قصَّة استشهاده
قال أنس بن مالك : مرض عليٌّ فدخلت عليه ، وعنده أبو بكر وعمر ، فجلست عنده ، فأتاه النبيٌّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فنظر في وجهه ، فقال له أبو بكر وعمر : يا نبيَّ الله ما نراه إلّا ميِّتاً. فقال : « لن يموت هذا الآن ، ولن يموت حتّى يُملأ غيضاً ، ولن يموت إلّا مقتولاً » (۱).
وممَّا رواه أبو زيدٍ الأحول عن الأجلح ، عن أشياخ كندة ، قال : سمعتهم أكثر من عشرين مرَّةً يقولون : سمعنا عليَّاً عليه السلام على المنبر يقول : « ما يمنع أشقاها أن يخضّبها من فوقها بدمٍ » ؟ ويضع يده على لحيته عليه السلام (۲).
واشتهرت الرواية عن عُثمان بن المغيرة ، قال : كان عليٌّ عليه السلام لمَّا دخل رمضان يتعشَّى ليلةً عند الحسن ، وليلةً عن الحسين ، وليلةً عند عبد الله بن جعفر ، زوج زينب بنت أمير المؤمنين عليه السلام ، وكان لا يزيد على ثلاث لُقم ، فقيل له في ليلةٍ من تلك الليالي في ذلك ، فقال : « يأتيني أمر الله وأنا خميصٌ ، إنَّما هي ليلةٌ أو ليلتان ». فلم تمضِ ليلة حتّى قُتل (۳).
سبب قتله : (٤)
وكان سبب قتله أنَّ نفراً من الخوارج اجتمعوا بمكَّة ، فتذاكروا أمر الناس وعابوا عمل ولاتهم ، ثُمَّ ذكروا أهل النهر فترحَّموا عليهم ، وقالوا : ما نصنع بالبقاء بعدهم ؟ فلو شرينا أنفسنا وقتلنا أئمّة الضلالة وأرحنا منهم البلاد !
وقال عبد الرحمن بن ملجم المرادي ـ لعنه الله ـ : أنا أكفيكم عليَّاً ، وكان من أهل مصر. وقال البرك بن عبد الله التميمي الصُريمي : أنا أكفيكم معاوية. أمَّا عمرو بن بكر التميمي ، فقال : أنا أكفيكم عمرو بن العاص. وتعاهدوا على ذلك وأخذوا سيوفهم فسمُّوها ، واتَّعدوا لسبع عشرة من رمضان ، وقصد كلٌّ منهم الجهة التي يريد.
فأتى ابن مُلجم الكوفة كاتماً أمره ، فبينما هو هناك إذ زار أحداً من أصحابه من تيم الرباب ، فصادف عندهُ قطام بنت الأخضر التيميَّة .. وكان أمير المؤمنين عليه السلام قتل أباها وأخاها بالنهروان ، فلمَّا رآها أخذت قلبه فخطبها ، فأجابته إلى ذلك على أن يُصدِقها : ثلاثة آلاف وعبداً وقينةً ، وقتل عليٍّ !!
فقال لها : والله ، ما جاء بي الّا قتل عليٍّ ، فلكِ ما سألتِ !
قالت : سأطلب لك من يشدُّ ظهرك ويساعدك ، وبعثت إلى رجلٍ من قومها اسمه : وردان وكلَّمته فأجابها ..
وروي أنَّ الإمام عليه السلام سهر في تلك الليلة التي قُتل فيها ، وكان يكثر الخروج والنظر إلى السماء ، وهو يقول : « والله ما كذبتُ ولا كُذبت ، وإنَّها الليلة التي وُعدتُ بها » ثُمَّ يعاود مضجعه ، فلمَّا طلع الفجر شدَّ إزاره وخرج وهو يقول :
« أُشدد حيازيمك للموت | فإنَّ الموت آتيك | |
ولا تجزع من الموت | إذا حلَّ بواديك » (٥) |
وأخذ ابن ملجم سيفه ومعه شبيب بن بَجَرة ووردان ، وجلسوا مقابل السدَّة التي يخرج منها عليٌّ عليه السلام للصلاة .. فضربه ابن ملجم أشقى الآخرين لعنه الله ، ليلة تسعة عشر من شهر رمضان ، سنة أربعين من الهجرة ، في المسجد الأعظم بالكوفة ، ضربه بالسيف المسموم على أُمِّ رأسه.
فمكث عليه السلام يوم التاسع عشر وليلة العشرين ويومها ، وليلة الحادي والعشرين إلى نحو الثلث من الليل ثُمَّ قضى نحبه شهيداً محتسباً صابراً وقد مُلئ قلبه غيضاً ..
بتلك الضربة الشرسة التي ارتجَّ لها المسجد الأعظم ، دوى صوت الإمام المظلوم بنداء : « فزت وربِّ الكعبة » لم يتلكَّأ ولم يتلعثم في تلك اللحظات التي امتُحن قلبه ، وهو القائل « والله لو كُشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً » هذا الإمام العظيم الذي طوى صفحات ماضيه القاسية بدمائه الزكيّة الطاهرة ، أدرك في لحظاته الأخيرة أنَّه أنهى خطَّ الجهاد والمحنة ، وكان أسعد المخلوقين في هذه اللحظات الأخيرة ، حيث سيغادر الكفر والنفاق والغشَّ والتعسُّف .. سيترك الدنيا لمن يطلبها ؛ ليلحق بأخيه وابن عمِّه ورفيق دربه في الجهاد في سبيل الله صابراً مظلوماً ، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون ..
اللَّهمَ احشرنا معهم واجعلنا من أتباعهم والمتوسِّمين خطاهم .. آمين.
وقيل : كان عمره يوم استشهد ثلاثاً وستِّين سنةً ، وتولَّى غسله وتكفينه ابناه الحسن والحسين بأمره ، وحملاه إلى الغريَّين من نجف الكوفة ، ودفناه هناك ليلاً ، وعمَّيا موضع قبره بوصيّته إليهما في ذلك ، لما كان يعلم من دولة بني أُميَّة من بعده ، وإنَّهم لا ينتهون عمَّا يقدرون عليه من قبيح الأفعال ولئيم الخلال ، فلم يزل قبره مخفيَّاً حتّى دلَّ عليه الصادق عليه السلام في الدولة العبَّاسية ، وزاره عند وروده إلى أبي جعفر وهو بالحيرة (٦).
الهوامش
۱. إعلام الورى ١ : ٣١٢ ، إرشاد المفيد ١ : ١٠ ، وانظر الكامل في التاريخ ٣ : ٢٥٨.
۲. المستدرك ٣ : ١٣٩ ، إعلام الورى ١ : ٣١٠ ، الكامل في التاريخ ٣ : ٢٥٤ باختلافٍ يسير.
۳. الإرشاد ١ : ١٣ ، وانظر الكامل في التاريخ ٣ : ٢٥٤.
٤. الكامل في التاريخ ٣ : ٢٥٤ ، الإرشاد ١ : ١٤ ـ ١٧ ، إعلام الورى ١ : ٣٠٩ ، أُسد الغابة ٤ : ٣٥.
٥. أنظر قصَّة قتله عليهالسلام في سير أعلام النبلاء ٢ : ٢٨٤ وما بعدها ، الكامل في التاريخ ٣ : ٢٥٤ ـ ٢٥٨ ، إعلام الورى ١ : ٣٨٩ وما بعدها ، إرشاد المفيد ١ : ٩ ، وغيرها من كتب التاريخ والتراجم.
٦. إعلام الورى ١ : ٣١١.
مقتبس من كتاب : [ الإمام علي عليه السلام سيرة وتأريخ ] / الصفحة : ۲۲۰ ـ ۲۲۳