مقالات

الزهد في قول وفعل أمير المؤمنين عليه السلام..

الزهد من أسمى الفضائل الأخلاقية وأعظمها أثراً في حياة الإنسان، لأن المتمتع بهذا الخلق الإنساني النبيل يقنع من الدنيا بالقليل ولا يجهد لتحصيل الكثير، ولا يفرح بما يحصل عليه، ولا يحزن على ما فاته من أمور الدنيا الفانية، والزاهد هو الشخص الذي امتلك القوة والإرادة ليقف عند حدود ما يريد من هذه الدنيا، فلا يسعى فيها لإحراز مال أو منصب أو جاه وعز ، أو امتلاك القصور والأراضي، بل كل ما يريد هو الأخذ من الدنيا ما يعينه على قطع الرحلة في سيره نحو الله عز وجل ليحصل على نعيم الجنة في الآخرة.

وقد كان الإمام علي”عليه السلام” من أزهد الزاهدين في الدنيا، ويروى أن ابن عباس دخل على أمير المؤمنين “عليه السلام” يوماً فوجده يرقع نعله فقال له: ” إنما نحن أحوج إليك لإصلاح أمورنا من إصلاحك لهذا النعل، فلم يجبني حتى فرغ من إصلاح النعل، ثم وضعه بجانب أخيه وقال” ضع ثمناً لهذا الزوج من النعال “قلت: “لا قيمة له” وعنى بذلك أنهما نعلان باليان ومستهلكان بالاستعمال ، فقال: “عليه السلام” مع كل هذا ما قيمته؟ قال ابن عباس” درهم أو بعض درهم” فقال “عليه السلام”: (أما والله إن هذين النعلين أفضل عندي وأحب إليّ من أمركم هذا، إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً).
ولذا ورد أن علياً ”عليه السلام” كان أزهد الناس بعد رسول الله”صلى الله عليه وآله” وكل من مارس الزهد في حياته أخذ عنه بعضاً مما كان عليه في هذا الخلق الرفيع، وكان لا يشبع من طعام قط، وكان أخشى الناس في المأكل والملبس وكان يقتات على فتات الخبز الشعير اليابس ، وقد ورد أنه في الليلة التي ضربه فيها ابن ملجم لعنه الله قدّمت إليه ابنته أم كلثوم عند إفطاره من الصيام طبقاً فيه قرصان من خبز الشعير وقصعة فيها لبن وملح جريش فلما فرغ من صلاته أقبل على فطوره، فلما نظر إليه وتأمله حرك رأسه وبكى بكاءً شديداً عالياً وقال: يا بنية: أتقدمين إلى أبيك إدامين في طبق واحد؟ أنا أريد أن اتبع أخي وابن عمي رسول الله “صلى الله عليه وآله”…… إلى أن قال: يا بنيّة والله لا آكل شيئاً حتى ترفعي أحد الإدامين فلما رفعته تقدم إلى الطعام فأكل قرصاً واحداً بملح الجريش، ثم حمد الله وأثنى عليه، ثم قام إلى صلاته”.
وللإمام علي”عليه السلام” في الزهد كلام ليس بالكثير عليه لو أن الناس كتبته بماء الذهب ووضعته في صدر بيوتها لها ونواديها ومن نماذج كلامه يقول “عليه السلام”: (أما بعد، فإن المرء قد يسره درك ما لم يكن ليفوته، ويسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه فليكن سرورك بما نلت من آخرتك، وليكن أسفك على ما فاتك منها، وما نلت من دنياك فلا تكثر به فرحاً، وما فاتك منها فلا تأسَ عليه جزعاً، وليكن همك في ما بعد الموت).
وفي نص آخر في الزهد يقول “عليه السلام”: (ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه “ثوبين باليين” ومن طعامه بقرصيه،…. وقال: “لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني في طمعي إلى تخير الأطعمة…. أأقنع من نفسي أن يقال هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر، فما خُلقت ليشغلني أكل الطيبات، كالبهيمة المربوطة همها علفها”).
وما ذكرناه من قول علي “عليه السلام” وفعله في الزهد هو نزر يسير ، فكيف أذا أردنا أن نستوفي الكلام في هذا المجال فضلاً عن الكلام في سائر صفاته الأخلاقية الأخرى التي لم يكن شأنه فيها أقل من حالة الزهد والقناعة.
ولذا، ففي أجواء الذكرى العطرة لولادة أمير المؤمنين “عليه السلام” نرفع أسمى آيات التهنئة والتبريك ليس للمسلمين فقط، بل لكل الناس لأن الإمام علي “عليه السلام” قد جسد في حياته الشريفة كل المبادىء والمثل والقيم الإنسانية الرفيعة أصدق تجسيد، بشهادة البعيد قبل القريب، والعدو قبل الصديق، وغير المسلم قبل المسلم. والحمد لله رب العالمين1.

  • 1. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ محمد توفيق المقداد حفظه الله.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى