة .
و ـ القيادة : و هي الجمع بين الرجال و النساء للزنا و بين الرجال للواط ، و بين النساء للسحق . و تثبت القيادة بشهادة رجلين عدلين و بالإقرار . و إذا كان القواد رجلاً يضرب ثلاثة أرباع حد الزاني ، و ينفي من مصره الى غيره من الأمصار ، و إذا كانت القوادة امرأة فالمشهور أنها تجلد 8 .

4 ـ حماية حق الانسان لحفظ سمعته و مسمعه

فسمعة الإنسان أمر مهم و صيانتها عن الإتهامات المرتجلة من أسباب استقرار الإنسان و هدوئه و سعادته ، كذلك فإن صيانة سمع الإنسان عن الإتهامات الفاحشة الذي تؤذي مشاعره ، و تلوث سمعته ، مظهر من مظاهر احترام الإنسان بحفظ سمعته . و الإتهامات الجزافية الموجهة للإنسان جريمة توجب العقاب الشديد ، لأنها تؤذي سمعته و مسمعه ، و تعكر صفو حياته . و إمعاناً بالتنفير من هذا الفعل ، اعتبرت الشريعة معاقبة الفاعل حداً من حدود الله ، لا يملك الحاكم صلاحية التنازل عنه ، و لخصت الشريعة الأفعال التي تؤذي سمعة الإنسان ومسمعه بالقذف .
القذف : « و يعني الرمي بالزنا أو اللواط ، مثل أن يقول الإنسان لغيره : زنيت ، أو أنت زان ، أو ليط بك ، أو أنت منكوح في دبرك ، أو أنت لائط ، أو ما يؤدى هذا المعنى » . « و لا يقام حد القذف إلا بمطالبة المقذوف ، و يشترط في القاذف البلوغ و العقل، فلو قذف الصبي أو المجنون لم يحد ، و لا فرق في القاذف بين الحر و العبد ، و لا بين المسلم و الكافر . و يعتبر في المقذوف البلوغ و العقل و الحرية و الإسلام و الإحصان ، فلو لم يكن المقذوف واجداً لهذه الأوصاف لم يثبت الحد بقذفه ، بل يثبت التعزير حسب ما يراه الحاكم من المصلحة ، كذلك لو قذف الأب ابنه لم يحد . و لو قذف رجل جماعة بلفظ واحد ، فإن أتوا به مجتمعين ضُرب القاذف حداً واحداً ، و إن أتوا متفرقين ضرب لكل منهم حداً ، و لو قذفهم متفرقين حد لكل منهم حداً . و إذا عفا المقذوف عن القاذف سقط الحد ، و إذا مات المقذوف قبل أن يطالب بحقه أو يعفو فلأوليائه من المطالبة به كما أن لهم العفو عنه . و إذا قذف أحد ابن شخص أو ابنته فالحد حق لهما ، و إذا تكرر الحد بتكرر القذف قتل القاذف في المرة الثالثة .
و حد القذف ثمانون جلدة ، و لا فرق بين الحر و العبد و الذكر و الانثى ، و يثبت القذف بشهادة عدلين و بالاقرار . و لو تقاذف شخصان درئ عنهما الحد ، و لكنهما يعزران » 9 .

5 ـ حماية حق الانسان بحفظ عقله

العقل أهم ما في الإنسان فهو مديره و قائده و من الضروري المحافظة عليه و الحيلولة دون العبث به أو تعطيله عن القيام بوظائفه التي أناطها الله تعالى به . و من واجب الدولة أن تحافظ على عقل الإنسان و تصونه ، لأنه إذا تعطل أو فقد توازنه بصورة كلية أو جزئية ، صار الإنسان بلا قائد و لا مدبر ، و صار خطراً على حقوق الآخرين ، و على نفسه .
و قد اشتملت الشريعة الإسلامية على مجموعة قواعد و نصوص تكفل حفظ عقل الإنسان و إبقائه بحالة سوية متوازنة ، و حددت الشريعة الأفعال و التصرفات التي تخل بسلامة العقل و توازنه ، و وصفتها وصفاً دقيقاً ثم جرّمتها و ألحقتها بحدود الله ، و حددت العقوبة الواجب إنزالها بمقترفيها ، و من هذه الأفعال :
أ ـ السحر : هو مجموعة من الأهابيل الشيطانية ، تؤدى إلى التأثير على عقل الإنسان و توازنه ، فمن يتخذ السحر شغلاً و حرفة له يصبح خطراً يتربص بالعقل لذلك فإن الإسلام حرّم تعلم السحر و بَيَّنَ بأن من تعلم شيئاً من السحر كان آخر عهده بربه . و حدد عقوبة السحر بالقتل، فإذا شهد عدلان حلَّ دم الساحر » 10 .
ب ـ المسكر : من شرب المسكر أو الفقاع عالماً بإسكاره مع الإختيار و البلوغ و العقل ، أقيم عليه الحد 80 جلدة ، و لا يزيد في ذلك بين القليل و الكثير، و لا فرق بين أنواع المسكرات ، و لا فرق بين الرجل و المرأة ، و الحر و العبد ، و المسلم و الكافر ، و إذا تاب شارب الخمر قبل قيام البينة ، يسقط الحد » 11 .

6 ـ حماية حق الانسان بحفظ ماله

مال الإنسان من أساسيات حياته ، فهو حصيلة جهده ، عزيز عليه أثير لديه ، لأنه الوسيلة الفعالة للحصول على حاجاته و تلبية رغباته و المساهمة بتحقيق سعادته . ثم إن الإنسان متملك بالفطرة ، و من هنا كانت حماية هذا المال و صيانته و المحافظة عليه و ضمان اختصاص الإنسان بالتصرف به ، حقاً من حقوقه الكبرى اللصيقة به ، فصار من واجب الدولة ـ أية دولة ـ حماية هذا الحق و صيانته و المحافظة عليه .
و قد أقرت الشريعة الإسلامية بهذا الحق واشتملت على القواعد و النصوص التي تنظمه و تحميه ، و حددت العقوبة الرادعة الكافلة بحماية حق الإنسان بحفظ ماله ، و اعتبرت هذه العقوبة حداً من حدود الله ، لا تملك أية جهة التنازل عنها أو التفريط في تطبيقها . و اعتبرت أخذ مال الإنسان سرقة و الآخذ سارقاً ، و قضت بقطع يده اليمنى إن توفرت شروط معينة ، فيشترط أن يكون السارق الذي ينتهك حق الإنسان في ماله بالغاً ، فلو سرق الصبي لا يحد . و يشترط فيه العقل فلو سرق المجنون لم تقطع يده . و يشترط ارتفاع الشبهة : فلو توهم أن المال ملكه فأخذه ثم تبين أنه ليس ملكه لم يُحد . و يشترط أن لا يكون المال مشتركاً بينه و بين غيره ، فلو سرق من المال المشترك قدر حصة أو أقل لا تقطع يده و لكنه يعزر . و يشترط أن يكون المال في مكان محرز ولم يكن مأذوناً في دخوله ، فإن سرق في هذه الحالة لم تقطع يده ، أما لو سرق من مكان غير محرز أو مأذون في دخوله أو كان المال تحت يده لم تقطع يده . كما أن من سرق الطعام في عام المجاعة لا تقطع يده . و يشترط أن لا يكون السارق والداً لصاحب المتاع فلو سرق من ولده لم تقطع يده . و يشترط أن يكون أخذ المال سراً ، فلو هتك الحرز قهراً و علناً و أخذ المال لم يقطع بل يجري عليه حد آخر .
و يشترط أن يكون المال ملك غيره . و أن لا يكون السارق عبداً للإنسان ، فلو سرق عبده من ماله لم تقطع يده .
و المشهور أنه يعتبر في القطع أن تكون قيمة المسروق ربع دينار « و الدينار عبارة عن ثماني عشر حمصة من الذهب المسكوك » و قيل يقطع في خمسين ديناراً و هو الأظهر . و من نبش قبراً و سرق الكفن قطعت يده .
و لا يثبت حد السرقة إلا بشهادة رجلين عدلين ، و لا يثبت بشهادة رجل و امرأتين ، و لا بشهادة النساء منفردات . و يثبت بالإقرار مرتين . و يسقط الحد بالتوبة قبل ثبوته ، و إذا عفى المسروق منه عن السارق قبل رفع أمره إلى الإمام سقط الحد . . و الأظهر أن الإمام لا يقيم الحد إلا بناء على طلب المسروق منه و دعواه »12 . و قد قام مرجع المسلمين السيد الخوئي بسرد بيان أهل بيت النبوة لكافة الأحكام المتعلقة بأحكام القصاص و الحدود و يمكن لمن أراد التفصيل أن يرجع إليه13 .

7 . حماية الانسان من أن يكون سلعة يباع و يشترى

فالإنسان مكرم عند الله و هو أعز خلقه عليه ، و أحبهم إليه ، وأعز عند الله من أن يتحول الى سلعة فيباع كما تباع السلع . فمن باع إنساناً حراً صغيراً كان أو كبيراً ، ذكراً كان أو أنثى قطعت يده » . فقد أتيَ أمير المؤمنين برجل باع حراً فقطع يده ، و سئل جعفر بن محمد ( عليه السلام ) عن رجل سرق حرة فباعها فقال : فيها أربعة حدود ، أما أولها فسارق تقطع يده … قال عبد الله بن طلحة : سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن الرجل يبيع الرجل و هما حران هذا هذا ، و هذا هذا ، يفرّان من بلد إلى بعد فيبيعان أنفسهما و يفرّان بأموال الناس ؟ فقال ( عليه السلام ) تقطع أيديهما لأنهما سرقا أنفسهما و أموال الناس » 14 .
قد يقال إذا كان الإسلام يحرم بيع الإنسان و يقطع يد من يبيعه ، فكيف أجاز الإتجار بالرقيق ، أليس الرقيق بشراً أبوهم آدم و أمهم حواء ، و هم أخوة لنا ؟
فيقال : عندما ظهر الإسلام كانت ظاهرة الرق منتشرة عند العرب و في العالم كله ، و كانت أساسية و لصيقة في الحياة الإقتصادية و الإجتماعية و لا يمكن الإستغناء عنها ، فنادراً ما تجد إنساناً حراً ليس له عبد تكامل وجوده مع وجوده ، و ارتبط أحدهما بالآخر برباط يصعب عملياً قطعه . فلو أن الإسلام قد جاهر بتحريم الرق لما اعتنقه أحد ، لأن الرق حاجة إجتماعية و اقتصادية لا يمكنه عملياً الإستغناء عنها ، و لو أن النبي قد أصدر مرسوماً بتحريم الرق ، لما أمكنه عملياً تنفيذ هذا القرار .
ثم إن تحرير الرقيق آنذاك دفعة واحدة سيخلق مشكله كبرى ، و سيقذف الرقيق في أحضان البطالة و الجوع و الموت .
أمام هذا كله ، لجأ الإسلام إلى التدرج في التشريع لمعالجة هذه الظاهرة المستحكمة فبين فساد الأسس التي يقوم عليها نظام الرق ، فعباد الله كلهم أخوة لا فرق بينهم إلا بالتقوى و العمل الصالح ، و ليس من الأخوة و لا من الأرحام أن يسترق الإنسان أخاه الإنسان ، و من حيث المبدأ أمر الناس بمعاملة الأرقاء كما يعاملون أخوانهم ، و اعتبر تحرير الرقيق من أعظم القربات إلى الله ، و فرض على بعض المخالفين لأحكام الشريعة جزاء يتمثل بتحرير الرقبة ، و أثمرت هذه السياسة الحكيمة و أدت مع الأيام إلى القضاء على ظاهرة الرق .

8 . حق الإنسان بحفظ و حماية بيته أو مكان سكناه

بيت الإنسان أو مكان سكناه جزءٌ لا يتجزأ من ماله ، سواء أكان مالكاً لرقبة هذا البيت أو مالكاً لحق الإنتفاع به كمستأجر . و هو يدخل في النصوص التشريعية التي خصصها الشارع الحكيم لحماية مال الإنسان و ممتلكاته . لكن نظراً لأهمية بيت الإنسان أو مكان سكناه و خصوصيته فقد وضع الشارع الحكيم نصوصاً تشريعية لحفظه و حمايته و جعل له حرمة خاصة فحرم على الناس كافة بما فيهم الأنبياء و الرسل الكرام (عليهم السلام) أن يدخلوا بيت أي إنسان إلا بعد الإستئناس و الإستئذان و السلام على ساكن ذلك البيت ! فمن أراد أن يدخل بيت إنسان فعليه أن يأتيه من طريقه المألوفة بوضوح لا تسللاً ، فإذا وصل البيت يجب أن يطرح السلام على أهله و يستأذن للدخول ، فإن أذنوا دخل ، و إن لم يأذنوا عاد أدراجه دون غضب و لا عتب ، لأن بيت الإنسان مكان خصوصيته ، و على الزائر أن يعذره ، و لأن الإنسان هو سيد بيته فهو يملك أن يدخل فيه من يشاء و يمنع عن دخوله من يشاء . و قد احترم الشارع الحكيم هذه الخصوصية و رتب هذا الحكم المناسب لحمايتها ،﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّىٰ يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ 15 16 قال ابن كثير : كان ابن عباس يقرأ حتى تستأذنوا و تسلموا 17 .
و لا يجوز لأي إنسان أن يدخل بدون إذن على بيت إنسان آخر بقصد التلصص أو الفجور أو الإساءة لأحد أفراد الأسرة ، أو لأي سبب آخر غير مشروع ، و من فعل ذلك فقد أباح دمه . سئل الإمام علي ( عليه السلام ) عن رجل دخل دار آخر للتلصص أو الفجور فقتله صاحب الدار أيقتل به أم لا ؟ فقال( عليه السلام ) : « إعلم أن من دخل دار غيره فقد أهدر دمه ، و لا يجب عليه شيء » 18 . قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « أيما رجل اطلع على قوم في دارهم لينظر إلى عوراتهم ففقأوا عينه أو جرحوه ، فلا دية عليهم » ! لأنه بهذه الحالة معتدٍ : « و من اعتدى فاعتدي عليه فلا قود له » 19 .

9 . حق الدفاع عن النفس

الأصل أن السلطة القائمة في المجتمع و على رأسها الإمام الشرعي ، و أعضاء المجتمع جميعهم متكافلون و متضامنون لحماية الإنسان و حماية كافة حقوقه و تمكينه من ممارستها . فإذا وقع اعتداء على الإنسان أو على حقوقه ، يرفع دعواه إلى الإمام الذي يتولى تكييف الإعتداء و تحديد النص الشرعي الواجب تطبيقه برضى و مساعدة كافة أعضاء المجتمع .
لكن في حالات معينة قد يتعرض الإنسان بشكل فجائي و غير متوقع للإعتداء ، كأن يهاجمه المعتدي قاصداً الحاق الأذى بنفسه أو بماله أو بعرضه . و في هذه الحالات لا يطلب من الإنسان أن يقف مكتوف اليد أمام المعتدي و يسهل له مهمته العدوانية ، حتى إذا فرغ المعتدي من تحقيق ما أراد رفع الإنسان الضحية شكواه إلى السلطة ! فقد خوَّل الشارع الحكيم الإنسان حق الدفاع عن نفسه و ماله و عرضه ، و أوجب عليه أن يتصدى للمعتدي و يدافع ، و إذا أدى هذا الدفاع إلى إلحاق الأذى بالمعتدي فلا قود على الإنسان ، و إذا مات الإنسان أثناء دفاعه عن نفسه أو عن ماله أو عن عرضه فهو شهيد ، و لكن يجب أن يكون الدفاع في حدود رد الإعتداء و متناسباً معه ، فإذا رفع المعتدي سوطة ليضرب إنساناً فليس من حق هذا الإنسان تحت شعار حق الدفاع عن النفس أن يستل سيفه و يضرب عنق من رفع عليه السوط ! لأن الدفاع عن النفس لا ينبغي أن يكون مدخلاً للإعتداء على الإنسان . فلو اشتبك مع من رفع عليه السوط ليضربه و تمكن من نزعه من يده ، و أثناء ذلك كسر معصم المعتدي فلا قود عليه لأنه فعل ذلك في معرض الدفاع عن نفسه : « من اعتدى فاعتدي عليه فلا قوَدَ له » 20 .

10 . حماية حقوق الإنسان بنظام التعزيرات

لم تكتف الشريعة الإلهية الإسلامية بنظام القصاص الذي يحمي حياة الإنسان و جسمه ، و لا بنظام الحدود الذي يحمي أمن الإنسان و عرضه و سمعته و عقله و ماله ، و يحمي الإنسان نفسه من أن يتحول إلى سلعة . بل اشتملت على نظام التعزيزات التي تحمي قواعد الشريعة ، و تسد أية ثغرة تخرج بطبيعتها عن نظام القصاص و نظام الحدود . فمن فعل محرماً أو ترك واجباً ، عالماً عامداً ، عزره الحاكم حسب ما يراه من المصلحة .
و يثبت موجب التعزير بشهادة شاهدين و بالإقرار … و يعزر الحاكم كل من خالف النظام » 21 و التعزيز لا ينبغي أن يزيد على أربعين سوطاً .
إن هذه الأنظمة الثلاثة ( القصاص و الحدود و التعزيرات ) متكاملة تهدف إلى إبقاء الإنسان ضمن حدود الشريعة ، لتتم ممارسة الجميع لحقوقهم دون بغي و لا عدوان و لا اصطدام ، تماماً كالنجوم لكل مداره الخاص به ﴿ … وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ 22  23 .

  • 1. يمكن الوقوف على طبيعة حد المحاربة و كافة أحكامه بمراجعة كتاب مباني تكمله المنهاج ” لمرجع المسلمين السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي ” ، دارالزهراء ، لبنان : 1 / 227 مسائل 281 ـ 260 .
  • 2. راجع كتابنا حكم النبي و أهل البيت على الإرهاب و الإرهابين ـ الدار الاسلامية ـ بيروت .
  • 3. مرجع المسلمين السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي ، مباني تكملة المنهاج : 2 / 3 .
  • 4. مباني تكملة المنهاج ، المرجع السابق : 2 / 144 .
  • 5. مباني تكملة المنهاج : 2 /186 و ما فوق المسألة 200 و ما فوق ، مرجع السابق .
  • 6. مباني تكملة المنهاج : 2 / 186 و ما فوق المسألة 200 و ما فوق ، مرجع السابق .
  • 7. مباني تكملة المنهاج ، كتاب الحدود : 1 / 16 ـ 228 المسائل 122 ـ 179 مرجع سابق .
  • 8. مباني تكملة المنهاج : 1 / 229 ـ 252 المسائل من 181 ـ 199 مرجع سابق .
  • 9. مباني تكملة المنهاج : 1 / 252 ـ 264 المسائل من 200 ـ 213 مرجع سابق .
  • 10. مباني تكملة المنهاج : 1 / 266 ـ 267 المسألة 216 مرجع سابق .
  • 11. مباني تكملة المنهاج :1 / 267 ـ 279 المسائل 217 ـ 226 مرجع سابق .
  • 12. مباني تكملة المنهاج : 1 / 217 ـ 279 ، المسائل 158 ـ 227 مرجع سابق .
  • 13. مباني تكملة المنهاج : 2 / 2 ـ 456 و المسائل منه 431 .
  • 14. مباني تكملة المنهاج : 1 / 118 ـ 217 و الحاشية المسألة 259 .
  • 15. القران الكريم: سورة النور (24)، الآية: 27 و 28، الصفحة: 352.
  • 16. راجع تفسير الأمثل للشيرازي ، و الميزان للطباطبائي .
  • 17. تفسير ابن كثير : 2 / 1447 .
  • 18. مباني تكملة المنهاج : 2 / 85 .
  • 19. المصدر السابق .
  • 20. مباني تكملة المنهاج :2 / 85 و 82 .
  • 21. مباني تكملة المنهاج : 1 / 227 ـ 245 ، المسألة 282 ـ 291 ، مرجع سابق .
  • 22. القران الكريم: سورة يس (36)، الآية: 40، الصفحة: 442.
  • 23. المصدر : كتاب حقوق الانسان عند اهل بيت النبوة و الفكر المعاصر .
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى