مقالات

الدولة الدينية…

في العقود الثلاثة الأخيرة اكتسب الجدل المتعلق بتشكيل الدولة في المحيط الإسلامي أهمية كبرى عند الإسلاميين قبل كل شيء، ثم انسحب البحث إلى جميع التشكيلات والانتماءات فأصبح على رأس اهتمامات حتى من يصف نفسه بالحداثي بل والعلماني أيضاً، والسبب في ذلك يعود لأمور كثيرة، منها:

1. تحوُّلُ الكلامِ حول مشروع الدولة في الوسط الاسلامي إلى واقع خارجي بعد أن كان حبيس التنظير لمدة طويلة، فقد كانت الأدبيات الاسلامية تكتفي بالتنظير حول المشروع الاسلامي السياسي في القرنين التاسع عشر والعشرين بصيغ مختلفة، كتطبيق الشريعة والحكومة الاسلامية والدولة الاسلامية والحاكمية الاسلامية والاسلام هو الحل وولاية الفقيه وما إلى ذلك، مشعرة المثقف المسلم بأن العدالة السياسية والرفاه الاجتماعي لا يمكن تحققهما إلا بعد أن تجد هذه الصيغ حظها من التطبيق.

لكن في ثمانينات القرن العشرين بدأت هذه الصيغ تتجه نحو التطبيق الفعلي في الوسط الاسلامي الشيعي والسني، ففي إيران طبق مشروع الحكومة الاسلامية التي ينادي بها الإمام الخميني(ره) تحت شعار ولاية الفقيه، وفي السودان طبق المشروع الذي كان ينادي به الترابي لا أقل في مراحله الأولى وإن كان الترابي يتبرأ منه الآن، ومازالت كثير من الصيغ في حدود الطرح النظري ولم تحظ بعد بفرصة للتطبيق، كصيغة شورى الفقهاء للإمام الشيرازي(ره). وقد تباينت آراء الفقهاء والمفكرين الاسلاميين والكثير من المراقبين والمهتمين حول تطبيق هذه الصيغ وجدوائيتها في العصر الحديث.

2. بروز تساؤلات كثيرة حول النماذج القائمة حتى من قبل صنّاعها فضلاً عن سائر المعنيين والمراقبين سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي. فآية الله العظمى الشيخ حسين المنتظري (ره) الذي كان يُعَدُّ الشخصية الثانية من حيث الأهمية في قائمة صنّاع الثورة الاسلامية في إيران والذي عمل على تأسيس العمق النظري لمشروع الدولة المبني على نظرية ولاية الفقيه، صار ومن وقت مبكر يُفصِح وبشكل علني عن ملاحظاته النقدية ويصرِّح بأن المفهوم الذي أسس له في مطلع الثورة يتباين مع الواقع الفعلي للدولة، وهكذا الدكتور حسن الترابي الذي كان على رأس المنظِّرين للدولة في السودان التي تشكلت أعقاب الانقلاب الذي تزعمه البشير، يُنظَر إليه اليوم على أنه المعارض الأكثر حدةً ومواجهةً للنموذج السياسي القائم الذي تم تطبيقه في السودان. وإنما أستشهد بهذين الاسمين خصوصاً بغض النظر عن تبني آرائهما من عدمه لأنهما من أقطاب المنظرين لمشروع الدولة الاسلامية الحديثة، ومع ذلك برزتْ لهما ملاحظات نقدية جريئة حول النموذج المطبَّق، وما ذلك إلا للتدليل على بروز الكثير من التساؤلات والإشكالات حول إمكانية التطبيق الفعلي للمشروع السياسي الإسلامي خاصة الذي كانت تبشر به الكثير من الجهات الحركية الاسلامية.

ولم يتوقف الأمر عند هذا المستوى وإنما في السنوات الأخيرة أخذت حركة المراجعات للمشروع الإسلامي تتسع على المستوى الداخلي لتطال الأصول الفكرية المؤسِّسَة للمشروع السياسي، وكان للدكتور عبد الكريم سروش والدكتور محمد مجتهد شبستري – وهما من الأسماء التي كانت محسوبة لفترة على الدولة في إيران- مساهمات واضحة في هذا المجال، فأطروحاتهما المتعلقة بالثابت والمتغير – القبض والبسط في كلام سروش- والصُّرُط المستقيمة وإنسانية حقوق الإنسان والقراءة الهرمنوطيقية للنصوص وما أشبه هي في الحقيقة حَفْرٌ في داخل المباني الفكرية للمشروع السياسي الإسلامي، وأعقبتهما محاولات كثيرة تمثلت في كتابات محسن كديوار ومصطفى ملكيان وآخرين. وفي هذا السياق كان كتاب (شورى الفقهاء: دراسة فقهية أصولية) السابق من الناحية الزمنية للمحاولات المذكورة1لآية الله السيد مرتضى الشيرازي من أهم ما كتب في مجال التأسيس العلمي للمشروع السياسي الناقد للأطروحة القائمة.

وهذا ما كان ينشط الطرح النقدي النظري الذي يركز على الأصول الفكرية عند الكثير من الحركيين الاسلاميين الذين حُسِبُوا لفترة طويلة وساهموا بنسب مختلفة في بناء المشروع السياسي الاسلامي الحديث، فكتاب (ضد الاستبداد: الفقه السياسي الشيعي في عصر الغيبة)2 و (نظرية السلطة في الفقه الشيعي)3 – رسالة ماجستير- وكتاب (رجل السياسة: دليل في الحكم الرشيد)4 وجميعها للدكتور توفيق السيف، وكتاب (الفقيه والدولة: الفكر السياسي الشيعي)5 للدكتور فؤاد إبراهيم تُصنَّف ضمن أهم الأطروحات التي تناولت هذا البعد.

وينبغي التأكيد هنا بأن السجال الفكري ولَّد الكثير من الأطروحات المعارِضة والمؤيِّدة للمشروع السياسي القائم، فالأمر لا يتوقف عند ما أشرتُ إليه من مساهمات نقدية، ففي قبالها وربما أكثر منها توجد مساهمات مؤيِّدة للمشروع  السياسي الحالي حتى لو كانت لها بعض التحفظات على التطبيق الخارجي لكنها تدافع عن الأطروحة النظرية، وإنما لم أتعرض لها لأني لست في صدد الاستعراض للمساهمات الفكرية والسياسية للنخب الاسلامية بخصوص المشروع السياسي، وإنما أردت من هذ ا الاستشهاد التدليل على بروز الكثير من التساؤلات والاشكالات حول المشروع السياسي الاسلامي الحديث لا أكثر لتكون مدخلاً للبحث. 

وبشكل أوتوماتيكي أصبح هذا النمط من المساءلة على المستوى الداخلي من أهم المحفزات للنقد الخارجي، ولهذا انشغلت الكثير من الدوائر والشخصيات الفكرية ووسائل الإعلام في العالم الإسلامي – عربيُّها وأعجميُّها- إما بنقد المشاريع القائمة من جهة تعبيرها عن الطرح الإسلامي أو عدمه، وإما بتقديم خيارات سياسية أخرى هي أوفق في نظرهم في تمثيلها لمقاصد التشريع الإسلامي، وإما برفض الإسقاطات القسرية للخيار الإسلامي واعتبار الخيار الإنساني هو الخيار الوحيد في إدارة المجتمعات والدول نظراً لأن الدين ما جاء بصيغة تعبدية للدولة وأنها من أجلى المصاديق التي يعود الأمر فيها لعوامل الزمان والمكان.

3. تقديم خيارات عملية مغايرة للخيارات القائمة على المستوى السني والشيعي، وأهمها الخيار التركي والعراقي، فالخيار الإسلامي لإدارة الدولة الذي قدّمه حزب الرفاه التركي السابق ثم حزب الفضيلة وأخيراً حزب العدالة والتنمية منذ نجم الدين أربكان ومحمد رجائي قوطان وإلى رجب طيب أردوغان خيار لا نظير له في الساحة الإسلامية، قال عنه عبد الله غول الرئيس التركي ونائب أردوغان في الحزب “لا تسمونا إسلاميين، نحن حزب أوروبي محافظ حديث، لا نعترض إذا وصفنا بأننا ديمقراطيون مسلمون على غرار الديمقراطيين المسيحيين في الأقطار الأوروبية الأخرى”6، وبالرغم من معارضة هذا الخيار للعلمانية ومبادئ أتاتورك التي قامت عليها الدولة الحديثة في تركيا، إلا أنه ينأى بنفسه عن استخدام الشعارات الدينية في خطاباته السياسية، ويعلن احترامه للحريات الدينية والفكرية، ويرفض التعصب لزعيم واحد حتى النهاية7.

وقد لفت هذا الخيار نظر الكثير من المراقبين لدرجة عَدَّه البعض كالكاتب الليبي فرج العشة النموذج السياسي الإسلامي الناجح والخيار الأكثر معقولية في الزمن المعاصر، فقد قال في كتابه نهاية الأصولية ومستقبل الاسلام السياسي “إن مشاريع الاسلام السياسي سقطت بينما تحول نظام الحكم الاسلامي في تركيا الآن إلى نموذج للنجاح والتطور وإلى حكم علماني يقوم على روحية الإسلام”8.

هذا على المستوى السني، وأما على المستوى الشيعي فالخيار العراقي منذ البداية لم يكن في حسبانه تطبيق المنهج المطبَّق في إيران، وإنما كان ينحو باتجاه آخر ويفترض صيغة أخرى مغايرة، بالرغم من أن كثيراً من القائمين عليه هم من علماء الدين والمرجعيات الشيعية، بل وكثير منهم على صلة وثيقة بالجهات الحاكمة في إيران وحظوا بدعم كبير من قبلهم وعاشوا في كنفهم أكثر من عشرين سنة، كما أن غالبية الشعب العراقي شيعية، ومع هذا ما كان الخيار الإيراني حاضراً في المعادلة السياسية عند النخب العراقية الحوزوية وغيرها، لا لمجرد الإختلاف الحاصل بين البلدين من حيث الإستعداد الشعبي والكثافة البشرية وتعدد الشركاء وتدخل القوى الخارجية وما إلى ذلك، بل لعدم القناعة بمثل هذا الخيار إما من حيث الجدوائية أو المشروعية.

4. ظهور بعض الثغرات والنواقص أو لا أقل الصعوبات عند السعي لتطبيق النموذج الاسلامي على الدولة الحديثة خصوصاً الاقتصادي والسياسي، وذلك أن الشعار الذي كان ينادي به الاسلاميون قبل تشكيل الدولة يدَّعي قدرة النظرية الاسلامية على تغطية سائر مناحي الحياة، وهو ما يفترض وجود حكم تفصيلي لسائر الفروع المستجدة المتعلقة ببناء الدولة وإدارة المجتمع، لكن ما أن تحقق الانتقال من المعارضة إلى الدولة حتى بدأت الصعوبات تواجه القائمين على الدولة، من جهتين: الأولى: كثرة الجزئيات والموارد التفصيلية غير المغطّاة من العمومات المؤسَّس لها سلفاً، والثانية: تعارض بعض الجزئيات المرتبطة بنظام الدولة الحديث مع ما يفترضه النموذج الاسلامي. وفي الجهتين تبرز فروع القضايا السياسية والاقتصادية على رأس القائمة، كالحريات والحدود والمعاملات البنكية والمالية وما أشبه، ووجه الصعوبة في مثل هذه الموارد إما لمعارضة الرؤية المؤسَّسة دينياً مع القانون الدولي، أو لصعوبة التطبيق كقاعدة السبق وقاعدة الأرض لله ولمن عمَّرها، لذلك كثيراً ما يلجأ المشرِّع أو السياسي للتوسل ببعض المخارج الشرعية للالتفاف على التعارض بين النموذج الإسلامي المفترض والنموذج العصري المتداول، أو لسد بعض مناطق الفراغ التشريعي التي تواجه المشرِّع الإسلامي في بعض الأحيان.

في ظل تعاظم الكلام حول هذه الأمور الأربعة أخذت تسود في الوسط الفكري والسياسي قناعة بعدم جدوائية النموذج الاسلامي وضرورة الاستسلام للأطروحات الانسانية في إدارة الدولة والمجتمع الحديث، وبشكل طبيعي برزت نظرية العقد الاجتماعي لأنها الأكثر شيوعاً في هذا العصر، خاصة أن الحضارة الحديثة التي تعتبر النموذج الأرقى من حيث القدرة الاقتصادية والرفاه الاجتماعي وسعة الحرية السياسية تعتمد هذه النظرية كأساس في الحكم والإدارة، مما يشعر بجدوائيتها وأهليَّتها للتطبيق في المحيط الاسلامي خاصة مع إمكانية البحث عن صيغة توافقية تجمع بين هذه النظرية الإنسانية والرؤية الاسلامية.

فعلاً أخذ هذا التصور يلقى قبولاً وتأييداً في الوسط الفكري والسياسي سواء عند من شارك في التجربة السياسية الاسلامية الحديثة في خندق المعارضة أو الدولة، أو عند المفكرين النظريين ليس على المستوى الليبرالي والعلماني فحسب وإنما على المستوى الديني أيضاً. وهو الأمر الذي جعل هذه النظرية على طاولة البحث والتدقيق عند الكثير من المفكرين المعاصرين، خصوصاً مع التفكير في تطبيقها في ظل مجتمع مسلم وبيئة إسلامية.

على كل حال التجربة الإسلامية المعاصرة في الحكم بحاجة إلى مزيد من البحث والمراجعة بل ومزيد من التطوير والفلترة.

  • 1. صدر عن مؤسسة الفكر الاسلامي بتاريخ 1- 1- 1996، ولكن بداية صدوره كان في إيران في الثمانينات من القرن العشرين.
  • 2. صدر عن المركز الثقافي العربي بتاريخ 1- 1- 1999
  • 3. صدر عن المركز الثقافي العربي بتاريخ 1- 6- 2002
  • 4. صدر عن الشبكة العربية- بيروت بتاريخ 11- 4- 2011
  • 5. صدر عن دار الكنوز الأدبية بتاريخ 1- 1- 1998
  • 6. من كتاب “نهاية الأصولية ومستقبل الإسلام السياسي” فرج العشة، دار رياض الريس للكتب والنشر. أنظر على النت موقع رويترز العربي.
  • 7. أنظر على النت موقع المعرفة، تحت عنوان “حزب العدالة والتنمية”، بتاريخ 3- 10- 2004.
  • 8. نهاية الأصولية ومستقبل الاسلام السياسي، مصدر سابق.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى