اسلام الموسوي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-317-9
الصفحات: ٢٢٧
هذا، ولم يكن قوله له : « أما ترضىٰ أن تنزل منَّي بمنزلة هارون من موسىٰ الا انه لا نبي بعدي » مختصّاً بهذا الموقف، فقد قال له ذلك مرات عديدة سجّل التاريخ وكان هذا الحديث من أوضح الأدلة علىٰ استخلافه من بعده على عموم المسلمين في بحوث مفصّلة مذكورة في كتب العقائد (١).
٤ ـ عليٌّ يبلّغ عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم :
قصة تبليغ سورة براءة في السنة التاسعة للهجرة من القصص المشهورة، والمنقولة في كتب السير والحديث، نوردها كما أخرجها أحمد بن حنبل في مسنده من حديث أبي بكر : أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بعثه ببراءة إلى أهل مكة : « لا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطوف في البيت عريان، ولا يدخل في الجنة إلّا نفس مسلمة، ومن كان بينه وبين رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مدّة فأجله إلىٰ مدّته، والله بريء من المشركين، ورسوله » قال : فسار بها ثلاثاً، ثم قال النبي لعلي : « إلحقه، فردَّ عليَّ أبا بكر، وبلّغها أنت » قال : ففعل.
فبينا أبو بكر في بعض الطريق؛ إذ سمع رغاء ناقة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم القصوىٰ، فخرج أبو بكر فزعاً، فظنّ أنّه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم، فإذا هو عليّ عليهالسلام، فدفع إليه كتاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم، وأخذها منه وسار، ورجع أبو بكر.. فلمّا قدم علىٰ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بكىٰ، وقال : يا رسول الله، أحَدَثَ فيَّ شيء؟
قال : « لا، ولكن اُمرتُ أن لا يبلّغها إلّا أنا أو رجل منّي » (٢).
_______________________
١) راجع السيد علي الميلاني / نفحات الازهار ـ حديث المنزلة.
٢) مسند أحمد ١ : ٣، ٣٣١ و٣ : ٢١٢، ٢٨٣ و ٤ : ١٦٤، ١٦٥.
وفي بعض رواياتها : « لا يبلّغ عني إلّا أنا أو رجل مني » (١).
ولهذه القصة دلالة كبيرة نأتي عليها في محلّها.
٥ ـ علي عليهالسلام في اليمن :
وفي السنة العاشرة للهجرة بعثه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلىٰ اليمن جامعاً لصدقات أهلها، وجزية أهل نجران وسفيراً وقاضياً.. قال عليّ عليهالسلام : « ولمّا بعثني رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الى اليمن، قلت : تبعثني وأنا رجل حديث السن، وليس لي علم بكثير من القضاء ؟ قال : فضرب صدري رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وقال : اذهب، فإن الله عزّ وجلّ سيثبت لسانك ويهدي قلبك.. » قال : « فما أعياني قضاء بين اثنين » (٢)
وكان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قد بعث قبله خالد بن الوليد في بضع مئات من الجند، قال البراء بن عازب : كنت فيمن خرج مع خالد بن الوليد، فأقمنا ستة أشهر يدعوهم إلىٰ الإسلام فلم يجيبوه ـ يعني قبيلة همدان ـ ثم بعث علي بن أبي طالب، وأمره أن يقفل خالداً ومن معه، إلّا من أحب أن يعقب مع علي فليعقب معه، فكنت فيمن عقب مع عليّ، فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا، ثم تقدم علي فصلّى بنا ثم صفنا صفاً واحداً ثم تقدم بين أيدينا وقرأ عليهم كتاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم، فأسلمت همدان جميعاً.
فكتب علي إلىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بإسلامهم، فلما قرأ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
_______________________
١) سنن الترمذي ٥ : ٦٣٦ / ٣٧١٩، الخصائص للنسائي : ٢٠، مجمع الزوائد ٩ : ١١٩، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٧٦، البداية والنهاية ٧ : ٣٧٠، تفسير الطبري ١٠ : ٤٦.
٢) مسند أحمد ١ : ١٣٦، الارشاد ١ : ١٩٤ و١٩٥ باختلاف.
الكتاب خرّ ساجداً، ثم رفع رأسه فقال : « السلام علىٰ همدان، السلام علىٰ همدان » (١).
٦ ـ عليٌّ في حجَّة الوداع (٢) :
خرج رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من المدينة متوجِّها إلىٰ الحجِّ في السنة العاشرة من الهجرة، لخمس بقين من ذي القعدة، وهي حجَّة الإسلام، وكان ابن عبَّاس يكره أن يقال : حجَّة الوداع، ويقول « حجَّة الإسلام » (٣).
وأذَّن صلىاللهعليهوآلهوسلم في الناس بالحجِّ، فتجهَّز الناس للخروج مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم، وحضر المدينة ـ من ضواحيها ومن جوانبها ـ خلق كثير.
وحجَّ عليٌّ عليهالسلام من اليمن، حيث قد بعثه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في ثلاثمائة فارس، فأسلم القوم علىٰ يديه.. ولمَّا قارب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مكَّة من طريق المدينة، قاربها أمير المؤمنين عليهالسلام من طريق اليمن، فتقدَّم الجيش إلىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم، فسرَّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بذلك، وقال له : « بم أهللت يا عليُّ »؟ فقال : « يا رسول الله، إنَّك لم تكتب إليَّ بإهلالك، فعقدت نيتي بنيِّتك، وقلت : اللَّهمَّ اهلالاً كإهلال نبيِّك ». فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : « فأنت شريكي في حجِّي ومناسكي وهديي، فأقم علىٰ إحرامك، وعد علىٰ جيشك وعجِّل بهم إليَّ حتَّىٰ نجتمع بمكَّة » (٤).
_______________________
١) ابن كثير / البداية والنهاية، البيهقي / دلائل النبوة ٥ : ٣٩٤، وقال : أخرجه البخاري مختصراً من وجه آخر، صحيح البخاري ٥ : ٢٠٦.
٢) انظر : الطبقات الكبرىٰ ٢ : ١٣٠، تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٠٩، إعلام الورىٰ ١ : ٢٥٩، ارشاد المفيد ١ : ١٧٠.
٣) الطبقات الكبرىٰ ٢ : ١٣١.
٤) صحيح مسلم ٢ : ٨٨٨، ارشاد المفيد١ : ١٧١، إعلام الورىٰ ١ : ٢٥٩، وانظر : الكامل في التاريخ ٢ : ١٧٠.
ولمَّا أكملوا مناسك الحجِّ، نحر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بيده ستِّين بدنة، وقيل : اربعاً وستِّين، وأعطىٰ عليَّاً عليهالسلام سائرها، فنحرها وأخذ من كلِّ ناقةٍ بضعة، فجمعت في قدر واحد فطبخت بالماء والملح، ثُمَّ أكل هو وعلي عليهالسلام (١).
وخطب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بالناس، وأراهم مناسكهم وعلَّمهم حجَّهم، إلىٰ أن قال :
« لا ترجعوا بعدي كفَّاراً مضلِّين يملك بعضكم رقاب بعض، إنِّي قد خلَّفت فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلُّوا : كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، ألا هل بلَّغت »؟ قالوا : نعم. قال : « اللَّهمَّ اشهد ».
ثمَّ قال : « إنَّكم مسؤولون، فليبلِّغ الشاهد منكم الغائب » (٢). ثمَّ ودَّعهم وقفل راجعاً إلىٰ المدينة.
غدير خُمٍّ :
لمَّا قضىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم نسكه وقفل إلىٰ المدينة، وانتهىٰ إلىٰ الموضع المعروف بغدير خُمٍّ نزل عليه جبريل عليهالسلام وأمره أن يقيم عليَّاً عليهالسلام وينصِّبه إماماً للناس؛ فقال : « ربِّ إنَّ أُمَّتي حديثو عهد بالجاهلية » فنزل عليه : إنَّها عزيمة لا رخصة منها، فنزلت الآية : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن
_______________________
١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٠٩، إعلام الورىٰ ١ : ٢٦٠، وانظر الطبقات الكبرىٰ ٢ : ١٣٥.
٢) صحيح البخاري، كتاب الفتن ٩ : ٩٠ ح / ٢٦ ـ ٢٩، صحيح مسلم ١ : ٨١ ح / ١١٨ ـ ١٢٠، كتاب الايمان، مسند أحمد ٥ : ٣٧، ٤٤، ٤٩، ٧٣، سنن الترمذي ٤ : ٤٨٦ ح / ٢١٩٣، سنن أبي داود ٤ : ٢٢١ ح / ٤٦٨٦، تاريخ اليعقوبي ٢ : ١١١، ومثله في السيرة الحلبية ٣ : ٣٣٦ ـ دار المعرفة للطباعة والنشر ـ بيروت ١٩٨٠م.
رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (١).
فلمّا نزل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بغدير خُمٍّ، ونزل المسلمون حوله، أمر بدوحات فقُمِمْنَ، وكان يوماً شديد الحرِّ، حتَّىٰ قيل : إنَّ أكثرهم ليلفُّ رداءه علىٰ قدميه من شدَّة الرمضاء، وصعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم علىٰ مكان مرتفع، فردّ من سبقه، ولحقه من تخلَّف، وقام خطيباً، ثُمَّ قال : « ألست أولىٰ بالمؤمنين من أنفسهم؟ » قالوا : بلىٰ يا رسول الله. فأخذ بيد عليٍّ فرفعها، حتَّىٰ بان بياض ابطيه، وقال : « من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللَّهمَّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله ».
وقد ورد هذا الحديث في الكثير من كتب السيرة والتاريخ وكتب الحديث ايضاً وغيرها (٢) بصيغ متعدِّدة، تثبت أحقِّية الإمام عليٍّ عليهالسلام بالإمامة بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم، وهو من أشهر النصوص علىٰ خلافته رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وبعد أن نزل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم صلَّىٰ ركعتين، ثُمَّ زالت الشمس فأذَّن مؤذنه لصلاة الظهر، فصلَّىٰ بالناس وجلس في خيمته، وأمر عليَّاً عليهالسلام أن يجلس في خيمة له بإزائه، ثُمَّ أمر المسلمين أن يدخلوا عليه فوجاً فوجاً
_______________________
١) إعلام الورىٰ ١ : ٢٦١، والآية من سورة المائدة ٥ : ٦٧، وقصة نزولها في علي عليهالسلام في غدير خم رواها كثير من المفسرين، منهم : الواحدي / اسباب النزول : ١١٥، السيوطي / الدر المنثور ٢ : ٣٩٨، الشوكاني / فتح الغدير ٢ : ٦٠.
٢) انظر : خصائص أمير المؤمنين / الحافظ النسائي : ٢١ ـ ٢٢ مطبعة التقدُّم بالقاهرة، وقد ذكر في حديث الغدير اسانيد عديدة وطرق شتَّىٰ وألفاظ مختلفة، بلغت تسع عشرة رواية، مسند أحمد ١ : ١١٩ من طريقين، ١٥٢، ٤ : ٢٨١، ٣٧٠، ٣٧٢، وسنن ابن ماجة ١ : ٤٣ / ١١٦، والمستدرك ٣ : ١٠٩ ـ ١٠، والبداية والنهاية ٥ : ٢٠٨، الفصل الاخير من سنة ١٠ هـ.
فيهنِّئوه بالإمامة، ويسلِّموا عليه بإمرة المؤمنين، ففعل الناس ذلك اليوم كلُّهم، ثُمَّ أمر أزواجه وجميع نساء المؤمنين أن يدخلن معه ويسلِّمن عليه بإمرة المؤمنين، ففعلن ذلك، وكان ممَّن أطنب في تهنئته بذلك المقام عمر بن الخطَّاب، وقال فيما قال : «بخٍ بخٍ لك يا عليُّ، أصبحت مولاي ومولىٰ كلِّ مؤمن ومؤمنة».
وأخرج أحمد وغيره ان أبا بكر وعمر قالا له : أمسيت يبن أبي طالب مولى كل مؤمن ومؤمنة (١).
وأنشد حسَّان بن ثابت :
يناديهم يومَ الغدير نبيُّهم |
|
بخُمٍّ وأسمع بالنبيِّ مناديا |
بأنِّي مولاكم نعمْ ووليُّكم |
|
فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا |
إلهك مولانا وأنتَ وليُّنا |
|
ولاتجدن في الخلق للأمر عاصيا |
فقال له قم يا عليُّ فإنَّني |
|
رضيتك من بعدي إماماً وهاديا |
فمن كنت مولاه فهذا وليُّه |
|
فكونوا له أنصارَ صدقٍ مواليا |
هناك دعا : اللَّهمَّ والِ وليَّه |
|
وكُن للذي عادىٰ عليَّاً معاديا (٢) |
إذن فحديث الغدير حديث صحيح بلغ حدَّ التواتر، جمع كثير من
_______________________
١) مسند أحمد ٤ : ٢٨١، فضائل الصحابة لاحمد بن حنبل ٢ : ٥٦٩ / ١٠١٦ و٦١٠ / ١٠٤٢، اسد الغابة ٤ : ٢٨، تفسير الرازي ١٢ : ٤٩ ـ ٥٠، روح المعاني للآلوسي ٦ : ١٩٤، الصواعق المحرقة : ٤٤.
٢) روىٰ هذه الأبيات : الخوارزمي في مقتل الإمام الحسين ١ : ٤٧ الطبعة الاولىٰ، والجويني في فرائد السمطين، من طريقين ١ : ٧٣ ـ ٧٤، تحقيق محمَّد باقر المحمودي، مؤسَّسة المحمودي، ١٩٧٨م، وابن الجوزي في تذكرة الخواص : ٣٣، والكنجي في كفاية الطالب : ٦٤، تحقيق هادي الأميني، دار احياء تراث أهل البيت، ط ٣، وإعلام الورىٰ ١ : ٢٦٢ ـ ٢٦٣. مع اختلاف في بعض الألفاظ.
العلماء طرقه ـ كما رأينا سابقاً ـ لكنَّه لاقىٰ من التأويل والكتمان ما لم يبلغه خبر قبله ولا بعده!
فصاحب (البداية والنهاية) علىٰ سبيل المثال ـ مع كل ما جمعه من طرق هذا الحديث ومصادره ـ يصرّ علىٰ اختزال دلالته إلىٰ ردّ شكاوىٰ نفر من الصحابة، وفدوا معه من اليمن، وكانوا علىٰ خطأ، وهو على الصواب، فيقول ابن كثير عن هذا الحديث : «فبيّن فيه فضل علي وبراءة عرضه ممّا كان تكلّم فيه بعض من كان معه بأرض اليمن، بسبب ما كان صدر منه إليهم» إلىٰ قوله : «وذكر من فضل علي وامانته وعدله وقربه إليه ما أزاح به ما كان في نفوس كثيرة من الناس منه» (١).
والالتواء والتحميل واضحان جداً في ما ذهب إليه ابن كثير وغيره هنا (٢)، فشكاوىٰ هؤلاء النفر كان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قد ردّها في محلّها وأمام شهودها، وبيّن فيها ما يمكن أن يبيّنه، وقد أوردها ابن كثير كلّها. فأمرها لا يستدعي جمع كلّ الحجيج الذين بلغوا مئة ألف أو يزيدون !! ولا يستدعي أيضاً التأخير كل هذا الوقت، منذ أول وفودهم مكة، وحتى انقضاء الحج وعودتهم من مكة صوب أوطانهم! إنه تحميل كبير لا يرتضيه ناقد له فقه بالأخبار والسيرة، لكنها مشكلة الركون لما استقر في أذهانهم، بفعل الواقع السياسي الذي جانب هذا الحديث الشريف ودلالاته الناصعة.
وأقل ما يقال في تأويل ابن كثير ومن ذهب مذهبه إنهم خلطوا، إن لم
_______________________
١) البداية والنهاية ٥ : ١٨٣ ـ ١٨٩.
٢) في مناقشة دعاوىٰ ابن كثير، راجع : منهج في الانتماء المذهبي : ٩٥ ـ ١٢٤.
يكونوا عامدين فغافلين، بين قضيتين منفصلتين، قضية الشكوىٰ الخاصة، وقضية خطبة الغدير العامة على الملأ من المسلمين.
٥ ـ عليٌّ عليهالسلام مع الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في ساعات الوداع :
مرض النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وبعثة أُسامة :
لمَّا قدم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم المدينة المنوَّرة، من حجِّ الوداع، أقام أيَّاماً وعقد لأُسامة بن زيد، علىٰ جُلَّة من المهاجرين والأنصار ـ منهم أبو بكر وعمر ـ وأمره أن يقصد حيث قُتل أبوه، وقال له : « أوطئ الخيل أواخر الشام من أوائل الروم »، فتكلَّم المنافقون في إمارته، وقالوا : أمَّر غلاماً علىٰ جلَّة المهاجرين والأنصار! فاشتكىٰ إلىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ذلك، فغضب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وقال : « إن تطعنوا في إمارته، فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل، وإنَّه لخليق للإمارة، وكان أبوه خليقاً لها » (١).
واشتدَّ برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وجعه، فتأخَّر مسير أُسامة لمرض رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم، وثقل رسول الله، ولم يشغله شدّة مرضه عن إنفاذ أمر الله، فقال : « أنفذوا جيش أُسامة »! قالها مراراً، وإنَّما فعل عليهالسلام ذلك لئلا يبقىٰ في المدينة عند وفاته من يختلف في الإمامة، ويطمع في الإمارة، فيستوسق الأمر لأهله (٢).
وروى بعضهم أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم لما أحس منهم التباطؤ، كان يكرر قوله :
_______________________
١) الكامل في التاريخ ٢ : ١٨٢، الطبقات الكبرىٰ ٢ : ١٤٦، تاريخ اليعقوبي ٢ : ١١٣. وكان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قد أمّر زيد بن حارثة، أبا أسامة، في غزوة مؤتة، وفيها استشهد رضوان الله عليه.
٢) إعلام الورىٰ ١ : ٢٦٣.
« أنفذوا بعثة أُسامة » ثم يقول : « لعن الله من تخلّف عنه » (١).
وقد أثبتت المصادر التاريخية أنّ في هذا الجيش أُناساً من كبار الصحابة، منهم أبو بكر وعمر (٢).
الرزية كلُّ الرزية :
لم يكن موقف رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من خلافة الإمام عليٍّ عليهالسلام يوم غدير خُمٍّ آخر المواقف التي صرَّح فيها بأنَّه الوصي من بعده، بل حينما اشتدَّ به مرضه وعلم بما ستقع به أُمَّته من الاختلاف من بعده، أراد أن يصرِّح بها؛ فقال : « ائتوني بدواة وكتف أكتب لكم كتاباً لا تضُّلون بعده أبداً » ثُمَّ أُغمي عليه، وقام أحدهم ليلتمس الدواة والكتف، فقال عمر : ارجع فإنَّه يهجر ـ أو غلبه الوجع ـ حسبنا كتاب الله!!
فمازال يمنع منها حتىٰ كثر التنازع؛ فغضب النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وأخرجهم من عنده، فقال ـ بعد أن عرضوا عليه الدواة والكتف ـ : « دعوني، فالذي أنا فيه خير ».
هنا كان يتوجَّع ابن عبَّاس ويقول : «يوم الخميس، وما يوم الخميس!» ثُمَّ بكىٰ حتَّىٰ بلَّ دمعه الحصىٰ. فقيل له ـ والرواية عن سعيد بن جُبير ـ : يا ابن عبَّاس، وما يوم الخميس؟
قال : «اشتدَّ برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وجعه، فقال : « ائتوني أكتب لكم كتاباً لا
_______________________
١) الشهرستاني / الملل والنحل ١ : ٢٩.
٢) ابن سعد الطبقات الكبرى ٤ : ٦٦، ترجمة اسامة بن زيد، تهذيب تاريخ دمشق ٢ : ٣٩٥، ٣ : ٢١٨، مختصر تاريخ دمشق ٤ : ٢٤٨ / ٢٣٧، ٥ : ١٢٩ / ٥٦، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٧٧، تاريخ الخميس ٢ : ١٧٢.
تضلُّون بعدي » فتنازعوا، وما ينبغي عند نبيٍّ تنازع، وقالوا : ما شأنه، أهَجَر؟ استفهموه! قال : « دعوني، فالذي أنا فيه خير »». فكان ابن عبَّاس يقول : «إنَّ الرزية كلَّ الرزية ما حال بين رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم» (١).
عليٌّ عليهالسلام وآخر لحظات الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم :
لمَّا كثر التنازع عند رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم، كما رأينا سابقاً بشأن الكتاب، وخرجوا من عنده، قال : « رُدُّوا عَلَيَّ أخي عَلِيَّ بن أبي طالب ». ولمَّا حضر قال : « ادنُ منِّي » فدنا منه فضمَّه إليه، ونزع خاتمه من يده، فقال له : « خُذ هذا فضعه في يدك » ودعا بسيفه ودرعه ولامته، فدفع جميع ذلك إليه، وقال له : « اقبض هذا في حياتي » ودفع إليه بغلته وسرجها وقال : « امضِ علىٰ اسم الله إلىٰ منزلك » (٢).
وكان عليٌّ عليهالسلام لا يفارقه إلَّا لضرورة، ولمَّا خرج لبعض شأنه قال لهم : « أُدعوا لي أخي وصاحبي » وفي رواية : « ادعو لي حبيبي » فدعوا له أبا بكر، فنظر إليه، ثم وضع رأسه، ثم قال : « ادعو لي حبيبي » فدعوا له عمر، فلما نظر إليه وضع رأسه ثم قال : « ادعو لي حبيبي » فقالت أُمُّ سلمة : أُدعوا له عليَّاً، فدُعي أمير المؤمنين عليهالسلام، فلمَّا دنا منه أومأ إليه فأكبَّ
_______________________
١) ذكرت بعدَّة صيغ في كلٍّ من : صحيح مسلم ـ كتاب الوصية ٣ : ١٢٥٧ / ١٦٣٧، مسند أحمد ١ : ٢٢٢، مسند أبي يعلىٰ ٤ : ٢٩٨ / ٢٤٠٩ البداية والنهاية ٥ : ٢٠٠، الطبقات الكبرىٰ ٢ : ١٨٨، صحيح البخاري ـ كتاب المرضىٰ ٧ : ٢١٩ / ٣٠، الكامل في التاريخ ٢ : ١٨٢، إعلام الورىٰ ١ : ٢٦٥، تاريخ ابن خلدون ٢ : ٤٨٥ تحقيق الأستاذ خليل شحادة وسهيل زكار، الملل والنحل ـ المقدِّمة الرابعة : ٢٩.
٢) إعلام الورىٰ ١ : ٢٦٦ ـ ٢٦٩.
عليه، فناجاه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم طويلاً (١)، ولمَّا سُئل عن ذلك قال : « علَّمَني ألف باب من العلم، فتح لي من كلِّ باب ألف باب (٢)، ووصَّاني بما أنا قائمٌ به إن شاء الله » (٣).
ولمَّا قرب خروج تلك النفس الطيِّبة إلىٰ جنان الخلد وسدرة المنتهىٰ قال له : « ضع رأسي يا عليُّ في حجرك، فقد جاء أمر الله عزَّ وجلَّ فإذا فاضت نفسي، فتناولها بيدك وامسح بها وجهك، ثُمَّ وجِّهني إلىٰ القبلة وتولَّ أمري، وصلِّ عليَّ أوَّل الناس، ولا تفارقني حتَّىٰ تواريني في رمسي، واستعن بالله عزَّ وجلَّ ».
ثمَّ قضىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم، ويد أمير المؤمنين اليمنىٰ تحت حنكه، ففاضت نفسه، فرفعها إلىٰ وجهه فمسحه بها، ثُمَّ وجَّهه وغمَّضه ومدَّ عليه إزاره واشتغل بالنظر في أمره..
ولمَّا أراد عليٌّ عليهالسلام غسله استدعىٰ الفضل بن العبَّاس، فأمره أن يناوله الماء، بعد أن عصَّب عينيه، فشقَّ قميصه من قبل جيبه، حتىٰ بلغ به إلىٰ سرَّته، وتولَّىٰ غسله وتحنيطه وتكفينه، والفضل يناوله الماء، فلمَّا فرغ من غسله وتجهيزه تقدَّم فصلَّىٰ عليه (٤).
_______________________
١) انظر الحديث بألفاظه المتقاربة في : ترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق ٣ : ١٧ / ١٠٣٦، الرياض النضرة ٣ : ١٤١، ذخائر العقبى : ٧٣، المناقب للخوازرمي : ٢٩.
٢) كنز العمَّال ١٣ : ١١٤ ح / ٣٦٣٧٢، ورواه ابن عساكر في تاريخه كما في ترجمة الإمام عليٍّ منه ٢ : ٤٨٥ / ١٠١٢، والجويني في فرائد السمطين ١ : ١٠١ / ٧٠.
٣) إعلام الورىٰ ١ : ٢٦٦.
٤) إعلام الورىٰ ١ : ٢٦٦ ـ ٢٦٩، ارشاد المفيد ١ ؛ ١٨٧، تاريخ اليعقوبي ٢ : ١١٤، الطبقات الكبرىٰ ٢ : ٢٠١ ـ ٢٠٢، ٢١٢ ـ ٢١٥، ٢٢٠، تهذيب الكمال ١٣ : ٢٩٨، مجمع الزوائد، باب إسلامه ٩ / ١٠٣.
هذه خاتمة ثلاثين عاماً من الجهاد مع هذا الإنسان العظيم المسجَّىٰ اليوم بين يدي عليِّ بن أبي طالب، فكانت النهاية أن وارىٰ جسده التراب وما أصعبها من نهاية!!
أمَّا البداية فقد احتضن محمَّد بن عبدالله عليَّاً في حجره وهو وليد، وها هو عليٌّ يحتضن محمَّداً علىٰ صدره في آخر رمق من حياته! آه فطبت حيَّا وميِّتاً..
ولنقرأ ما قاله عليُّ بن أبي طالب عليهالسلام وهو يصفُ هذه الخاتمة المؤلمة : « ولقد قُبِض رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم، وإنَّ رأسه لعلىٰ صدري، ولقد سالت نفسه في كفِّي، فأمررتُها علىٰ وجهي، ولقد وُلِّيتُ غسله صلىاللهعليهوآلهوسلم والملائكة أعواني، فضجَّت الدار والأفنية : ملأ يهبط، وملأ يعرج، وما فارقتْ سمعي هينمةٌ منهم، يصلُّون عليه، حتَّىٰ واريناه ضريحه » (١).
وبعد هذه النهاية المفجعة تتساقطُ قطرات الدمع من عليٍّ عليهالسلام حزناً منه علىٰ فراق أخيه محمَّد بن عبدالله، الرسول، الأمين صلىاللهعليهوآلهوسلم، فيضجُّ صدره بالآلام والمحن، ويقف علىٰ شفير قبر أخيه مطأطأ رأسه، والدمع يجري كحبَّات لؤلؤ تناثرت علىٰ خدَّيه، وهو يقول : « بأبي أنت وأمي يا رسول الله! لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والأنبياء وأخبار السماء، خصَّصت حتى صرت مسلِّياً عمّن سواك، وعمَّمت حتى صار الناس فيك سواء. ولولا أنك أمرت بالصبر، ونهيت عن الجزع؛ لانفدنا عليك ماء الشؤون » (٢).
_______________________
١) نهج البلاغة، الخطبة : ١٩٧.
٢) نهج البلاغة، الخطبة : ٢٣٥.
الباب الثاني
علي عليهالسلام قبل تولي الخلافة
مدخل في خصائصه والأدلَّة علىٰ إمامته
في القرآن الكريم له أوفر نصيب، وفي حديث النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم له الحظُّ الأوفر والذكر الأكثر والشأن الأكبر، وفي أيام الإسلام كلها، منذ ابتداء الإسلام، وعلىٰ امتداد أكثر من نصف قرن من عمر الإسلام، له المناقب والمواقف والمفاخر، التي لا تعرفها هذه الأُمَّة لرجل عاش معه أو جاء بعده، بل وقبل الإسلام أيضاً، حظي بما لم يحظَ به أحدٌ من البشر.
فهو أقرب الناس إلىٰ النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وأخصُّهم به، نشأ في حجره، يتَّبعه اتِّباع الصبي لأمِّه وأبيه، يتلقىٰ منه مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب ومفاتح العلوم وأسرار الحياة وفلسفتها.
فإذا قال أهل العلم بالحديث كأحمد بن حنبل وغيره : «إنَّه لم يرد في الصحاح والحسان لأحد من الصحابة ما ورد لعليٍّ» (١)، فإنَّما يقرِّون حقيقة شاهدها تأريخ صدر الإسلام كلِّه، من هنا حقَّ لبعض أهل العلم القول : إنَّ
_______________________
١) انظر : المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ : ١٠٧ ـ ١٠٨، الاستيعاب ٣ : ٥١، تاريخ الخلفاء : ١٣٣.
الحديث عن مناقب عليٍّ لا يعدو أن يكون نافلة وفضولاً، تماماً كالحديث عن نور الشمس (١).
وهذا هو الذي يفسّر لنا تكاثر الكتب الصغيرة والكبيرة في فضائله ومناقبه في ألوان متعددة ومن جوانب مختلفة، اجتمع فيها لرجل واحد ما لم يجتمع لعشرات الرجال في تاريخ الإسلام، فماذا عسانا ذاكرين من ذلك كلِّه؟!
سنقصر مادة هذا الفصل علىٰ باقة صغيرة ممَّا جاء في حقِّه، نوزِّعها علىٰ محورين :
الأول : في ما اختصَّ به من مناقب لم يشركه فيها أحد، إلَّا أن يكون من أهل بيته خاصةً.
الثاني : في ما دلَّ علىٰ إمامته العظمىٰ وخلافته المباشرة لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
المحور الأول : خصائصه الخاصة
لقد تفرَّد عليٌّ عليهالسلام بخصائص تستحق أن يفرد فيها كتاب لعظمتها وكثرتها، وإنَّها لتؤلِّف كتاباً جيداً، لا تكرار فيه ولا تشابه.
ولقد جرىٰ، قبل عهود التصنيف، علىٰ ألسنة الصحابة، أشياء من ذلك لم تجرِ بحقِّ غيره، فمنهم من ذكر جملة منها تذكيراً بحقِّه، وإنكاراً علىٰ أُناس جهلوه أو تجاهلوه، ومنهم من ذكر له خصالاً يتمنىٰ لو كانت له واحدة منها، وبعض هذا الذي ورد علىٰ ألسنة الصحابة سنجعله مدخلاً لهذا
_______________________
١) فضائل الإمام علي : ٢٨.
الفصل، لننتقل بعده إلىٰ فضائل وخصائص مفردة :
١ ـ تمنّى عمر بن الخطَّاب لنفسه واحدة من خصال ثلاث اجتمعن في عليٍّ ٧، فقال : لقد أُعطي عليُّ بن أبي طالب ثلاث خصال، لأن تكون لي خصلة منها أحبُّ إليَّ من أن أُعطىٰ حُمر النعم!
قيل : وما هنَّ يا أمير المؤمنين؟
قال : تزوُّجه فاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم، وسكناه المسجد مع رسول الله، يحلُّ له فيه ما يحلُّ له، والراية يوم خيبر (١).
٢ ـ وسعد بن أبي وقَّاص يتمنَّىٰ لنفسه واحدة من ثلاث أُخر اجتمعن في عليٍّ عليهالسلام ويردُّ بها علىٰ معاوية اللعين، وهو يراوده علىٰ سبِّ أمير المؤمنين عليهالسلام!
قال معاوية لسعد : ما يمنعك أن تسبَّ ابن أبي طالب؟
قال سعد : لا أسبُّه ما ذكرت ثلاثاً قالهنَّ له رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لأن تكون لي واحدة منهن أحبُّ إليَّ من حُمر النعم!
قال معاوية : ما هنَّ يا أبا إسحاق؟
قال : لا أسبُّه ما ذكرت حين نزل عليه الوحى ؛ فأخذ عليَّاً وابنيه وفاطمة فأدخلهم تحت ثوبه، ثُمَّ قال : « ربِّ إنَّ هؤلاء أهل بيتي ».
ولا أسبُّه ما ذكرت حين خلَّفه في غزوة تبوك، غزاها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم، فقال له علي : « خلَّفتني علىٰ الصبيان والنساء! » قال : « ألا ترضىٰ أن تكون منِّي بمنزلة هارون من موسىٰ ؟ إلَّا أنَّه لا نبيَّ بعدي ».
_______________________
١) المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ : ١٣٥ / ٤٦٣٢.
ولا أسبُّه ما ذكرت يوم خيبر، قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « لأُعطينَّ هذه الراية رجلاً يحبُّ الله ورسوله، ويفتح الله علىٰ يديه » فتطاولنا لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم، فقال : « أين عليٌّ »؟ قالوا : هو أرمد.
فقال : « ادعوه » فدعوه، فمسح عينيه بريقه، ثُمَّ أعطاه الراية ففتح الله عليه (١).
٣ ـ وسعد أيضاً يذكر ثلاث خصال أُخر لعليٍّ عليهالسلام يتمنَّىٰ إحداهنَّ، ويشهد منهن بفضل عليٍّ وحقِّه، رغم أنَّه قد تخلَّف عنه في حروبه..
قيل لسعد : إنَّ عليَّاً يقع فيك أنَّك تخلَّفت عنه.
فقال سعد : والله إنَّه لرأي رأيته، وأخطأ رأيي! إنَّ عليَّ بن أبي طالب أُعطي ثلاثاً لأن أكون أُعطيت إحداهنَّ أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها :
لقد قال له رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يوم غدير خُمٍّ، بعد حمد الله والثناء عليه : « هل تعلمون أنِّي أولىٰ بالمؤمنين؟ » قلنا : نعم. قال : « اللَّهمَّ من كنت مولاه فعليٌّ مولاه، والِ من والاه وعادِ من عاداه ».
وجيء به يوم خيبر وهو أرمد ما يبصر، فقال : « يا رسول الله إنِّي أرمد ». فتفل في عينيه ودعا له فلم يرمد حتىٰ قُتل، وفتح عليه خيبر.
وأخرج رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عمَّه العبَّاس وغيره من المسجد، فقال له العبَّاس : تخرجنا ونحن عصبتك وعمومتك، وتسكن عليَّاً؟!
فقال : « ما أنا أخرجتكم وأسكنته، ولكنَّ الله أخرجكم وأسكنه » (٢).
٤ ـ وعبدالله بن عبَّاس، في حديث أكثر جمعاً، يردُّ علىٰ نفر ينتقصون
_______________________
١) المستدرك ٣ : ١١٧ / ٤٥٧٥.
٢) المستدرك ٣ : ١٢٦ / ٤٦٠١.
من عليٍّ عليهالسلام في أيَّام معاوية، فيقول : أُفٍّ، وتُفٍّ !! وقعوا في رجل له بضع عشرة فضائل ليست لأحد غيره!
ثُمَّ ينطلق ابن عبَّاس يذكر نماذج من هذه الفضائل، فيبدأ بحديث راية خيبر، ثُمَّ يقول : ثُمَّ بعث رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فلاناً بسورة التوبة، فبعث عليَّاً خلفه فأخذها منه، وقال : « لا يذهب بها إلَّا رجل هو منِّي وأنا منه ». ثُمَّ يذكر قول النبيِّ له : « أنت وليِّي في الدنيا والآخرة ».. وأنَّ عليَّاً أول من آمن.. وحديث الكساء وآية التطهير.. وحديث مبيت عليٍّ في فراش النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في الهجرة.. وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « أما ترضىٰ أن تكون منِّي بمنزلة هارون من موسىٰ إلَّا أنَّه ليس بعدي نبي، إنَّه لا ينبغي أن أذهب إلَّا وأنت خليفتي ».. وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « أنت وليُّ كلِّ مؤمن بعدي ومؤمنة ».. وحديث سدِّ الأبواب إلَّا باب عليٍّ، وحديث الغدير : « من كنت مولاه... » الحديث (١).
ونظائر هذا ممَّا ورد علىٰ ألسنة الصحابة فيه عليهالسلام كثير وكثير، نكتفي بهذا القدر منه، لننتقل إلىٰ إفراد بعض خصائصه عليهالسلام، ممَّا نزل فيه من القرآن الكريم، وممَّا جاء فيه في الحديث الشريف :
أولاً : في القرآن الكريم :
١ ـ نفس رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم :
عليٌّ أحد المدعوين في مباهلة وفد نصارىٰ نجران، إذ قال عزَّ من قائل : ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ
_______________________
١) مسند أحمد ١ : ٣٣١، المستدرك ٣ : ١٤٣ / ٤٦٥٢.
عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (١)، أولئك هم الذين اصطفاهم الله وانتخبهم رسول الله : عليٌّ وفاطمة والحسنان عليهماالسلام، بهم خلَّد التأريخ حدثاً عظيماً يعدُّ من احدىٰ معاجز حضرة الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وأجمع المفسِّرون علىٰ أنَّ المقصود من ( أَنفُسَنَا ) نفس محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ونفس عليٍّ عليهالسلام (٢).
٢ ـ عليٌّ عليهالسلام من أهل بيت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وخاصَّته :
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وعليٌّ وفاطمة والحسنان عليهماالسلام هم المدعوون بأصحاب الكساء الخمسة، والمشار إليهم بقوله تعالىٰ : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (٣).
نزل الروح الأمين بهذه الآية المباركة، حينما جلَّل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً : بكساءٍ حبري، وغشَّاهم به، ثُمَّ أخرج يديه المباركتين فألوىٰ بهما إلىٰ السماء، ثُمَّ قال : « اللَّهمَّ هؤلاء أهل بيتي وخاصَّتي، فأذهب عنهم الرجس وطهِّرهم تطهيراً » (٤).
_______________________
١) سورة آل عمران : ٦١.
٢) انظر : معالم التنزيل البغوي ١ : ٤٨٠، الكشَّاف / الزمخشري ١ : ٣٧٠، أسباب النزول / الواحدي : ٧٤ ـ ٧٥، دار ومكتبة الهلال بيروت ١٩٩١م، صحيح مسلم ٤ : ١٨٧١ / ٣٢ ـ ٢٤٠٤، سنن الترمذي ٥ : ٦٣٨ / ٣٧٢٤، سير أعلام النبلاء (سيرة الخلفاء الراشدين) : ٢٣٠.
٣) سورة الأحزاب : ٣٣.
٤) من مصادر حديث الكساء : تفسير الرازي ٨ : ٨٠، أسباب النزول : ٢٥٢، مسند أحمد ٤ : ١٠٧ و٦ : ٢٩٢، ٣٠٤، صحيح مسلم ـ كتاب فضائل الصحابة ٤ : ١٨٨٣ / ٢٤٢٤، مصابيح السُنَّة ٤ : ١٨٣ / ٤٧٩٦، المستدرك ٢ ؛ ٤١٦ و٣ : ١٤٨، سير أعلام النبلاء ٣ : ٢٨٣، الصواعق المحرقة، باب ١١ الفصل١ : ١٤٣، الخصائص : ٤، شواهد التنزيل ٢ : ٩٢ / ٦٣٧ ـ ٧٧٤، أُسد الغابة ٤ : ٢٩، الخصائص الكبرىٰ للسيوطي ٢ : ٤٦٤، مجمع الزوائد ٩ : ١٦٧، الاحسان بترتيب صحيح ابن حبان ٩ : ٦١ / ٦٩٣٧.
٣ ـ القرآن الكريم يأمر بالصلاة علىٰ آل بيت النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم :
ولمَّا كان الإمام عليٌّ عليهالسلام من أهل بيت محمدٍ صلىاللهعليهوآلهوسلم فله شأن في قوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) (١) وممَّا لاريب فيه كانت هذه «الصلاة» من الواجبات في حال التشهد؛ لما ثبت بالتواتر حينما سألوا الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم : كيف نصلِّي عليك يا رسول الله؟
فقال : « قولوا : اللَّهمَّ صلِّ علىٰ محمدٍ وآل محمدٍ، كما صلَّيت علىٰ إبراهيم وآل إبراهيم، وبارك علىٰ محمدٍ وآل محمدٍ كما باركت علىٰ إبراهيم وآل إبراهيم (٣) ».
وفي هذا الشأن أنشد الشافعي أبياته الشهيرة :
يا أهل بيت رسول الله حبُّكمُ |
|
فرضٌ من الله في القرآن أنزله |
كفاكمُ من عظيم الشأن أنَّكمُ |
|
مَنْ لم يُصلِّ عليكم لا صلاة له (٣) |
٤ ـ علي عليهالسلام يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله :
تخلَّف عليٌّ عليهالسلام يوم الهجرة ليبيت في فراش رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ويصرف الأعداء عنه، ويؤدِّي الأمانات إلىٰ أهلها، حتىٰ تكتمل رسالة الإسلام المحمَّدية، فنزل فيه قوله تعالىٰ : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ) (٤).
_______________________
١) سورة الأحزاب : ٥٦.
٢) صحيح البخاري ٦ : ٢١٧ / ٢٩١، الترمذي ٥ : ٣٥٩ / ٣٢٢.
٣) الصواعق المحرقة باب ١١ فصل١ : ١٤٨.
٤) سورة البقرة : ٢٠٧، وانظر التفسير الكبير ٥ : ٢٠٤.
٥ ـ عليٌّ عليهالسلام وسورة الدهر :
لم يختلف أهل التفسير علىٰ أنَّ سورة «الانسان» أو «هل أتىٰ» نزلت خاصَّةً في عليٍّ وأهل بيته عليهمالسلام (١)، في قصَّة التصدُّق علىٰ المسكين واليتيم والأسير، ( فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ... إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا ) (٢).
٦ ـ في بيوت أذن الله أن ترفع :
لمَّا تلىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قوله تعالىٰ : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ) (٣)، قيل له : أي بيوت هذه؟!
قال عليه أفضل الصلاة وأتمُّ السلام : « بيوت الأنبياء »، ثُمَّ قيل له : هذا البيت منها ـ إشارة إلىٰ بيت عليٍّ وفاطمة ٣ ـ فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : « نعم، من أفاضلها » (٤).
٧ ـ بعليٍّ كفىٰ الله المؤمنين القتال :
في استبساله يوم وقعة الأحزاب قيل : إنَّ الآية المباركة : ( وَرَدَّ اللَّهُ
_______________________
١) أنظر : الكشَّاف ٤ : ٦٧٠، تفسير الرازي ٣٠ : ٢٤٣، فتح الباري / الشوكاني ٥ : ٣٤٩، روح المعاني ٢٩ : ١٥٧ ـ ١٥٨، معالم التنزيل ٥ : ٤٩٨، تفسير أبي السعود ٩ : ٧٣، تفسير البيضاوي ٢ : ٥٥٢، تفسير النسفي ٣ : ٦٢٨، أسباب النزول : ٣٢٢.
٢) سورة الإنسان : ١١ و٢٢.
٣) سورة النور : ٣٦.
٤) الدرُّ المنثور، عند تفسير الآية، وقال : أخرجه ابن مردويه عن أنس بن مالك وبريدة، وذكره الحاكم في شواهد التنزيل : من سورة النور / ٥٦٧ ـ ٥٦٨، والآلوسي في روح المعاني ١٨ : ١٧٤.