كريم مرزة الأسدي
سئل المتنبي ذات يوم، لماذا تركت مذح الإمام (ع)، وأنت ابن الكوفة، فأجاب :
وتركتُ مدحي للوصيِّ تعمداً ***** إذ كان نوراً مستطيلاً شـــــــــــاملا
وإذا استطال الشيءُ قامَ بذاتهِ ***** وصفاتُ ضوءِ الشمس تذهبُ باطلا [١]
وكان البيتان موجودين في الطبعة الأولى للبرقوقي (١٩٠٣م)، ثم حذفت من الديوان!! ولكنهما موجودان في معظم كتب الأدب والتاريخ العربي، ويقول ابن أبي الحديد المعتزلي شارح نهج البلاغة من قصيدة له في حق الإمام علي (ع) :
يا رسمُ لا رسمتك ريحٌ زعـــــزعُ ***** وسرتْ بليل في عراصك خروعٌ
قد قلتُ للبرق الذي شقَّ الدّجى ***** فكـــــــــــــأنّ زنجياً هناك يجدعُ
يا برق إنٍ جئت الغري فقلٍلــهُ ***** أتراك تعلمُ منَ بأرضـــــك مودعُ
فيك الإمام المرتضى فيك الوصي***** المجتبى فيك البطين الأنـــــزعُ
زهدُ المسيح وفتكـة الدّهر الذي***** أودى بهَ كســـــــــرى وفوز تبعُ
هذا ضميرُ العالم المــوجود عن ***** عدم وسرّ وجوده المســـتودعُ
ورأيتُ ديـــــنَ الأعتزال وأنـّني ***** أهـوى لأجلكَ كـــــلَّ مَنْ يتشيعُ
لا أريد أن أتكلم عن خصال الإمام (ع) وخلقه وزهده وتقواه وعدله وشجاعته وقرابته من الرسول (ص)، وأحقيته، وسبقه في الإسلام، ومؤاخاته للنبي الكريم (ص)، وتفانيه في مساعدة الفقراء، وقد أوجزت ذلك في قصيدتي عن الإمام (ع) :
ألا للهِ من نفسٍ تســــــــامتْ ***** عن الدنيا وذي الدنيا حطامُ
فأنتَ شعاعُ كلِّ عظيم نفسٍ ***** ومنكَ ســـما عباقرة عظامُ
مجالاتُ اتســـاعكَ كلُّ أفقٍ ***** بليغ أو تقــــيٌّ أو همــــــامُ
ولو كانتْ ســجية أيِّ فردٍ ***** بواحدةٍ لحــــلَّ لهُ القيــــــــامُ
هذه الأمور لا يختلف عليها اثنان من المسلمين، ونحن الآن نلقي فكرة مختصرة عن استشهاده الشريف للذكرى، إذ بعد موقفه الحكيم بإطلاق الماء عند سيطرته عليه في ذي الحجة سنة (٣٦ هـ) [٢] ( حزيران ٦٥٧ م)، بعد أن منع عن جيشه أبان معركة صفين التي استمرت حتى ( ٣٧ هـ / ٦٥٧م)، وقبوله التحكيم.
انشق الخوارج عنه، فانتصر عليهم في معركة النهروان في ( ١٧ تموز ٦٥٨ م [٣] /٩ صفر ٣٨ هـ ) وبتحريض منهم توجه عبد الرحمن بن ملجم المرادي إلى الكوفة ، ونزلها في (شعبان ٤٠ هـ/ أواخر كانون الأول ٦٦٠ م)، وحل ضيفاً عند (قطام بنت الأصبغ التميمي) .
وكان بها مسحة جمال فتعلق بها [٤] ، فطلبت دم علي مهراً لها [٥] ، وعندما لقى “شبيب بن بجرة الأشجعي، فأعلمه ما يريد، ودعاه أن يكون معه، فأجابه إلى ذلك، فأخذا أسيفهما، ثم جاءا حتى جلسا مقابل السدة التي يخرج منها الإمام علي ، فلما خرج من الباب نادى أيها الناس الصلاة الصلاة، وكذلك كان يفعل كل يوم، ومعه درته يوقظ الناس، فاعترضه الرجلان” [٦] وضربه ابن ملجم على جبهته فأصابه إصابة بالغة، وأخطأه شبيب فوقع سيفه على الطاق، وهرب فنجا في غمار الناس، وكانت قطام قد بعثت وردان ليساعدهما، ولكنه هرب عند ضرب الإمام ولم يشارك [٧] ، وتم ذلك ليلة ( تسع عشرة من رمضان سنة ٤٠ هـ / ٢٢ – ١ – ٦٦١م)، فمكث الإمام بعدها يومين، ففي ليلة إحدى وعشرين ، وكانت ليلة الجمعة إلى نحو الثلث منها قضى نحبه شهيداً مظلوماً(٢٤ /١ /٦٦١ م), وهو ابن ثلاث وستين سنة [٨] قمرية، وبالميلادي ٦١ سنة (٦٠٠ – ٦٦١م)، علماً أن النبي (ص) أكبر منه ثلاثين سنة ميلادية، إذ ولد عام الفيل (٥٧٠ م) في عهد عمرو بن هند .
ويسجل لنا الإمام (ع) موقفاً إنسانياً رائعاً لا يكاد يقفه غيره في كيفية التعامل مع الخصم حتى في أحرج ساعات الحياة حيث يصد الغدر بالرحمة، إذ يوصي ابنه الإمام الحسن (ع) بشأن قاتله، وبإجماع كل المؤرخين [٩] .
فيذكر ابن خلدون : إنه أوصى يا بني عبد المطلب لا تحرضوا على دماء المسلمين وتقولوا قتل أمير المؤمنين لا تقتلوا إلا قاتلي …يا حسن إن أنا مت من ضربتي فاضربه بسيفه ولا تمثلن بالرجل، فإني سمعت رسول الله (ص) يقول : إياكم والمثلة [١٠] ، ويقول ابن سعد في طبقاته الكبرى ” فقال علي : إنه أسيرنا أحسنوا نزله، وأكرموا مثواه، فإن بقيت قتلت أو عفوت، وإن مت فاقتلوه قتلتي، ولا تعتدوا “إنّ الله لا يخب المعتدين” [١١] ، ويزيد ابن أكثم الكوفي ” فكان علي ( رضي الله عنه) يفتقده ويقول لمن في منزله أرسلتم إلى أسيركم طعاماً؟ ” [١٢] .
هذه أسطر ليس تقرأها وتتعدى، إنها أسمى معاني الإنسانية، نقول هذا ليس من باب العواطف، وإنما بعد تأمل كبير في التاريخ الإنساني المشبع بالأنانية المفرطة للمتسلطين على مصائر البشر، ورقاب الناس .
ما أحوج زماننا لدروس ذلك الزمان، زماننا الذي يفتك بالآلاف على الشبهات والظن الآثم ، والضعف النفسي، وعدم الإيمان بالله حقاً وحقيقة، نعم ذلك الزمان وأعني زمان الإمام، فالحديث عن ذكراه الذي يوصي بالرحمة على قاتل خليفة المسلمين، وأمير مؤمنيهم بالجرم المشهود والدليل القاطع مع سبق الإصرار والترصد ! هذا هو الفرق بين الإيمان بالله والخلود المطلق، وبين الإيمان بـ(الأنا) لحظة نطفة وجيفة، أمّا القصاص ,فهذا حكم الله والعدل عينه لمسيرة المجتمع الإنساني “ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون” [١٣] .
ليس عبثاً أنْ يتأمل عبد الحميد بن عبد ربه الأندلسي، حين فتل الإمام (ع) بسيف اللعين عبدالرحمن بن ملجم، وكان الخوارج قد بعثوا البراك بن عبد الله لقتل معاوية فأصاب عجزه، وعمر بن بكر التميمي لقتل عمرو بن العاص، ولكنه قتل خارجة صاحب شرطته، إذ تخلف عمرو عن الصلاة.
فقال ابن عبد ربه الأندلسي حسب رواية ابن العماد الحنبلي في (شذرات ذهبه):
وليت إذ فدت عمراً بخارجةٍ ***** فدت علياً بمن شاءت من البشرِ
وحين سئل أبي العلاء المعري، كما سئل (متنبيه) من قبل، لماذا لم تمدح النبي (ص) وآل بيته، أجاب من قصيدة يجيب بها الشريف أبا ابراهيم موسى بن إسحاق :
عللاني فإنّ بيض الأمــــــــــاني ***** فنيتْ والظلام ليس بفانِ
وعلى الدهر من دماء الشهيديـ ***** ــ ن عليٍّ ونجلـهِ شاهدانِ
فهما في أواخــــــــر الليل فجرا ***** ن وفـــي أولياتهِ شفقـانِ
وجمــــــــــال الأوان قبل جدودٍ ***** كلُّ جدٍّ منهم جمـال أوانِ
يا ابن مستعرض الصفوف ببدرٍ ***** ومبيد الجموع من غطفانِ
أحد الخمســـة الذين هم الأغـْ ***** ـ راض في كلِّ منطقٍ والمعاني
والشخوص التي خلقن ضياءً ***** قبل خلق المريخ والميزان [١٤]
شرعنا بالرمز الأول في أدبنا العربي، وختمنا برمزه الثاني، ماذا بقى ؟!
لما قتل الإمام (ع)، لم يوجد بخزانته إلا ستمائة درهم ، وقيل سبعمائة، وكما يقول ( محمد بن كعب القرظي ) ” سمعت علي بن أبي طالب يقول : لقد رأيتني وأنا أربط الحجر على بطني من الجوع، وإنَّ صدَقتي لتبلغ اليوم أربعة الآف دينار ” [١٥]، وما كان يفرق في عطاياه بين زيد وعمرو، ولا يفضل في المعاملة أحداً على أحد، ولما سئل عن سبب حسن معاملته للموالي، فأجاب: ” قرأت ما بين الدفتين، فلم أجد لولد إسماعيل على ولد إسحاق فضل هذا، وأخذ عود اًمن الأرض ووضعه بين إصبعيه” [١٦] ، ولما قال له أشراف العرب ” يا أمير المؤمنين أعطٍ هؤلاء هذه الأموال، وفضل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي ” [١٧] ، فقال لهم : ” أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور ” [١٨] .
العدل والتقى والبلاغة و الشجاعة والزهد والإنسانية والجرأة لا يمكن أن تجتمع إلا عند الأولياء، هذه دنياكم وتلك دنياهم، وما كلّ سلطان بسلطان، فبأي آلآء ربكما تكذبان!!
——————————————————————————
[١] . راجع أيضاً: الحسني : سيرة الرسول(ص) ج ٧، السيد محسن الأمين : أعيان الشيعة م٢ ص ٥١٥، دار التعارف – بيروت ١٩٨٣م : يذكر أيضا ذكرهمها البرقوقي مما استدركه من ذيل شرح الواحدي المطبوع في أوربا، وذكرهما صاحب نسمة السحر، ولا داعي للإطالة قوة البيتين وعظمتهما لا تحيدان عن المتنبي .
[٢] . تاريخ اليعقوبي : م ٢ ص ١٨٨ دار صادر ١٩٦٠ بيروت .
[٣] . أغلب كتب التاريخ تجعل معركة النهروان أواخر سنة ٣٧ هـ، ولكن حدثت ضد بقية الخوارج في ربيع الآخر سنة ٣٨ هـ, كما يذكر ابن األأثير في كامله) ج ٤ ص ٧٢١ دار الكتاب العربي ١٩٩٧م بيروت. ENCY.BRIT, VOL، ٢١ P . ٩٤٠
[٤] . (كتاب الفتوح) : ابن أكثم الكوفي م١ ص ٥٠٤، ويذكر اليعقوبي في (تاريخه) م ٢ ص ٢١٢(صادر)فنزل على الأشعث بن قيس الكندي، وأقام عنده شهر يستحد سيفه، وخرج علي في الغلس، وأدخل رأسه من باب خوخه المسجد فضربه على رأسه فسقط، وصاح خذوه، فابتدره الناس، فجعل لا يقرب منه أحد إلا نفحه بسيفه فبادر أليه قثم بن العباس فاحتمله وضرب به الأرض، لصاح يا علي نح عني كلبك .
[٥] . الطبقات الكبرى : ابن سعد ج ٣ ص ٢٦دار الكتب العلمية ١٩٩٠م بيروت . BROKELMANN(CARL)، (HISTORY OF THE ISLAMIC..) ١٩٥٠ P ٧٠ LONDON
[٦] . (المختصر في أخبار البشر) : أبو الفداء م ١ ص ٩٣ – دار الكتاب العربي – بيروت.
[٧] . (المختصر في أخبار البشر) : أبو الفداء م ١ ص ٩٣ – دار الكتاب العربي – بيروت.
[٨] . ولد الإمام علي (ع) في السنة الثلاثين بعد عام الفيل (٦٠٠م) في يوم الجمعة ١٣ رجب في البيت الحرام، ولم يولد قبله ولا بعده مولود في البيت الحرام، وأبوه اسمه (عبد مناف), وأبو طالب كنيته، ويدل على أن أبا طالب اسمه عبد مناف ,أن أباه عبد المطلب، لما أوصاه بالنبي (ص)، قال : أوصيك يا عبد مناف بعدي بموحدٍ بعد أبيه فردِ راجع ( أعيان الشيعة )م١ ص ٣٢٣ م . س .
[٩] . راجع (اليعقوبي ) م٢ ص ٢١٢ (صادر) ,ابن سعد :ج٣ ص ٢٥ – ٢٧ ,ابن أكثم :م٣ ص ٥٠٧، الطبري ج٥ ص ١٤٦- دار المعارف – ١٩٦١م – مصر، (الفخري ) للطقطقي ص ٩٠، ناهيك عن كتب الشيعة (الأعيان) و (الأرشاد) و(فرحة الغري).
[١٠] . كتاب العبر: ابن خلدون – دار الفكر – ١٩٨٨م – م ٢ ص ٦٤٦ – بيروت.
[١١] . الطبقات الكبرى: ابن سعد ج٣ ص ٢٥ م . س .
[١٢] . كتاب الفتوح :م١ ص ٥٠٧ ابن أكثم الكوفي .
[١٣] . سورة البقرة : ١٩٧ الآية.
[١٤] . سقط الزند: أبو العلاء المعري ص ١٣٣ – ١٣٤ سنة ١٩٩٨م – دار الأرقم.
[١٥] . (الإمام جعفر الصادق) : ص ٤٦ المستشار عبد الحليم الجندي.
[١٦] . اليعقوبي :م٢ ص ١٨٣ ، د. التلاوي : حسين، ( الكوفة حتى نهاية العصر الأموي)- جامعة دمشق ص ٧٦ – رسالة دكتوراه.
[١٧] . التلاوي :ص ٧٧ م . ن.
[١٨] . ضحى الإسلام: أحمد أمين ف ١ س ٢٢ – ٢٣ ط ١٠ دار الكتاب العربي – لبنان.
المصدر: http://arabic.balaghah.net/