في الهداية الكبرى / ٢٤٨ : « الحسين بن حمدان قال : حدثني أبو الحسين بن يحيى الخرقي ، وأبو محمّد جعفر بن إسماعيل الحسني ، والعبّاس بن أحمد ، وأحمد بن سندولا ، وأحمد بن صالح ، ومحمد بن منصور الخراساني ، والحسن بن مسعود الفزاري ، وعيسى بن مهدي الجوهري الجنبلاني ، والحسين بن غياث الجنبلاني ، وأحمد بن حسان العجلي الفزاري ، وعبد الحميد بن محمد السراج ، جميعاً في مجالس شتى : أنهم حضروا وقت وفاة أبي الحسن بن محمّد بن علي بن موسى بن جعفر الصادق صلوات الله عليهم ، والصلاة بسر من رأى ، فإن السلطان لما عرف خبر وفاته أمر سائر أهل المدينة بالركوب إلى جنازته ، وأن يحمل إلى دار السلطان حتّى يصلّي عليه ، وحضرت الشيعة وتكلّموا وقال علماؤهم : اليوم يَبِينُ فضل سيّدنا أبي محمّد الحسن بن علي على أخيه جعفر ، ونرى خروجهما مع النعش. قالوا جميعاً : فلما خرج النعش وعليه أبو الحسن ، خرج أبومحمد حافي القدم مكشوف الرأس ، محلل الإزرار خلف النعش ، مشقوق الجيب مُخْضَلَّ اللحية بدموع على عينيه ، يمشي راجلاً خلف النعش ، مرةً عن يمين النعش ومرةً عن شمال النعش ، ولا يتقدّم النعش.
وخرج جعفر أخوه خلف النعش بدراريع يسحب ذيولها ، معتمٌّ محبتكُ الإزار ، طلق الوجه ، على حمار يماني ، يتقدّم النعش. فلمّا نظر إليه أهل الدولة وكبراء الناس والشيعة ، ورأوا زي أبي محمد وفعله ، ترجل الناس وخلعوا أخفافهم ، وكشفوا عمائمهم ، ومنهم من شقّ جيبه ، وحل إزاره ، ولم يمش بالخفاف من الأمراء وأولياء السلطان أحد ، فأكثروا اللعن والسب لجعفر الكذاب ، وركوبه وخلافه على أخيه …
لما تلا النعش إلى دار السلطان سبق بالخبر إليه ، فأمر بأن يوضع على ساحة الدار على مصطبة عالية كانت على باب الديوان ، وأمر أحمد بن فتيان وهو المعتمد بالخروج إليه والصلاة عليه ، وأقام السلطان في داره للصلاة عليه إلى صلاة العامة ، وأمر السلطان بالإعلان والتكبير ، وخرج المعتمد بخف وعمامة ودراريع فصلّى عليه خمس تكبيرات ، وصلّى السلطان بصلاتهم ..
وبقي الإمام أبو محمد الحسن بن علي (ع) ثلاثة أيام مردود الأبواب ، يُسمع من داره القراءة والتسبيح والبكاء ، ولا يؤكل في الدار إلا خبز الخشكار والملح ، ويشرب الشربات. وجعفر بغير هذه الصفة ، ويفعل ما يقبح ذكره من الأفعال.
قالوا جميعاً : وسمعنا الناس يقولون : هكذا كنا نحن جميعاً نعلم ما عند سيّدنا أبي محمّد الحسن من شقّ جيبه. قالوا جميعاً : فخرج توقيع منه (ع) في اليوم الرابع من المصيبة. بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد فممن شقّ جيبه على الذرية : يعقوب على يوسف حزناً. قال : يا أسفي على يوسف ، فإنه قَدَّ جيبه فشقه ».
وفي الهداية الكبرى / ٣٨٣ : « حدّثني أبو الحسن علي بن بلال وجماعة من إخواننا : أنه لما كان في اليوم الرابع من زيارة سيّدنا أبي الحسن (ع) أمر المعتز بأن ينفذ إلى أبي محمد من يستركبه إلى المعتز ليعزيه ويسليه ، فركب أبو محمّد إلى المعتز ، فلمّا دخل عليه رحب به وعزاه وأمر فرتب بمرتبة أبيه (ع) وأثبت له رزقه وزاد فيه ، فكان الذي يراه لا يشكّ إلا أنه في صورة أبيه (ع) ، واجتمعت الشيعة كلها من المهتدين على أبي محمد بعد أبيه ، إلا أصحاب فارس بن ماهَوَيْه ، فإنهم قالوا بإمامة جعفر بن علي العسكري (ع) ».
وفي إثبات الوصية للمسعودى « ١ / ٢٤٢ » : « واعتل أبوالحسن علّته التي مضى فيها صلّى الله عليه في سنة أربع وخمسين ومائتين ، فأحضر أبا محمد ابنه (ع) فسلّم إليه النور والحكمة ومواريث الأنبياء (ع) والسلاح ، وأوصى إليه ، ومضى صلّى الله عليه ، وَسِنُّه أربعون سنة.
وكان مولده في رجب سنة أربع عشرة ومائتين من الهجرة ، فأقام مع أبيه (ع) نحو سبع سنين ، وأقام منفرداً بالإمامة ثلاث وثلاثين سنة وشهوراً.
وحدّثنا جماعة كلّ واحد منهم يحكي أنّه دخل الدار ، وقد اجتمع فيها جملة بني هاشم من الطالبيين والعباسيين ، واجتمع خلق من الشيعة ، ولم يكن ظهر عندهم أمر أبي محمّد (ع) ولا عرف خبره إلّا الثقات الذين نص أبو الحسن عندهم عليه ، فحكوا أنّهم كانوا في مصيبة وحيرة ، فهم في ذلك إذْ خرج من الدار الداخلة خادمٌ فصاح بخادم آخر : يا رَيَّاشُ خذ هذه الرقعة وامض بها إلى دار أمير المؤمنين وأعطها إلى فلان وقل له : هذه رقعة الحسن بن علي. فاستشرف الناس لذلك ، ثم فتح من صدر الرواق بابٌ وخرج خادمٌ أسود ، ثم خرج بعده أبو محمد (ع) حاسراً مكشوف الرأس ، مشقوق الثياب ، وعليه مبطنة بيضاء ، وكان وجهه وجه أبيه (ع) لا يخطئ منه شيئاً ، وكان في الدار أولاد المتوكل وبعضهم ولاة العهود ، فلم يبق أحد إلّا قام على رجله ، ووثب إليه أبو محمّد الموفق فقصده أبو محمّد (ع) فعانقه ثم قال له : مرحباً بابن العم. وجلس بين بابي الرواق ، والناس كلهم بين يديه.
وكانت الدار كالسوق بالأحاديث ، فلمّا خرج وجلس أمسك الناس ، فما كنا نسمع شيئاً إلا العطسة والسعلة ، وخرجت جارية تندب أبا الحسن (ع) فقال أبو محمد : ما هاهنا من يكفي مؤونة هذه الجاهلة ؟ فبادر الشيعة إليها ، فدخلت الدار ، ثم خرج خادم فوقف بحذاء أبي محمد (ع) فنهض صلّى الله عليه وأخرجت الجنازة ، وخرج يمشي حتى أخرج بها الى الشارع الذي بازاء دار موسى بن بقا ، وقد كان أبو محمّد صلّى عليه قبل أن يخرج إلى الناس ، وصلّى عليه لما أخرج المعتمد ، ثم دفن في دار من دوره.
واشتدّ الحرّ على أبي محمد (ع) وضغطه الناس في طريقه ومنصرفه من الشارع بعد الصلاة عليه ، فصار في طريقه الى دكان بقال رآه مرشوشاً « مصطبة » فسلم واستأذنه في الجلوس فأذن له وجلس ، ووقف الناس حوله. فبينا نحن كذلك إذ أتاه شابٌّ حسن الوجه نظيف الكسوة ، على بغلة شهباء على سرج ببرذون أبيض ، قد نزل عنه فسأله أن يركبه ، فركب حتّى أتى الدار ونزل.
وخرج في تلك العشية الى الناس ، ما كان يَخْرِمُ عن أبي الحسن (ع) حتّى لم يفقدوا منه إلا الشخص. وتكلمت الشيعة في شق ثيابه وقال بعضهم : هل رأيتم أحداً من الأئمة شقّ ثوبه في مثل هذه الحال ؟ فوقَّعَ إلى من قال ذلك : يا أحمق ما يدريك ما هذا ، قد شقّ موسى على هرون. وقام أبو محمّد الحسن بن علي مقام أبيه (ع) ».
مقتبس من كتاب الإمام علي الهادي عليه السلام