فضائل الأخلاق من المنجيات الموصلة إلى السعادة الأبدية، ورذائلها من المهلكات الموجبة للشقاوة السرمدية، فالتخلي عن الثانية والتحلي بالأولى من أهم الواجبات والوصول إلى الحياة الحقيقية بدونهما من المحالات.
فيجب على كل عاقل أن يجتهد في اكتساب فضائل الأخلاق التي هي الأوساط1المثبتة من صاحب الشريعة والاجتناب عن رذائلها التي هي الأطراف، ولو قصر أدركته الهلاكة الأبدية، إذ كما أن الجنين لو خرج عن طاعة ملك الأرحام المتوسط في الخلق لم يخرج إلى الدنيا سويا سميعا بصيرا ناطقا، كذلك من خرج عن طاعة نبي الأحكام المتوسط في الخلق لم يخرج إلى عالم الآخرة كذلك.
﴿ وَمَنْ كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ 2.
ثم ما لم تحصل التخلية لم تحصل التحلية ولم تستعد النفس للفيوضات القدسية، كما أن المرآة ما لم تذهب الكدورات عنها لم تستعد لارتسام الصور فيها، والبدن ما لم تزل عنه العلة لم تتصور له إفاضة الصحة، والثوب ما لم ينق عن الأوساخ لم يقبل لونا من الألوان، فالمواظبة على الطاعات الظاهرة لا تنفع ما لم تتطهر النفس من الصفات المذمومة كالكبر والحسد والرياء، وطلب الرياسة والعلى وإرادة السوء للاقران والشركاء وطلب الشهرة في البلاد وفي العباد، وأي فائدة في تزيين الظواهر مع إهمال البواطن.
ومثل من يواظب على الطاعات الظاهرة ويترك تفقد قلبه كبئر الحش3ظاهرها جص وباطنها نتن، وكقبور الموتى ظاهرها مزينة وباطنها جيفة، أو كبيت مظلم وضع السراج على ظاهره فاستنار ظاهره وباطنه مظلم، أو كرجل زرع زرعا فنبت ونبت معه حشيش يفسده فأمر بتنقية الزرع عن الحشيش بقلعه عن أصله فأخذ يجز رأسه ويقطعه فلا يزال يقوى أصله وينبت فإن الأخلاق المذمومة في القلب هي مغارس المعاصي فمن لم يطهر قلبه منها لم تتم له الطاعات الظاهرة، أو كمريض به جرب وقد أمر بالطلاء ليزيل ما على ظهره ويشرب الدواء ليقلع مادته من باطنه فقنع بالطلاء وترك الدواء متناولا ما يزيد في المادة فلا يزال يطلي الظاهر والجرب يتفجر من المادة التي في الباطن.
ثم إذا تخلت عن مساوئ الأخلاق وتحلت بمعاليها على الترتيب العملي استعدت لقبول الفيض من رب الأرباب، ولم يبق لشدة القرب بينهما حجاب، فترتسم فيها صور الموجودات على ما هي عليها، على سبيل الكلمة، أي بحدودها ولوازمها الذاتية لامتناع إحاطتها بالجزئيات من حيث الجزئية، لعدم تناهيها، وإن علمت في ضمن الكليات لعدم خروجها عنها، وحينئذ يصير4 موجودا تاما أبدى الوجود سرمدي البقاء، فائزا بالرتبة العليا، والسعادة القصوى، قابلا للخلافة الإلهية، والرئاسة المعنوية فيصل إلى اللذات الحقيقية، والابتهاجات العقلية التي ما رأتها عيون الأعيان، ولم تتصورها عوالي الأذهان 5.
- 1. إشارة إلى أن الفضيلة وسط بين رذيلتين وقد دعى الشارع إلى تحصيل الوسط بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: خير الأمور أواسطها) وسيأتي شرح المعنى من الوسط والطرفين.
- 2. القران الكريم: سورة الإسراء (17)، الآية: 72، الصفحة: 289.
- 3. الحش بالفتح أو الضم ثم التشديد والفتح أكثر من الضم: المخرج وموضع الحاجة وأصله من الحش بمعنى البستان، لأنهم كانوا يتغوطون في البساتين، فلما اتخذوا الكنف أطلقوا عليها الاسم مجازا، فالمراد هنا من بئر الحش خزانة الكنيف.
- 4. تذكير الضمير باعتبار إرادة الإنسان لأنه صاحب النفس بل هو هي.
- 5. المصدر: كتاب جامع السعادات، العلامة محمدمهدي النراقي رحمه الله.