التعليممقالات

بناء الثقة…

يستوقف انتباهي بصورة كبيرة نوعية الشعار الذي يطلقه على أعماله سنويا المنتدى الاقتصادي العالمي بدافوس، و هو الشعار الذي يفترض فيه أن يكون متناغما مع مناخ العصر، و نظام التفكير العالمي. كما إنه يعبر عن رؤية قطاع كبير من نخبة العالم إلى طبيعة المشكلة العالمية، أو المشكلة الأكثر حضورا و تجليا و تأثيرا في النطاق العالمي، حسب تقدير هذه النخبة التي تضم شرائح من الاقتصاديين و السياسيين و الأكاديميين و التكنولوجيين و الإعلاميين، والتي تجتمع سنويا في منتدى دافوس، فقد وصل عدد المشاركين في منتدى هذا العام الذي عقد بين 23-28 من شهر يناير الماضي، إلى ما يقارب 2150 شخصا من نحو 99 دولة، بينهم 37 زعيم دينيا، و172 خبيرا أكاديميا، و71 ممثلا للمنضمات غير الحكومية، و 239 وجها عاما، و264 ممثلا للصحافة ووسائل الإعلام، بالإضافة إلى أكثر من 1300 شخص يمثلون الشركات و قطاعات الأعمال.
و شعار هذا العام تم اختياره بعناية فائقة كما ذكرت ذلك بعض التقارير العالمية، و هو”بناء الثقة”. و عن خلفيات وحكمة اختيار هذا الشعار يقول رئيس المنتدى كلاوس شفاب أن العام الماضي شهد انهيار الثقة في كثير من القطاعات التي تتشكل منها كل المجتمعات، ولذلك أصبحت مسألة استعادة الثقة واحدا من أهم التحديات التي توجهها القيادة في عصرنا الحاضر. واعتبر شفاب أن المنتدى يعد فرصة لابتكار أفكار جديدة، و وسيلة عملية للخروج بتحرك ملموس، و مناقشة الخطوات الضرورية لبناء الثقة في القيادة و المؤسسات من خلال منظور يعتمد على تعدد الأطراف المشاركة.
وفي سنة 1995م أصدر فرنسيس فوكوياما كتابا بعنوان “الثقة” جاء بعد كتابه الذي أثار جدلا عالميا واسعا في بداية التسعينيات من القرن الماضي، و هو كتاب “نهاية التاريخ”، و كتاب “الثقة” وإن جاء متصلا ولعله كان مكملا لكتاب “نهاية التاريخ” إلا أنه أقل تفاؤلا منه و يقينية وحذرا. و يرى فيه فوكوياما بأن أهم العبر التي نستخلصها من دراسة الحياة الاقتصادية هي أن إصلاح أحوال أية أمة، والحفظ على قدراتها التنافسية في السوق الاقتصادية يبقيان مشروطين بتوفر سمة ثقافية وحيدة، ألا وهي الثقة و مدى توفرها و تأصلها في المجتمع.
وفي النصف الثاني من شهر يناير الماضي من هذا العام 2003 م، و قبل ذهابه إلى منتدى دافوس الاقتصادي تحدث في بيروت رئيس الوزراء الماليزي محاضير محمد عن تجربة ماليزيا في النهوض و التنمية، و من الملاحظات ألافتة في حديثه قوله بأن الماليزيين شعروا بالنقص في عهد الحكم البريطاني فاعتقدوا بأنهم لن يستطيعوا أن يكونوا أكثر من فلاحين أو صيادين. ولن يصبحوا مهندسين وتقنيين ماهرين إلا إذا اكتسبوا بعض الثقة بأنفسهم، وبدون هذه الثقة لن يكون التصنيع ممكنا. و على هذا الأساس عمدت الحكومة الماليزية إلى تغيير ذهنية الناس و زرع الثقة في قدراتهم. واعتمد شعار لإقناع الماليزيين بأنهم يمكنهم القيام بأي عمل يقوم به شعب آخر، هذا الشعار هو ماليزية قادرة، و بامكاننا القيام بأي عمل إذا توفرت لدينا الإرادة و الاستعداد للتعلم. وهكذا تشجع الماليزيون على القيام بإعمال لم يحلموا بإنجازها من قبل. باتوا مستعدين لتسلق قمم الايفرست، و أبحرى ماليزي بمفرده حول العالم مسجلا رقما قياسيا معترفا به عالميا، و نزل ماليزي بالمظلة في القطب الشمالي مع سيارة ماليزية. من هنا ندرك فاعلية بناء الثقة في صنع إرادة التقدم و النهوض، و في بناء الأوطان و عمرانها، وفي خلق الاندماج الوطني، والتضامن الاجتماعي، والتطور الاقتصادي. وقد وجدت في شعار “بناء الثقة” مدخلا مهما بعد تأمل مستفيض في المشهد السياسي العربي الراهن الذي يوصف بدون مبالغة بأنه خطير للغاية، حيث يضع مصير الأمة على مفترق طرق، ونكاد نجهل ملامح واتجاهات هذه الطرق، ومآلات المصير. الوضع الذي يفرض على الجميع الانخراط في مراجعات نقدية شجاعة، والإصغاء إلى الصوت المختلف، و الإنصات إلى أكثر من رأي، والالتفات إلى ضرورة أن تعيد الحكومات العربية بناء الثقة مع شعوبها، وتولي هذا الأمر أكبر عنايتها، بعدما حصل من اهتزاز شديد وانحدار وترد خطيرين لهذه الثقة. فقد حان الوقت لأن تتواضع الحكومات العربية لشعوبها وتخفض لها الجناح، وتعيد النظر في رؤيتها للمواطن والمجتمع، فقوة الدولة ليس بإدخال الخوف في نفوس المواطنين، والدفاع عن هيبة الدولة ليس بإظهار الرهبة، وحفظ النظام ليس بالتكشير عن الأنياب. وإنما قوة الدولة في قوة المواطن، وشجاعة المواطن، وكرامة المواطن. والوصول إلى مثل هذه الحالة لابد أولا من بناء الثقة، وتعزيزها وترسيخها. وبناء الثقة ليس مجرد تعبير عن رغبات أو آمال، وإنما هي برامج وإنجازات وإرادة حقيقية. برامج في مجالات التربية والتعليم والتأهيل و البناء والتحضر، وإنجازات في مجالات التقدم الاجتماعي والتطور السياسي والتنمية الاقتصادية، وإرادة حقيقية تكون تجلياتها في الشفافية ونظام المؤسسات وسيادة القانون. وهذا يعني إن بناء الثقة هي أفعال وليس مجرد أقوال، هي ممارسات وليست لافتات، وهي خطط وبرامج وليست مجرد أفكار وتصورات، وهي في اجتماع الارادات وتضامنها وليس في تفرقها وتشتتها1.

  • 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الثلاثاء 17 18 فبراير 2003 م، العدد 13324.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى