نور العترة

السجون التي مَرَّ بها الامام موسى بن جعفر عليه السلام

القصيدة : للشاعر الحاج منصور الجشي

مُصابٌ أطلَّ على الكائنات فأوحشَ بالثكلِ أزمانَها
وأفجعنا وجمع الورى وأوقد في القلب نيرانَها
فلله سهمٌ رمى المكرمات فهدّ عُلاها وبنيانَها
ألم تدر يا دهر من ذا رميت أصبتَ بسهمك فرقانَها
أصبتَ بسهمكَ قلبَ الوجودِ وهدَّمتَ واللهِ أركانَها
غداة ابن جعفر موسى قضى مُذابَ الحشاشة حرَّانها
قضى مُستضاماً بضيق السجون يُكابدُ بالهمِّ أشجانَها
أيهنى لعينيَّ طيبَ الكرى وهل تألفُ النفس سلوانَها
وبابُ الحوائج في مهلكٍ عليه الفضا ضاق حيرانَها
أتاحَ لهُ السمّ أشقى الورى فألهبَ أحشاهُ نيرانَها
وألمه بثقل القيود ولم يرع في الحقّ ديّانها
على الجسر مُلقىً برمضائها به أشفت القومُ أضغانَها

* * *

ظل مطروح والسندي ينادي اعليه ابذاك النده الما واحد گدر يطريه
حميت النسب بسليمان هاجت بيه اجه يمه او فل وجها وبچه وشمه

* * *

ناده غلمانه او ويلاده اريد اتشيعونه ابرغم هارون الرشيد
شيعوه او نزعوا منه الحديد وصار للوادم عليه نوح وعويل

* * *

وبعد تشييعه ابوسط لحده اندفن والدموع عليه من دم اذرفن
آه بس احسين ظل ابلا چفن عالترب مطروح وابدمّه غسيل

أبيات الحسچه للاُستاذ المرحوم الشيخ محمّد سعيد المنصوري رحمه الله

يا سائلاً وشظايا القلب في شجن هل جهّزوا لقتيلٍ ماتَ ممتحنِ
أجبته بقلبٍ والهٍ حَزَن ما غسلوه ولا لقوهُ في كفن

يوم الطفوفِ ولا مدّوا عليه ردا

من دعاء الامام عليه السلام : « يا سيّدي نجني من حبس هارون وخلصني من يده يا مخلص الشجر من بين رملٍ وطين ، ويا مخلص اللبن من بين فرث ودم ويا مخلص الولد من بين مشيمةٍ ورحم ، ويا مخلص النار من الحديد والحجر … خلّصني من يد هارون ».

المقدّمة : الأسباب التي دعت هارون لسجن الامام عليه السلام

١ ـ سمو شخصيّة الامام عليه السلام : الامام موسى الكاظم عليه السلام من ألمع الشخصيّات الإسلاميّة في ذلك العصر ، فهو أحد أوصياء الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ، كما دان بإمامته جمهورٌ كبيرٌ من المسلمين ، وقد أجمع المسلمون على اختلاف مذاهبهم على إكبار الامام وتقديره وقد تحدَّث الناس في عصره عن علومه وتقواه وورعه ومكارمه ، وكان هارون نفسه ممّن يجلّه ويعتقد بأن الخلافة الإسلاميّة هو أولى بها منه ، كما حدَّث بذلك المأمون ، فقد قال لندمائه ، أتدرون من علّمني التشيّع ؟ فانبروا جميعاً قائلين : لا والله ما نعلم ، علّمني ذلك الرشيد ، فقالوا كيف ذلك ؟ والرشيد كان يقتل أهل هذا البيت ؟ قال : كان يقتلهم على الملك لانَّ المُلك عقيم ثمّ أخد يحدثهم عن ذلك قائلاً : لقد حججت معه سنة فلمّا انتهى إلى المدينة قال لا يدخل عليَّ رجل من أهلها أمن المكيّين سواء كان من أبناء المهاجرين والأنصار أو من بني هاشم حتّى يعرفني بنسبه وأسرته ، فأقبلت إليه الوفود تترى وهي تعرّف الحاجب بأنسابها ، فيأذن لها ، وكان يمنحها العطاء حسب مكانتها ومنزلتها ، وفي ذات يوم أقبل الفضل بن الربيع حاجبه وهو يقول له : رجل على الباب ، زعم أنّه موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام ، فلمّا سمع ذلك هارون أمر جلساءه بالوقار والهدوء ثمّ قال لرئيس تشريفاته إئذن له ، ولا ينزل إلّا على بساطي. وأقبل الامام عليه السلام وقد وصفه المأمون فقال إنّه شيخٌ قد انهكته العبادة كأنّه شن بال قد كلمَّ السجود وجهه ، فلمّا رآه هارون قام إليه وأراد الامام أن ينزل عن دابّته ، فصاح الرشيد لا والله إلّا على بساطي فمنعه الحجاب من الترجل ونظرنا إليه بالإجلال والإكبار والاعظام ، وسار راكب إلى البساط ، والحجاب وكبار القوم محدقون به ، واستقبله هارون فقبل وجهه وعينيه ، وأخذ بيده حتّى صيّره في صدر مجلسه وأقبل يسأله عن أحواله ويحدّثه ثمّ قال له :

يا أبا الحسن ما عليك من العيال ؟ قال الامام : يزيدون على الخمسمائة. قال هارون : أولاد كلّهم ؟ قال الامام : لا أكثرهم موالي وحشمي وأمّا الولد فلي نيف وثلاثون ثمّ بين له عدد الذكور والإناث ، فقال هارون : لم لا تتزوّج النسوة من بني عمومتهنّ ؟ فقال الامام عليه السلام : اليد تقصر عن ذلك. فقال هارون : ما حالُ الضيعة ؟ قال الامام عليه السلام : تعطي في وقت وتمنع في آخر ، قال هارون : فهل عليك دين ؟ قال الامام عليه السلام : نعم ، قال هارون : كم ؟ قال الامام عليه السلام : نحو من عشرة آلاف دينار ، قال هارون : يا بن عمّ ، أنا أعطيك من المال ما تزوّج به أولادك وتعمر به الضياع. قال الامام عليه السلام : وصلتك رحم يابن العمّ ، وشكر الله لك هذه النيّة الجميلة ، والرحم ماسة واشجة ، والنسب واحد ، والعبّاس عمّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وصِنو أبيه وعمّ علي بن أبي طالب عليه السلام وصنو أبيه ، وما أبعدك الله من أن تفعل ذلك وقد بسط يدك وأكرم عنصرك وأعلى محتدك ، فقال هارون : أفعل ذلك يا أبا الحسن وكرامة ، فقال له الامام عليه السلام : إنَّ الله عزَّ وجلَّ قد فرض على ولاة العهد أن ينعشوا فقراء الأمّة ، ويقضوا على الغارمين ، ويؤدّوا عن المثقل ويكسو العاري وأنت أولى من يفعل ذلك. قال هارون : أفعل ذلك يا أبا الحسن.

ثمّ انصرف الامام عليه السلام فقام هارون تكريماً له فقبّل ما بين عينيه ووجهه ثمّ التفت إلى أولاده فقال لهم : قوموا بين يدي عمّكم وسيّدكم ، وخذوا بركابه وسووا عليه ثيابه وشيّعوه إلى منزله ، فانطلقوا مع الامام بخدمته وأسر عليه السلام إلى المأمون فبشَّرهُ بالخلافة وأوصاه بالإحسان إلى ولده ، ولمّا فرغوا من القيام بخدمة الامام وإيصاله إلى داره قال المأمون : كنتُ أجراُ ولد أبي عليه ، فلمّا خلا المجلس قلت له : يا أمير المؤمنين ، من هذا الرجل ؟ الذي عظمته وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته وأقعدته في صدر المجلس ، وجلست دونه ثمّ أمرتنا بأخذ الركاب له. قال هارون : هذا إمام الناس وحجّة الله على خلقه وخليفته على عباده ، قال المأمون : يا أمير المؤمنين أو ليست هذه الصفات كلّها لك وفيك ؟

قال هارون : أنا إمام الجماعة في الظاهر بالغلبة والقهر وموسى بن جعفر عليه السلام إمام حقّ ، والله يا بني إنّه لأحقّ بمقام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم منّي ومن الخلق جميعاً والله لو نازعتني هذا الأمر لأخذتُ الذي فيه عينيك فان المُلك عقيم … الخ (۱).

٢ ـ حقد هارون : كان الحقدُ من مقومات ذات الرشيد ، ومن أبرز صفاته النفسيّة لقد حَسَدَ الرشيد البرامكة لما ذاع اسمهم وتحدثت الناس عن مكارمهم فقد أخذ الحقد ينخر في قلبه حتّى أنزل بهم العقاب الأليم فمحا وجودهم وأزال ظلهم.

وكذلك لم يرق لهارون أن يرى في المجتمع من هو أفضل منه ، والجماهير تؤمن بأن الامام الكاظم عليه السلام هو أولى بالأمر من غيره ، وانّه في القمة العليا علماً وفضلاً وأن المسلمين أجمعوا على تعظيمه ، فساءه ذلك فقدم على ارتكاب الجريمة فأودع الامام في ظلمات السجون (۲).

٣ ـ حرصه على الملك : كان هارون حريصاً على ملكه متفانياً في حبّ سلطانه فهو يُضحى في سبيله جميع المقدّسات والقيم ، وقد عبَّر عن مدى حرصه على سلطته بكلمته المعروفه : « لو نازعني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لأخذتُ الذي فيه عيناه » (۳).

٤ ـ بغضه للعلويّين : لقد ورث هارون عداء العلويّين وبغضهم من آبائه وسلفه الذين نكلوا بالعلويّين ، وصبوا عليهم وابلاً من العذاب الأليم ، وساقوهم إلى القبور والسجون ، وطاردوهم حتّى هربوا خائفين هائمين على وجوههم ، وزاد هارون على أسلافه ، فدفن العلويّين وهم أحياء وأشاع في بيوتهم الثكل والحزن والحداد ، وفرض عليهم الإقامة الإجباريّة في بغداد ، وجعلهم تحت المراقبة ، ولم يسمح للاتّصال بهم وحرمهم من جميع حقوقهم الطبيعية. وكان أبغض شيء عليه أن يرى عميد العلويّين موسى بن جعفر عليه السلام في دعة واطمئنان وأمان ، فعَمَد إلى سجنه وحرمان الاُمّة الإسلاميّة من علومه ومن الاستفادة من نصائحه (٤).

٥ ـ الوشاية به : وعَمدَ فريقٌ من باعة الضمير إلى السعي بالامام عليه السلام والوشاية به عند الطاغية هارون ليتزلفوا إليه بذلك ، وكانت وشاية هؤلاء المجرمين بالامام ذات طوابع متعدّدة وهي :

أ ـ جباية الأموال له : انطلق بعض الأشرار ، فأخبر هارون بأن الامام تُجبى له الأموال الطائلة من شتى الأقطار الإسلامية وإنّه اشترى بها ضيعة تسمى « البسرية » اشتراها بثلاثين ألف دينار ، فأشار ذلك كوامن الغيظ والحقد في نفس هارون ، فان سياسته كانت تجاه العلويّين تقضي بفقرهم ووضع الحصار الاقتصادي عليهم ، فان فقرهم أحبّ إليه من غناهم ـ كما قال لولده المأمون ـ وقد ذهب ابن الصباغ إلى أن هذه الوشاية من جملة الأسباب التي دعت إلى سجن الامام عليه السلام (٥).

ب ـ طلب الخلافة : وهناك مجموعة من السعاة لهارون على إمامنا الكاظم عليه السلام بحجّة انّه يطلب الخلافة قد سخّرهم بعض أعوان هارون ليتقرّب من هارون مثل يحيى البرمكي وغيره.

٦ ـ احتجاج الامام : من الأسباب التي حفزت هارون لاعتقال الإمام وزجّهُ في غياهب السجون ، احتجاجه عليه السلام عليه بأنّه أولى بالنبي العظيم صلّى الله عليه وآله وسلّم من جميع المسلمين فهو أحد أسباطه ووريثه وأنّه أحقُّ بالخلافة مِن غيره وقد جرى احتجاجه عليه السلام معه في مرقد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وذلك حينما زاره هارون وقد احتفَّ به الوجوه والأشراف وقادة الجيش وكبار الموظّفين بالدولة فقد أقبل بوجهه على الضريح المقدَّس وسلّم عَلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قائلاً : « السلام عليك يابن العمّ » وقد اعتزَّ بذلك على من سواه وافتخر على غيره برحمه الماسّة من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وإنّه إنّما نال الخلافة لقربه من الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وكان الإمام عليه السلام آنذاك حاضراً فسلّمَ على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قائلاً : « السلام عليك يا أبتِ » ففقد الرشيد صوابه واستولّت عليه موجات من الأستياء حيث قد سبقه الامام عليه السلام إلى ذلك المجد والفخر فاندفع قائلاً بنبرات تقطرُ غضباً : « لِمَ قلت أنّك أقرب إلى رسول الله منّا ؟؟ » فأجابهُ عليه السلام بجواب لم يتمكّن الرشيد من الردَّ عليه أو المناقشة فيه قائلاً : « لو بُعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حيّاً فخطبَ منك كريمتك هل كنت تجيبهُ إلى ذلك ؟ » فقال هارون سبحان الله وكنتُ أفتخر بذلك على العرب والعجم.

فقال الامام عليه السلام : « لكنّه لا يخطب منّي ولا أزوّجه لانّه والدنا لا والدكم فلذلك نحن أقربُ إليه منكم ». اذن فالإمام أولى بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من هارون وأحقَّ بالخلافة فهو سبطه ووارثه. لذلك ازداد هارون غيظاً على الامام وزجَّ به في السجن.

القبض على الإمام عليه السلام

وفي اليوم الثاني ألقى القبض على الامام عليه السلام فالقت الشرطة القبض على الامام عليه السلام وهو قائمٌ يُصلّي لربّه عند رأس جدّه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقطعوا عليه صلاته ولم يمهلوه من إتمامها ، وكان إعتقاله في شهر شوال لعشر بقين منه عام ١٧٩ هـ وخاف الرشيد من وقوع الفتنة وحدوث الاضطراب ، فأمر بتهيأة قبتين فأوعز بحمل إحديهما إلى الكوفة والأخرى إلى البصرة ليوهم على الناس أمر الامام عليه السلام ويخفي عليهم خبر إعتقاله ، وأمر بحمل الامام عليه السلام إلى البصرة في غلس الليل البهيم.

سجنه في البصرة

وسارت القافلة بقيادة « حسان السروي » الذي وكِّل بحراسة الامام والمحافظة عليه ، حتّى سلّمه إلى عيسى بن جعفر في البصرة قبل التروية بيوم ، فحبسه عيسى في بيت من بيوت المحبس ، وأقفل عليه أبواب السجن ، فكان لا يفتحها إلّا في حالتين ، إحداهم في حالة خروجه إلى الطهور ، والأخرى لإدخال الطعام له.

ما قام به الامام عليه السلام في سجن البصرة

أ ـ تفرغه للعبادة : وأقبل الامام عليه السلام على عبادة الله فحيّر الألباب وأبهر العقول بعبادته وانقطاعه إلى الله فكان يصوم في النهار ويقوم في الليل ، وكان يدعو بهذا الدعاء : « اللهم انّك تعلمُ أنّي كنتُ أسألكَ أن تفرغني لعبادتك ، اللهمَّ وقد فعلت فلك الحمد ».

ب ـ اتّصال العلماء به : أقبل علماء البصرة ورواة الحديث إلى الامام عليه السلام فاتّصلوا به من طريقٍ خفيٍ وكان منهم ياسين الزياتي وروى عنه. « حياة الامام موسى بن جعفر للقرشي »

أوعز هارون لعيسى بقتل الامام عليه السلام

ولما وصلت رسالة هارون الرشيد لعيسى بقتل الامام عليه السلام ثقل عليه الأمر وجمع خواصّه وثقاته فعرض عليهم الأمر فأشاروا إليه بالتحذير من ارتكاب الجريمة فكتب إلى الرشيد : « يا أمير المؤمنين كتبتَ إليَّ في هذا الرجل وقد اختبرته طول مقامه بمن حسبته عيناً عليه لينظروا جبلته وأمره وطويّته ممّن له المعرفة والدراية فلم يكن منه سوء قطّ ولم يذكر أمير المؤمنين إلّا بخير ولم يكن له تطلّع إلى ولاية ولا خروج ولا شيء من أمر الدنيا ولا دعا قطّ على أمير المؤمنين ، فان رأى أمير المؤمنين من أن يعفيني من أمره أو ينفذ من يتسلّمه منّي وإلا أطلقت سراحه ». وقد بقي في سجن عيسى سنة كاملة.

نقل الامام عليه السلام إلى بغداد

فحُمِلَ الامام عليه السلام مُقيّداً إلى بغداد تحفُّ به الشرطة والحراس ، فأمر الرشيد باعتقاله عند الفضل ابن الربيع فحبسه في بيته ، ولم يعتقله في السجون العامة « كالمطبق » وغيره نظراً لخطورة الامام عليه السلام وسمو مكانته وعظم شخصيّته.

إنشغاله بالعبادة في سجن الفضل بن الربيع

كان هارون يُراقب بنفسه ما يقوم به الامام عليه السلام ويتطلّع على شؤونه خوفاً من أن يتّصل به أحد من الناس ، أو يكون الفضل قد رفّهَ عليه ، فأطلَّ من أعلى القصر على السجن فرأى ثوباً مطروحاً في مكان خاص لم يتغيّر عن موضعه ، فقال للفضل :

ما ذاك الثوب الذي أراه كلّ يوم في ذلك الموضع ؟! فقال الفضل : يا أمير المؤمنين ما ذاك بثوبٍ ، وإنما هو موسى بن جعفر له في كلّ يوم سجدة بعد طلوع الشمس إلى وقت الزوال ، فقال هارون : أما إنَّ هذا من رهبان بني هاشم ؟!

فقال الفضل : يا أمير المؤمنين مالكَ قد ضيقت عليه في الحبس ؟!

فقال هارون : هيهات لا بدَّ من ذلك.

دعاء الامام في السجن

لقد حُجب الامام عليه السلام عن عياله وأطفاله وشيعته ، ينقل من حبس إلى حبس ، فالتجأ إلى الله سبحانه يخلّصهُ من سجن هارون ، فجدّد طهوره وصلّى لربّه أربع ركعات ثمّ دعا في غلس الليل البهيم : « يا سيّدي : نجّني من حبس هارون وخلّصني من يده ، يا مخلص الشجر من بين رملٍ وطين ، ويا مخلص النار من بين الحديد والحجر ، ويا مخلص اللبن من بين فرث ودم ويا مخلص الولد من بين مشيمة ورحم ويا مخلص الروح من بين الأحشاء والأمعاء خلّصني من يد هارون » (٦).

استجاب الله دعاءه وأطلق سراحه في غلس الليل بسبب رؤيا رآها هارون فخاف وأطلق سراح الامام عليه السلام وأعطاه ثلاثين ألف درهم.

وكان الامام الكاظم عليه السلام قد رأى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال له يا موسى لقد سُجنت مظلوماً ، قل هذه الكلمات فانّك لا تبقى في الحبس هذه الليلة ، فقلت له بأبي أنت وأمي ما أقول فقال قل : « يا سامع كلّ صوت ويا سابق الفوت ، ويا كاسي العظام لحماً ومنشرها بعد الموت أسألك بأسمائك الحسنى وباسمك الأعظم الأكبر المخزون المكنون الذي لم يطّلع عليه أحدٌ من المخلوقين ، يا حليماً ذا أناة لا يقوى على أناته ياذا المعروف الذي لا ينقطع أبداً ، ولا يحصى عدداً ، فرّج عنّي ».

وفرّج الله عنه ، فخلى هارون سبيله ، وقد مكث في سجن الفضل مدّة طويلة من الزمن لم يعينها التأريخ.

وبقيَ الامام عليه السلام بعد اطلاق سراحه في بغداد لم ينزح عنها إلى يثرب وكان يدخل على هارون الرشيد في كلّ اُسبوع مرّة في يوم الخميس (۷).

وأكبر الظنّ انّ الرشيد فرض عليه الاقامة الجبريّة. وقد ذهب لذلك السيّد مير علي الهندي فقال : « وقد حدث مرّتين ان سمح الرشيد لهذا الامام الوديع بالرجوع إلى الحجاز ولكن شكوكه تستولي عليه فيبقيه في الحبس » (۸).

وكان الامام عليه السلام بذل جهوده وهو في بغداد لإرشاد الناس وهدايتهم إلى طريق الحقّ ، فقد اهتدى بشر الحافي وتاب على يده حتّى صار من عيون الصالحين والمتّقين.

سجن الفضل بن يحيى البرمكي

ولما ذاع صيت الامام وانتشر فضله وعلمه وحبّ الناس له ، خاف هارون على ملكه فأوعز إلى اعتقال الامام عليه السلام عند الفضل بن يحيى البرمكي ، وذات يوم أرسل هارون على الفضل وهو غضبان يطلب منه أن يأتي بالامام عليه السلام وكان هارون يريد قتله ، فدعا الامام عليه السلام بدعاء جدّه أمير المؤمنين عليه السلام : « اللهمَّ بك أساور وبك أحاول وبك أجاور وبك أصول وبك انتصر وبك أموت وبك أحيى أسلمتُ نفسي إليك وفوضت أمري إليك ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم اللهم إنّك خلقتني ورزقتني وسترتني عن العباد بلطف ما خولتني اغنيتني ، فاذا هويت رددتني وإذا عثرت قومتني وإذا مرضت شفيتني وإذا دعوت أجبتني يا سيّدي : ارض عنّي فقد أرضيتني » (۹).

قال هارون للفضل فرأيتُ أقواماً قد أحدقوا بداري بأيديهم حراب قد غرسوها في أصل الدار يقولون إن آذى ابن رسول الله خسفنا به وبداره الأرض وإن أحسن اليه انصرفنا عنه وتركناه. لذلك خاف هارون وأمر أن يأتي بغالية ، فأتيَ بها ، فطيَّب الامام بيده وأمر أن يحمل بين يديه خلع وبدرتان ودنانير فقال الامام عليه السلام : لولا أنّي أرى أزوّج بها من عزاب بني أبي طالب لئلّا ينقطع نسله ما قبلتها أبداً. ومرّةً ثانية اصدر هارون أوامره باعتقال الامام عليه السلام عند الفضل بن يحيى وأوعز إليه أن يقتل الامام عليه السلام فامتنع الفضل وخاف من الله ولانّه كان ممّن يذهب إلى الامامة ويدين بها ، وهذا هو السبب في اتّهام البرامكة بالتشيّع(۱۰). ثمّ إنَّ هارون نكل بالفضل وأمر أن يضرب مائة سوط.

في سجن السندي بن شاهك

وأخيراً لم يجد هارون من ينفّذ رغباته في موسى بن جعفر عليه السلام سوى هذا الشرير الوغد اللئيم فنقله إلى سجنه وأمره بالتضييق عليه ، فاستجاب الأثيم لذلك ، فقابل الامام بكلّ جفوة وقسوة ، والامام صابر محتسب في محبس بدار المسيّب الواقع قرب باب الكوفة وفيه كانت وفاته ، وقال بعض المؤرّخين إنّه حبس في بيت السندي وإنّه كان مع أهله وعياله ولم نعلم أن دار السندي هل هي دار المسيّب أم غيرها ؟ (۱۱)

وقد ضيَّق عليه السندي وقيّده بثلاثين رطلاً من الحديد وكان يقفل الباب في وجهه ولا يدعه يخرج إلّا للوضوء ، وكان السندي من أشدّ الناس بغضاً لأبي طالب عليه السلام.

سمّ الامام عليه السلام

ثمّ انّ الرشيد عمد إلى رطب فوضع فيه سمّاً فاتكاً وأمر السندي أن يقدمه إلى الامام ويحتم عليه أن يتناول منه ، وقيل انّ الرشيد أوعز إلى السندي في ذلك فأخذ رطباً ووضع فيه السم وقدَّمه للامام فأكل منه عشر رطبات ، فقال له السندي زد على ذلك ، فرمقه الامام بطرفه وقال له حسبك قد بلغت ما تحتاج إليه. فسرى السمّ في جسد إمامنا رحم الله المنادي وا إماماه وا سيّداه.

قضى نحبه وافجعتاه لوحده غريباً بقعر السجن وهو مصفّدُ

* * *

الكاظم عگب ابوه امعذّبينه مدّه بالسجون امغيبينَه
شنهو اللي عمل ويّاه هارون خلّه الكاظم ابچم سجن مسجون
ابطوامير الذي متشوفه العيون او عليه تسئل الشيعة راح وينه
تالي صار عدهم خَبَر عَنّه ابسجن هارون ريّسها المچنّه
گالوا عسى الباري ايعوده النه او من يرجع اله ننصب الزينه
ضلّوا يرتجون ايعود ليهم او لنه الطارش ايحشّم عليهم
ابجسر بغداد كاظمهم يجيهم افرحوا گالوا عسى سالم يجينه
اطلعوا طلعه طبگ نسوه او رجاجيل اولن هذه الجنازه اعلى الحماميل
ثلاث ارطال في رجله الزناجيل الحديد اويه الجنازه شايلينه

* * *

ارتجت شيعته من علم الاگشر او گالوا هذا ريسنه بن جعفر
اسليمان انتهض بيها او عليه طر ابن عمّه يگول الحاملينه

* * *

هذا الطيّب المن صلبه طيبين الجدّه المصطفى المختار ياسين
او بن حيدر علي والد السبطين اومه فاطمه الزهره الحزينه

* * *

الشيعة انتهضت ابذمّة اسليمان او شيّعت بالمعزّة عالي الشأن
بس جدّه البگه اعلى الترب عريان امجرّد بالحوافر ساحگينه

* * *

الهوامش

۱. حياة موسى بن جعفر عليه السلام للشيخ باقر شريف القرشي : ٢ / ٤٤٣ ـ ٤٤٦.

۲. حياة موسى بن جعفر عليه السلام للقرشي : ٤٤٩ ـ ٤٥٠.

۳. نفس المصدر السابق: ٤٥٠.

٤. نفس المصدر السابق.

٥. نفس المصدر السابق : ٢٥١ ـ ٢٥٢.

٦. نفس المصدر السابق: ٤٧٢ ـ ٤٧٣.

۷. نفس المصدر السابق: ٤٧٥.

۸. نفس المصدر السابق: ٤٧٦ نقلاً عن مختصر تاريخ العرب: ٢٠٩.

۹. نفس المصدر السابق : ٤٧٩.

۱۰. نفس المصدر السابق : ٤٨٠.

۱۱. نفس المصدر السابق : ٤٨٧.

مقتبس من كتاب : [ مجالس في رحاب الإمام المعذّب في قعر السجون ] / الصفحة : ۷٥ ـ ۸٦

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى