السيد علي الحسيني الصدر
الموضوع : الأخلاق
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-654-5
الصفحات: ٢٤٤
(٥) وإصلاح ذات البَين
ذاتُ البين : هي الأحوال والعلاقات التي تكون بين القوم .
وإصلاحها : هو تعهّدها ، وتفقّدها ، وطلب الصلاح لها .
فمعنى إصلاح ذات البين هو إصلاح الفساد الذي يحدث بين القوم ، أو بين العائلة ، أو بين المؤمنين .
وهو من معالي الأخلاق ، ومكارم الأعمال .
وقد أمر به ونصّ عليه في القرآن الكريم والسنّة الشريفة .
قال الله تعالى : ـ ( فَاتَّقُوا اللَّـهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ )(١) .
وقال عزّ اسمه : ـ ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّـهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )(٢) .
وفي الحديث في وصيّة أمير المؤمنين عليهالسلام للإمامين الحسنين عليهماالسلام : ـ
( أُوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ، ونظم أمركم ،
__________________________________
(١) سورة الأنفال : الآية ١ .
(٢) سورة الحجرات : الآية ١٠ .
وصلاح ذات بينكم .
فإنّي سمعت جدّكما صلىاللهعليهوآله يقول : ـ
صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام )(١) .
وفي حديث سابق الحاج قال :
مرَّ بنا المفضّل ، وأنا وخَتَني(٢) نتشاجر في ميراث ، فوقف علينا ساعة ، ثمّ قال لنا : تعالوا إلى المنزل .
فأتيناه فأصلح بيننا بأربعمائة درهم ، فدفعها إلينا من عنده ، حتّى إذا استوثق كلّ واحد منّا من صاحبه قال : ـ
أما إنّها ليست من مالي ، ولكن أبو عبد الله عليهالسلام أمرني إذا تنازع رجلان من أصحابنا في شيء أن اُصلح بينهما وأفتديها من ماله ، فهذا مال أبي عبد الله عليهالسلام(٣) .
وفي حديثٍ آخر عن الإمام الصادق عليهالسلام أنّه قال :
( صدقةٌ يحبّها الله إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا ، وتقاربٌ بينهم إذا تباعدوا )(٤) .
وعنه عليهالسلام : ـ
( من أصلح بين اثنين فهو صديق الله في الأرض ، وإنّ الله لا يُعذّبُ من هو صديقه )(٥) .
وعنه عليهالسلام : ـ
( أكرم الخلق على الله بعد الأنبياء ؛ العلماء الناصحون ، والمتعلِّمون
__________________________________
(١) نهج البلاغة / الرسالة ٤٧ . واعلم أنّه فُسّرت الصلاة والصيام في الحديث الشريف بصلاة التطوّع والصوم المستحبّ ، كما وأنّ الفرق بين الصلاح لعلّه هو أنّ الإصلاح يكون في صورة وجود الفساد في البين ، بينما الصلاح يكون بإيجاده حتّى لو لم يكن فسادٌ في البين ، فيسعى في عدم وقوعه ، ولعلّه لذلك عُبّر في هذا الحديث الشريف بصلاح ذات البَيْن .
(٢) الخَتَن : زوج البنت أو زوج الاُخت يعني النسيب .
(٣) و (٤) اُصول الكافي / ج ٢ / ص ٢٠٩ .
(٥) جامع الأخبار / ص ١٨٥ / ح ١٤١ .
الخاشعون ، والمصلح بين الناس في الله )(١) .
وعنه عليهالسلام : ـ
( من أصلح بين الناس أصلح الله بينه وبين العباد في الآخرة ، والإصلاح بين الناس من الإحسان ... )(٢) .
وعنه عليهالسلام : ـ
( ملعونٌ ملعون رجلٌ يبدؤه أخوه بالصلح فلم يصالحه )(٣) .
وقمّة المصلحين بين ذات البين هم أهل بيت النبيّ وعترته صلوات الله عليهم أجمعين كما تدلّ عليه سيرتهم المباركة .
فهذا رسول الله صلىاللهعليهوآله أصلح بين القبيلتين العربيّتين المعروفتين في المدينة الأوس والخزرج .
وكانت الحرب قد دامت بينهما في الجاهليّة مائة وعشرين سنة ، إلى أن جاء دين الإسلام ، وهاجر الرسول صلىاللهعليهوآله إلى المدينة فآخى بينهما فصاروا إخوة متحابّين .
وعلى سيرة الرسول ولده الإمام الحسين عليهالسلام الذي كانت نهضته المقدّسة لطلب الإصلاح في اُمّة جدّه وشيعة أبيه .
وعلى سيرته أيضاً ولده الإمام الصادق عليهالسلام ، الذي اعتنى بالإصلاح بين المؤمنين حتّى بدفع المال من نفسه .
وتلاحظ نصحه وإصلاحه أيضاً في حديث إبراهيم بن مهزم قال : ـ
خرجت من عند أبي عبد الله عليهالسلام ليلةً ممسياً ، فأتيت منزلي بالمدينة ، وكانت اُمّي ـ خالدة ـ معي ، فوقع بيني وبينها كلامٌ ، فأغلظتُ لها .
__________________________________
(١) جامع الأخبار / ص ١٨٥ / ح ١٤٢ .
(٢) جامع الأخبار / ص ١٨٥ / ح ١٤٣ .
(٣) بحار الأنوار / ج ٧٤ / ص ٢٣٦ .
فلمّا كان من الغد ، صلّيت الغداة ، وأتيت أبا عبد الله عليهالسلام ، فلمّا دخلت عليه قال لي مبتدئاً : ياابن مهزم ما لكَ ولخالدة ؟ أغلظتَ في كلامها البارحة ، أما علمتَ أنّ بطنها منزلٌ قد سكنته ، وأنّ حِجرَها مهدٌ قد غمزته ، وثديها وعاءٌ قد شربته ؟!
قال : قلتُ بلى .
قال عليهالسلام : فلا تغلظ لها(١) .
فما أحسن هذه الصفة الممدوحة ، إصلاح ذات البين بين المؤمنين ، يفعلها الإنسان تقرّباً إلى الله تعالى ، وتحصيلاً لسرور أهل البيت عليهمالسلام بصلاح شيعتهم ومواليهم .
فإنّهم يعرفون ذلك ويعلمونه بإذن الله تعالى ويطّلعون عليه كما لاحظته في حديث إبراهيم بن مهزم الآنف الذِّكر ، وتعرف مفصّل بيانه في أحاديث علم الإمام عليهالسلام(٢) .
__________________________________
(١) بحار الأنوار / ج ٧٤ / ص ٧٦ / ب ٢ / ح ٦٩ .
(٢) لاحظ كتاب في رحاب الزيارة الجامعة / ص ٥٠ .
(٦) وإفشاء العارفة وسترِ العائبة
الإفشاء : هو النشر والإظهار ، يُقال : فشا الأمر إذا ظهر وانتشر .
والعارفة : هو المعروف ، والأمر الحَسَن ، أي الخصلة العارفة الحسنة .
والسَّتر : بفتح السين ، مصدرٌ بمعنى عدم الإفشاء .
كما أنّ السِّتر بكسر السين بمعنى الشيء الساتر ، نظير الذَبح فتحاً بمعنى عمليّة الذبح ، والذِبح كسراً بمعنى الشيء المذبوح ، ومنه قوله تعالى : ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ )(١) .
والعائبة : مقابل العارفة ، وهي الخصلة العائبة أي ذات العيب .
ومن مكارم الأخلاق التي هي حلية الصلحاء ، وزينة الأتقياء ، أن يُظهر الإنسان محاسن المؤمنين وخصالهم المعروفة وأعمالهم الحسنة ..
وفي مقابل ذلك يستر على المؤمنين خصالهم السيّئة ، ومعايبهم الكريهة ، ممّا صدرت منهم إشتباهاً ، وسوّلتها لهم أنفسهم الأمّارة بالسّوء ، فأخفوها خجلاً ، فلا ينبغي أن يفضحهم الإنسان عَلَناً .
__________________________________
(١) سورة الصّافات : الآية ١٠٧ .
وأيّ إنسان يخلو كاملاً من الذنب ، ويخلص من العيب غير المعصومين عليهمالسلام ، وقد خُلق الإنسان ضعيفاً .
( وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي )(١) .
لكن يلزم على الإنسان أن يجدّ ويجتهد ويسعىٰ في كفّ نفسه عن الذنب والعصيان ، وإذا سوّلت له نفسه وغلبه هواه فأذنب بادرَ إلى التوبة ، واستشعر في نفسه الندم على تفريطه ، حتّى يغفر الله له ، فإنّ التوبة تجعل الفاسق الممقوت وليّاً من أولياء الله تعالى كما في قضيّة الشابّ الفاسق المنقول(٢) .
وعلى كلّ حال يلزم ستر عائبة المؤمنين ، حفظاً لكرامتهم ، ونشر معروفهم ، ترغيباً في استقامتهم .
وهو خُلقٌ كريم ، وصفةٌ راقية ، والتي تعدّ من الصفات الإلهيّة والأخلاق الطيّبة ، كما تلاحظه في الدعاء الجامع الشريف : ـ
( يَا مَنْ أَظْهَرَ الْجَمِيلَ وَسَتَرَ الْقَبِيحَ ، يَا مَنْ لَمْ يُؤَاخِذْ بِالْجَرِيرَةِ وَلَمْ يَهْتِكِ السِّتْرَ )(٣) .
وكلتا هاتين الصفتين ذات آثار طيّبة ..
فإفشاء العارفة ونشر الخِّصال المحمودة يوجب انتشار الصفات الحسنة في المؤمنين ، والترغيب فيها ، والحثّ عليها ، ورغبة الآخرين فيها ، ثمّ قيام أخلاق المجتمع عليها .
كما وأنّ ستر العائبة يوجب حفظ كرامة المؤمنين ، وموت الباطل بترك ذكره ، وعدم التجاهر بالفسق ، وفسح المجال أمام من صدرَ منه القبيح ليحسّن أعماله بالستر عليه ، ويرتدع ويخجل من العود إليه ، وبالتالي زوال العائبات والقبائح عن المجتمع .
__________________________________
(١) سورة يوسف : الآية ٥٣ .
(٢) رعايةً للاختصار راجع لمعرفته كتاب شجرة طوبىٰ / ج ٢ / ص ٤٤٦ .
(٣) مفاتيح الجنان / الباقيات الصالحات / ص ٣٨٠ .
وخصوصاً ستر عيوب المؤمنين الذي هو من معالي الأخلاق المربّية للمؤمن والمبدّلة للفساد إلى الصلاح ، والدالّة على كرامة نفس الساتر ، وفضيلة روحه .
والمثل الأعلى لهذه الصفة الطيّبة هم أهل البيت عليهمالسلام ، فكم ذكروا فضائل الطيّبين ونشروها ، ورغّبوا في مآثر الكرام وأفشوها ، كما تلاحظه من ذكرهم عليهمالسلام فضائل سلمان وأبي ذرّ والمقداد وعمّار ، والطيّبين أصحاب أمير المؤمنين عليهالسلام ، والشهداء أصحاب الإمام الحسين عليهالسلام ، والفقهاء أصحاب الإمام الصادق عليهالسلام .
وفي الطرف المقابل كم عرفوا معايب الناس وستروها عليهم ، بل أغضوا وعفوا عنهم ، ولم يعيبوا أحداً ، ولم يلوموا مؤمناً .
بل هذّبوا شيعتهم على الستر والعفاف ، وعدم تتبّع العثرات ، ومن الجهة الثانية أصلحوا عيوب المؤمنين وأرشدوهم إلى صفات الصالحين ، ووعظوهم بخير مواعظ المتّقين .
فاهتدى بذلك الخلق الكثير ممّن كان قابلاً لمواعظهم ، ومتقبّلاً لإرشادهم وأنشئوا بذلك الجيل الصالح ، والجمع الفاضل .
والأحاديث الشريفة في قول الخير في المؤمنين ، وستر عوراتهم متظافرة ، منها : ـ
قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : يا معشر مَن أسلم بلسانه ، ولم يخلص الإيمان إلى قلبه ، لا تذمّوا المسلمين ، ولا تتبّعوا عوراتهم .
فإنّه من تتبّع عوراتهم تتبّع الله عورته ، ومَن تتبّع الله تعالى عورته يفضحه ولو في بيته(١) .
وعن رسول الله صلىاللهعليهوآله أيضاً :
كان بالمدينة أقوام لهم عيوب ، فسكتوا عن عيوب الناس فأسكت الله عن
__________________________________
(١) أُصول الكافي / ج ٢ / ص ٢٦٤ / ح ٢ .
عيوبهم الناس ، فماتوا ولا عيوب لهم عند الناس .
وكان بالمدينة أقوام لا عيوب لهم ، فتكلّموا في عيوب الناس ، فأظهر الله لهم عيوباً لم يزالوا يُعرفون بها إلى أن ماتوا(١) .
وعن أمير المؤمنين عليهالسلام أنّه قال : ـ
استر عورة أخيك ، لما تعلمه فيك (٢) .
وعن الإمام الصادق عليهالسلام : ـ
أبعد ما يكون العبد من الله أن يكون الرجل يواخي الرجل وهو يحفظ عليه زلّاته ليعيّره بها يوماً مّا(٣) .
ومن الآثار الطيّبة لستر عيوب المؤمنين تحسين سلوكهم ، وإقلاعهم عن القبائح كما تلاحظه في القضيّة التي حكاها بعض السادة الأجلّاء عن المرحوم السيّد أحمد الروحاني القمّي الذي كان أحد أفاضل علماء طهران .. حدّث ما حاصله أنّه : ـ
في أحد الأيّام إتّصل بي تلفونيّاً أحد أصدقائي ، يدعوني إلى تشييع أحد التجّار الذين لم أعرفه أنا ، لكن قال لي الصديق : إحضر تشييعه فإنّه مؤمن ، طيّب ، كان ذا نفسٍ عالية ، يستحق الحضور .
ففكّرتُ في نفسي أنّه تشييع مؤمن ، وهو عملٌ مستحبّ ، وصمّمتُ على الحضور ، وإن لم أكن أعرفه .
فذهبت في الوقت المقرّر إلى التشييع ، وطبعاً بما أنّي لم أعرف الميّت لم أعرف أولاده وذويه .
__________________________________
(١) الوسائل / ج ١٥ / ص ٢٩٢ / ح ١٠ .
(٢) غرر الحكم / ص ١١٠ / ح ٦٧ .
(٣) اُصول الكافي / ج ٢ / ص ٢٦٥ / ح ٧ .
إلّا أنّي رأيت أحد المشيّعين كثير البكاء جدّاً ، مع أنّه لم يظهر عليه أنّه من أقرباء الميّت ، ولم يُعزّه أحد ، لكنّه أكثر الناس بكاءً في التشييع ، وحين الدفن ، بحيث كان يبكي بكاءً مرّاً كبكاء الثكلى على عزيزها .
ولكي أتوصّل أنا إلى حكمةٍ في المقام من بكاء هذا أزيد من الآخرين ، حتّى من أبناء المرحوم جئت إلى جنبه بهدوء ، وسألته لماذا تبكي هكذا على المرحوم ؟
قال : إنّ لي مع المرحوم قضيّةً تدعوني إلى أن لا أنساه طول عمري ، ويُلزمني أن أبكي لفقده طول حياتي .
فقلت : ـ وهل يمكنك إخباري بذلك ؟
قال : نعم ، إنّي كنت رجلاً فقيراً كثير العائلة ، وضعيف الكسب ، لا يفي كسبي بعيشي ، وكنت أعجز حتّى عن استئجار دارٍ للسكن ، وعن إطعام أهلي أحياناً ، وضاقت بي الحياة جدّاً من الجانب المالي .
وذات يوم في وقت الظهر ولم يكن لي شيء أشتري به غذاءً لأهلي ، فجئت إلى المسجد لاُصلّي جماعة صلاتَي الظهر والعصر ، ووصلتُ متأخّراً عن أوّل وقت الصلاة ، فوقفتُ في آخر صفٍّ من صفوف الجماعة وحدي ، ليس أحدٌ على يساري ولا علىٰ يميني .
ثمّ جاء شخص آخر شابٌّ محترم ( وهو هذا المرحوم ) فوقف بجنبي ، وعلى الفور أخرج مفاتيحه ، وخاتماً كان معه من جيبه ، وجعله أمامه من طرفي ، واقتدى في صلاته بإمام الجماعة ، وقال : الله أكبر .
وفي أثناء الصلاة وقع نظري أنا إلى ذلك الخاتم الذي كان أمامه ، فرأيته خاتماً جميلاً جدّاً ، وله بريق عجيب يجذب النظر ، ويظهر منه أنّه خاتمٌ ثمين .
فجلب نظري ذلك الخاتم ، ووسوس لي الشيطان في أن أسرقه وأبيعه ، وأتعايش به ، وأتخلّص مدّةً من ضيق المعاش ..
وهذا التصميم كان لأوّل مرّة في حياتي ، حيث لم أرتكب سرقة في حياتي قطّ .
فرأيت أنّ الرجل غارقٌ في صلاته مع ربّه ، ويمكنني أن أسرق الخاتم بدون أن يلتفت إلى هذا الاختلاس .
ومع ذلك صرتُ في تردّدٍ في الإقدام وعدم الإقدام على هذا العمل القبيح .. السرقة ، وفي الصلاة ، وفي المسجد ، معصية في معصية .
لكن في الأخير وقبل انتهاء الصلاة صمّمتُ على ذلك بأن أسرقه أثناء سجوده ، وخامرتني هذه الفكرة إلى السجود الأخير من الركعة الأخيرة ، فسجد الرجل ، وسجدتُ بعده ، ووضعت يدي حين السجود على الخاتم ، وسحبته إلى نفسي ، وحملته معي حين رفع الناس رأسهم من السجود ، وضممته في يدي حين التشهّد ، إلى أن سلّم إمام الجماعة ، وفرغنا من الصلاة .
وتصوّرت أنا في نفسي أنّ الرجل لم يلتفت إلى سرقتي ، حيث لم يظهر منه التفحّص عن الخاتم .
ففكّرتُ هل أقوم بسرعة وأذهب قبل أن يلتفت الرجل ، أو أجلس كأنّي لم أرتكب شيئاً .
وبين ما أنا كذلك إذ وضع الرجل يده على يدي التي فيها الخاتم وقال لي بهدوء : الخاتَم لك ، ولكن قُل لي لماذا سرقته ؟
فاصفرّ وجهي وقلت له : أنا لأوّل مرّة أسرق لضغط الفقر عليَّ ، ولم أفعل هذا طول حياتي .
قال : ـ نعم ، صحيح ، يظهر عليك اضطرابك واصفرار وجهك ، ولكن لماذا أقدمت على السرقة ؟
قلت : لأجل حالتي هذه ، وأخبرته بفقري ، وضعف معيشتي ، وأنّه ليس لي الآن حتّى ما أشتري به غذاء لأهلي .
فقال : الخاتم لك ، حلالك ، واسمح لي أي اُخبرك بثمن هذا الخاتم وقضيّته .
إنّي رجلٌ متمكّن ، وحديث عهدٍ بالزواج ، وقد سافرت بعد زواجي أوّل سفرة تجاريّة .
وأنا الآن راجع من سفري توّاً ، وقد وصلت الآن ظهراً ففكّرتُ أن اُصلّي أوّلاً ما دام حان وقت الظهر ، ثمّ أذهب إلى داري ، وكنت قد اشتريت هذا الخاتم هديّة لزوجتي العروس لأتحفها به كهديّة وإتحاف في أوّل سفري بعد الزواج .
واعلم أنّ ثمن هذا الخاتم غالٍ ، وهذا سعره ، وأنت أذا أردت بيعه على الصائغ سيعرف أنّك لست بصاحب الخاتم فيتّهمك ، فإذا اتّهمك فقُل له إنّ فلان يعرفني ، وأخبرني باسمه .
فتشكّرت منه ، وأنا خجلان من هذه المعاملة الطيّبة والمكافأة الحسنة ، والستر عَليَّ بالرغم من أنّه كان يقدر على أن يفضحني في المسجد والخاتم في يدي عياناً ، وذهبت فوراً إلى أحد الصاغة بائعي الخواتيم ، وعرضت عليه الخاتم ، وقلت له : كم تشتريه منّي ؟
فأخذ الخاتم وهو ينظر إليه تارةً ، وينظر إليَّ تارةً اُخرى ، وأطال النظر إليّ ، ثمّ قال : من أين لك هذا الخاتم ؟
قلت : هذا الخاتم لي ، وأُريد بيعه .
فقال لي : ـ لا أشتريه منك ، ولا أُعطيه لك ، بل اُسلّمه إلى مخفر الشرطة .
فقلت : ـ فلانٌ يعرفني ، ويشهد أنّ الخاتم لي .
قال لي : ـ طيّب ، إذا شهد لك فلان بالخاتم ، أنا أشتريه منك .
فجئت فوراً إلى هذا المرحوم ، وأخبرته بالقضيّة .
فجاء معي إلى البائع وشهد لي أنّ الخاتم
لي ، ولم يخبره بكيفيّة إعطاءه إيّاي ، وأنّ القضيّة كيت وكيت ، بل سترَ عليَّ ، وقال للبائع أنّ الخاتم له حقيقةً ، فاشتراه
منّي بائع الخواتيم بثمنه الأصلي الكثير ..
ثمّ أرشدني هذا المرحوم إلى أنّ هذا المبلغ الكثير إن أردت صرفه اعتباطاً تلف ، ولم يبق منه شيء ، لذلك يحسن أن يشتري به داراً تسكن في الدخلاني منه مع عائلتك ، وتؤجّر البرّاني وتستثمره ، فيكون ثمن الإيجار مساعدك مع اُجرة عملك في حياتك العائليّة .
وأوصى إلى بعض الدلّالين ، فاشترى لي داراً أسكنت فيه عائلتي ، وأجّرت الباقي .
وأنا منذ سنوات أعيش عليه بكلّ راحة ، لما ستر عليَّ هذا المرحوم بهذا الستر الجميل ، والخير الجزيل الذي ألزمني الحزن والاكتئاب وبكاء احتراق قلب المصاب .
هذا ما وقع حقيقةً ، وأنت تلاحظ أنّه تحوّل هذا الرجل من سارق إلى إنسان طيّب ، يعيش سعيد بواسطة ستر العائبة من هذا المرحوم .
فقد انقلب رأساً على عقب من الفساد إلى الصلاح بواسطة هذه الكرامة الأخلاقيّة من هذا الشخص ، ولو كان قد فضحه ولم يستر عليه لكان يُعرف بالسرقة ، ويصبح سارقاً محترفاً طول عمره .
(٧) ولينِ العريكة
العريكة : فُسّرت في اللغة بمعنى الطبيعة .
إلّا أنّه يستفاد من استعمالاتها العرفيّة في الأحاديث وفي العربيّة معنىً أوسع .
فالعريكة في معناها العرفي هو الجلد الأديم يُدلك ويُفرك ، فيصير ليّناً ، كما تلاحظه في جلد الغزال الذي كان قديماً يصنع به هكذا ، ويُتّخذ منه الورق اللّين في الكتب .
ويكنّى به عن لين المعاشرة ، يُقال : فلان ليّن العريكة ، إذا كان سلساً مطواعاً ، قليل الخلاف والنفور .
ولانَتْ عريكته يعني انكسرت نخوته(١) .
فيكون حاصل معنى لين العريكة في هذه الصفة الجميلة كناية عن لين المعاشرة مع الناس .
وقد جاء توصيف الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم بلين العريكة في بيان أمير المؤمنين عليهالسلام : ـ ( كان أجوَد الناس كفّاً ، وأجرءَ الناس صدراً ، وأصدق الناس لهجةً ، وأوفاهم
__________________________________
(١) مجمع البحرين / ص ٤٥٤ .
ذمّةً ، وألينهم عريكةً )(١) .
فمن حلية الصالحين وزينة المتّقين لين العريكة في المعاشرة مع الناس .
ليناً يكون في محلّه ، لا ضعفاً في الدِّين وتضعيفاً لشريعة سيّد المرسلين ، فيكون لين المؤمن مع المؤمنين لا مع المنافقين .
لذلك ترى في حُسن صفة المؤمنين قوله تعالى : ـ
( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّـهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ )(٢) .
وأمّا اللّين في غير محلّه المناسب فهو غير ممدوح بل مجتنبٌ عنه ، وليس من مكارم الأخلاق .
لذلك ترى مثال الخلق الكريم متجلّياً في الرسول العظيم حيث كان شديداً في ذات الله تعالى في قضيّة الخبيث سُمرة بن جندب بالنسبة إلى نخلة الأنصاري في حديث ( لا ضرر ولا ضرار ) ..
ورد عن الإمام الباقر عليهالسلام أنّه قال :
إنّ سمرة بن جندب كان له عذقٌ ـ أي نخلةٌ بحملها ـ في حائط رجلٍ من الأنصار .
وكان منزل الأنصاري بباب البستان ، وكان يمرّ به إلى نخلته ولا يستأذن ، فكلّمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء ، فأبىٰ سمرة .
فلمّا تأبّىٰ ، جاء الأنصاري إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فشكا إليه ، وخبّره الخبر ، فأرسل إليه رسول الله صلىاللهعليهوآله وخبّره بقول الأنصاري وما شكا ، وقال : إن أردت الدخول فاستأذِن .
فأبىٰ ، فلمّا أبىٰ ساومه حتّى بلغ به من الثمن ما شاء الله ، فأبى أن يبيع .
فقال صلىاللهعليهوآله : لك بها عذقٌ يُمدّ لك في الجنّة .
__________________________________
(١) سفينة البحار / ج ٢ / ص ٣٨٨ .
(٢) سورة الفتح : الآية ٢٩ .
فأبىٰ أن يقبل .
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله للأنصاري : إذهب فاقلعها ، وارمِ بها إليه ، فإنّه لا ضرر ولا ضرار(١) .
فتلاحظ أنّه لم يكن الموضع موضع لين مع ظلم سمرة للأنصاري ، وإصراره على الظلم ، ولجاجه على عدم الاستئذان ، وعناده مع الرسول صلىاللهعليهوآله حتّى مع نخلة الجنّة .
لذلك لم يلِن معه رسول الله صلىاللهعليهوآله ، بل أمر بقلع النخلة ، ورميها إليه ، دفعاً للضرر عن المؤمنين .
علماً بأنّ سمرة ممّن لم يخفَ خبثه ونفاقه .
وهو الذي بذل له معاوية أربعمائة درهم فروى كذباً إنّ قوله تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّـهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ )(٢) نزلت في عليّ عليهالسلام .
وأنّ قوله تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّـهِ وَاللَّـهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ )(٣) نزلت في ابن ملجم .
وهو الذي روى عنه ابن أبي الحديد أنّه كان في أيّام مسير الإمام الحسين عليهالسلام إلى الكوفة على شرطة ابن زياد ، وكان يحرّض الناس على الخروج إلى قتال الحسين عليهالسلام .
وهو الذي قال فيه ابن سيرين إنّه قتل في مدّة غياب زياد بن أبيه عن البصرة ثمانية آلاف ، فقال له زياد : أما تخاف أن تكون قتلت بريئاً ؟
فقال : لو قتلت معهم مثلهم ما خشيت .
وروى عنه ابن أثير أنّه قتل من قوم سوار العدوى سبعة وأربعين كلّهم قد جمع القرآن .
__________________________________
(١) الكافي / ج ٥ / ص ٢٩٢ / ح ٢ .
(٢) سورة البقرة : الآية ٢٠٤ .
(٣) سورة البقرة : الآية ٢٠٧ .
وهو الذي ضرب ناقة رسول الله صلىاللهعليهوآله ( القصوىٰ ) بعصاً على رأسها فشجّها(١) .
وعلى الجملة فاللّين مع الثلّة المؤمنة ـ لا مع مثل هذه الفرقة المنافقة ـ يعدّ من مكارم الأخلاق وعوالي الصفات .
وهذه الصفة الشريفة وإن كان تحصيلها صعباً ، لكن تسهل بعد الممارسة والتمرين .
فيحصل لين العريكة للإنسان في أقواله وأفعاله ، وفي جميع أدوار حياته ، ومع جميع معاشريه .
بالطلب من الله تعالى ، والاستشفاع بأهل البيت عليهمالسلام .
وحتماً تحتاج هذه الصفة إلى الطلب والعمل ..
إذا هي حصلت لرسول الله صلىاللهعليهوآله برحمةٍ من الله تعالى فكيف تحصل لنا اعتباطاً .
قال تعالى : ـ ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ لِنتَ لَهُمْ )(٢) .
وقد كان رسول الله صلىاللهعليهوآله المَثَل الأعلى للين العريكة في سيرته الغرّاء ، وتلاحظ ذلك جليّاً في عشرته مع عائشة .
فبالرغم من إيذائها للرسول الأكرم ، وتجاسرها على مقامه الأعظم كان صلوات الله عليه وآله ليّناً معها ، معاشراً عشرة الحسنى قبالها .
حتّى أنّها تحاكمت مرّةً مع الرسول عند أبيها أبي بكر ، وقالت لرسول الله قبل أن يتكلّم : قُل ولا تقل إلّا حقّاً !
ورسول الله صلىاللهعليهوآله هو الذي لا ينطق عن الهوى ، ولا يقول إلّا حقّاً ، ولا يتكلّم باطلاً ، بصريح شهادة الخالق له ، الغنيّ عن شهادة المخلوقين ، بالآية المباركة : ـ
( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ ٣ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ )(٣) .
__________________________________
(١) لاحظ جميع هذه الفعال السيّئة من سمرة في سفينة البحار / ج ٤ / ص ٢٦٩ .
(٢) سورة آل عمران : الآية ١٥٩ .
(٣) سورة النجم : الآيتان ٣ و ٤ .
وبالرغم من ذلك لم يردّ الرسول عليها بشيء ، ولم يغلظ لها بقول .
ومن نماذج لين عريكته صلوات الله عليه وآله ؛ موقفه الكريم في قضيّة القطيفة الحمراء(١) ، في واقعة بدر ، بعد انهزام المشركين وبقاء الغنائم في حوزة المسلمين .
وكان في الغنائم قطيفة حمراء وضيعة لا تسوى شيئاً ، ضاعت من بين الغنائم .
فبرز أحد الأصحاب من المنافقين وقال : ـ ( إنّ رسول الله غلّها ) أي سرقها والعياذ بالله ، ورسول الله هو الأمين المسمّى بمحمّد الأمين حتّى عند المشركين وحتّىٰ في الجاهليّة .
وحدث دويّ بين الأصحاب من هذه الكلمة البذيئة ، ورسول الله بريءٌ من الغلّ والسرقة ، ولم يأخذ تلك القطيفة .
ومع ذلك لم يردّ الرسول عليه بشيء ، ولم يخشن له بقول ..
بالرغم من أنّ الرسول له الحقّ الشرعي في أن يصطفي من الغنائم ما يشاء .
فنزلت الآية الشريفة : ـ ( وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ )(٢) ، فبرّء الله تعالى نبيّه من السرقة والخيانة .
وجاء رجلٌ إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله فقال : إنّ فلاناً غلّ القطيفة وأخبأها هنالك ، فأمر رسول الله صلىاللهعليهوآله بحفر ذلك الموضع ، وإخراج تلك القطيفة ، كما تلاحظه في التفسير(٣) .
وهذه القضيّة آية من لين عريكة النبيّ الأعظم حيث لم يظهر منه أيّ شدّة في مقابل هذه التهمة البذيئة ، من منافقٍ رديء ، يدّعي الإيمان بالنبيّ وينسبه إلى
__________________________________
(١) القطيفة هي القطعة من القماش المخمل ، يتدثّر بها .
(٢) سورة آل عمران : الآية ١٦١ .
(٣) كنز الدقائق / ج ٣ / ص ٢٥٤ .
السرقة ، فيفتضح هو بعد ذلك .
والنبيّ صلىاللهعليهوآله هو الأمين المؤتمن حتّى عند الكفّار والمشركين .
وهو ذو الحقّ في أخذ القطيفة وغير القطيفة .
وهو نبيٌّ معصوم ، وأعظم شخصيّة ، وقائد المسلمين ، وصاحب القدرة التامّة ، ومع ذلك لم يستعمل أيّ قوّة ، وأبدى كلّ لين .
ومن لين العريكة لين الكلام الذي تراه ممدوحاً في القرآن الكريم وفي الحديث الشريف ، ومن ذلك :
قوله تعالى : ( اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (٤٣) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ )(١) .
وعن أمير المؤمنين عليهالسلام أنّه قال : ـ
( عوّد لسانك لينَ الكلام )(٢) .
ومن وصيّته لابنه الإمام الحسن عليهماالسلام : ـ
( ولِنْ لمن غالَظَك فإنّه يوشك أن يلين لك )(٣) .
ومن المحسوس وجداناً حسن تأثير لين العريكة ، وطيب الكلام في النتيجة الحسنة ، والأثر الأكمل كما تلاحظه عمليّاً في التكلّم باللّين مع إسحاق الكندي صاحب الرأي الباطل ، ودعوى التناقض في القرآن ، حيث أثّر فيه الكلام اللّيّن ببركة الإمام العسكري عليهالسلام .
ففي حديث المناقب : ـ
( إنّ إسحاق الكندي كان فيلسوف العراق في زمانه أخذ في تأليف تناقض
__________________________________
(١) سورة طه : الآيتان ٤٣ و ٤٤ .
(٢) غرر الحكم / ص ٣٣٤ .
(٣) بحار الأنوار / ج ٧٤ / ص ١٦٨ .
القرآن ، وشغل نفسه بذلك ، وتفرّد به في منزله .
وأنّ بعض تلامذته دخل يوماً على الإمام العسكري عليهالسلام فقال له أبو محمّد عليهالسلام : ـ أما فيكم رجلٌ رشيد يردع اُستاذكم الكندي عمّا أخذ فيه من تشاغله بالقرآن ؟
فقال التلميذ : ـ نحن من تلامذته ، كيف يجوز منّا الاعتراض عليه في هذا أو غيره ؟!
فقال أبو محمّد عليهالسلام : ـ أتؤدّي إليه ما اُلقيه إليك ؟
قال : ـ نعم .
قال عليهالسلام : ـ فصُر إليه وتلطّف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله ، فإذا وقعت الاُلفة في ذلك فقُل : ـ قد حضرتني مسألة أسألك عنها ؟
فإنّه يستدعي ذلك منك .
فقُل له : إن أتاك هذا المتكلّم بهذا القرآن هل يجوز أن يكون مراده بما تكلّم به منه غير المعاني التي قد ظننتها أنّك ذهبت إليها ؟
فإنّه سيقول إنّه من الجائز ، لأنّه رجلٌ يفهم إذا سمع .
فإذا أوجب ذلك فقُل له : فما يدريك لعلّه قد أراد غير الذي ذهبتَ أنت إليه ، فتكون واضعاً لغير معانيه ؟
فصار الرجل إلى الكندي وتلطّف ، إلى أن ألقى عليه هذه المسألة .
فقال له أعِد عليَّ ، فأعاد عليه ، فتفكّر في نفسه ، ورأى ذلك محتملاً في اللّغة وسائغاً في النظر ، فقال : أقسمت عليك ألا أخبرتني من أين لك ؟
فقال : إنّه شيء عَرَض بقلبي فأوردته عليك .
فقال ـ الكندي ـ : كلّا ما مثلك من اهتدى إلى هذا ، ولا من بلغ هذه المنزلة فعرِّفني من أين لك هذا ؟
فقال : أمرني به أبو محمّد عليهالسلام .
فقال : الآن جئت به ، وما كن ليخرج مثل هذا إلّا من ذلك البيت .
ثمّ إنّه دعا بالنار وأحرق جميع ما كان ألّفه )(١) .
فإنّك تلاحظ أنّ لين العريكة ، وطيب الكلام أدّى إلى هذه النتيجة الحسنة .
__________________________________
(١) المناقب لابن شهر آشوب / ج ٤ / ص ٤٢٤ ، وعنه بحار الأنوار / ج ٥٠ / ص ٣١١ .