مقالات

الأقوال في الخير والسعادة والتوفيق بينها

إعلم أن الغاية في تهذيب النفس عن الرذائل وتكميلها بالفضائل هو الوصول إلى الخير والسعادة. والسلف من الحكماء قالوا: إن ” الخير ” على قسمين مطلق ومضاف، والمطلق هو المقصود من إيجاد الكل، إذ الكل يتشوقه وهو غاية الغايات، والمضاف ما يتوصل به إلى المطلق. و ” السعادة ” هو وصول كل شخص بحركته الإرادية النفسانية إلى كماله الكامن في جبلته.
وعلى هذا فالفرق بين الخير والسعادة أن الخير لا يختلف بالنسبة إلى الأشخاص والسعادة تختلف بالقياس إليهم.
ثم الظاهر من كلام أرسطاطاليس إن الخير المطلق هو الكمالات النفسية والمضاف ما يكون معدا لتحصيلها كالتعلم والصحة، أو نافعا فيه كالمكنة والثروة.
وأما السعادة فعند الأقدمين من الحكماء راجعة إلى النفوس فقط، وقالوا ليس للبدن فيها حظ، فحصروها في الأخلاق الفاضلة، واحتجوا على ذلك بأن حقيقة الإنسان هي النفس الناطقة والبدن آلة لها، فلا يكون ما يعد كمالا له سعادة للانسان. وعند المتأخرين منهم كأرسطو ومن تابعه راجعة إلى الشخص حيث التركيب، سواء تعلقت بنفسه أو بدنه، لأن كل ما يلائم جزءا من شخص معين فهو سعادة جزئية بالنسبة إليه، مع أنه يتعسر صدور الأفعال الجميلة بدون اليسار، وكثرة الأعوان والأنصار، والبخت المسعود، وغير ذلك مما لا يرجع إلى النفس، ولذا قسموا السعادة إلى ما يتعلق بالبدن من حيث هو كالصحة واعتدال المزاج، وإلى ما يتوصل به إلى إفشاء العوارف، ومثله مما يوجب استحقاق المدح كالمال وكثرة الأعوان، وإلى ما يوجب حسن الحديث وشيوع المحمدة، وإلى ما يتعلق بإنجاح المقاصد والأغراض على مقتضى الأمل، وإلى ما يرجع إلى النفس من الحكمة والأخلاق المرضية.
وقالوا كمال السعادة لا يحصل بدون هذه الخمسة، وبقدر النقصان فيها تنقص. قالوا وفوق ذلك سعادة محضة لا تدانيها سعادة، وهو ما يفيض الله سبحانه على بعض عباده من المواهب العالية، والإشراقات العلمية، والابتهاجات العقلية بدون سبب ظاهر.
ثم الأقدمون لذهابهم إلى نفي السعادة للبدن صرحوا بأن السعادة العظمى لا تحصل للنفس ما دامت متعلقة بالبدن، وملوثة بالكدورات الطبيعية، والشواغل المادية، بل حصولها موقوف عنها، لأن السعادة المطلقة لا تحصيل لها ما لم تصر مشرقة بالإشراقات العقلية، ومضيئة بالأنوار الإلهية، بحيث يطلق عليها اسم التام، وذلك موقوف على تخلصها التام عن الظلمة الهيولانية، والقصورات المادية.
وأما المعلم الأول وأتباعه فقالوا إن السعادة العظمى تحصل للنفس مع تعلقها بالبدن أيضا، لبداهة حصولها لمن استجمع الفضائل بأسرها، واشتغل بتكميل غيره، وما أقبح أن يقال مثله ناقص وإذا مات يصير تاما، فالسعادة لها مراتب، ويحصل للنفس الترقي في مدارجها بالمجاهدة إلى أن تصل إلى أقصاها وحينئذ يحصل تمامها وإن كان قبل المفارقة، وتكون باقية بعدها أيضا.
ثم المتأخرون عن الطائفتين من حكماء الإسلام قالوا إن السعادة في الأحياء لا تتم إلا باجتماع ما يتعلق بالروح والبدن، وأذناها أن تغلب السعادة البدنية على النفسية بالفعل، إلا أن الشوق إلى الثانية، والحرص على اكتسابها يكون أغلب، وأقصاها أن تكون الفعلية والشوق كلاهما في الثانية أكثر، إلا أنه قد يقع الالتفات إلى هذا العالم وتنظيم أموره بالعرض.
وأما في الأموات فيختص بما يتعلق بالنفس فقط لاستغنائهم عن الأمور البدنية، فتختص السعادة فيهم بالملكات الفاضلة، والعلوم الحقة اليقينية، والوصول إلى مشاهدة جمال الأبد، ومعاينة جلال السرمد. وقالوا إن الأولى لشوبها الزخارف الحسية، ولكدورات الطبيعية ناقصة كدرة، وأما الثانية فدخلوها عنها تامة صافية، لأن المتصف بها يكون أبدا مستنيرا بالأنوار الإلهية، مستضيئا بالأضواء العقلية، مستهترا 1 بذكر الله وأنسه، مستغرقا في بحر عظمته وقدسه، وليس له التفات إلى ما سوى ذلك، ولا يتصور له تحسر على فقده لذة أو محبوب، ولا شوق إلى طلب شئ مرغوب، ولا رغبة إلى أمر من الأمور، ولا رهبة من وقوع محذور، بل يكون منصرفا بجزئه العقلي مقصورا همه على الأمور الإلهية من دون التفات إلى غيرها.
وهذا القول ترجيح لطريقة المعلم الأول، من حيث إثبات سعادة للبدن، ولطريقة الأقدمين من حيث نفي حصول السعادة العظمى للنفس ما دامت متعلقة بالبدن. وهو ” الحق المختار ” عندنا، إذ لا ريب في كون ما هو وصلة إلى السعادة المطلقة سعادة إضافية. ومعلوم أن غرض القائل يكون متعلقات الأبدان كالصحة والمال والأعوان سعادة أنها سعادة إذا جعلت آلة لتحصيل السعادة الحقيقية لا مطلقا، إذ لا يقول عاقل إن الصحة الجسمية، والحطام الدنيوي سعادة، ولو جعلت وسيلة إلى اكتساب سخط الله وعقابه، وحاجبة عن الوصول إلى دار كرامته وثوابه، وكذا لا ريب في أن النفس ما دامت متعلقة بالبدن مقيدة في سجن الطبيعة لا يحصل لها العقل الفعلي، ولا تنكشف لها الحقائق كما هي عليه انكشافا تاما، ولا تصل إلى حقيقة ما يترتب على العلم والعمل من الابتهاجات العقلية واللذات الحقيقية. ولو حصلت لبعض المتجردين عن جلباب البدن يكون في آن واحد ويمر كالبرق الخاطف.
هذا وقد ظهر من كلمات الجميع أن حقيقة الخير والسعادة ليس إلا المعارف الحقة، والأخلاق الطيبة، والأمر وإن كان كذلك من حيث أن حقيقتهما ما يكون مطلوبا لذاته، وباقيا مع النفس أبدا وهما كذلك، إلا أنه لا ريب في أن ما يترتب عليهما من حب الله وأنسه، والابتهاجات العقلانية، واللذات الروحانية مغاير لهما من حيث الاعتبار، وإن لم ينفك عنهما، ومطلوبيته لذاته أشد وأقوى، فهو باسم الخير والسعادة أولى وأحرى، وإن كان الجميع خيرا وسعادة. وبذلك يحصل الجمع بين أقوال أرباب النظر والاستدلال، وأصحاب الكشف والحال، وأخوان الظاهر من أهل المقال، حيث ذهبت (الفرقة الأولى) إلى أن حقيقة السعادة هو العقل والعلم، و (الثانية) إلى أنها العشق، و (الثالثة) إلى أنها الزهد، وترك الدنيا  2.

  • 1. مستهترا به على بناء اسم المفعول أي مولع به لا لمتحدث بغيره.
  • 2. المصدر: كتاب جامع السعادات، العلامة محمدمهدي النراقي رحمه الله.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى