كلاهما – القرآنُ الكريمُ ، و الحديثُ الشريفُ – أهمُّ مصدرين للثقافة الإسلاميّة المجيدة ، عند جماهير المسلمين ، و على مدى القرون ، و لم يخرج على هذه المسلّمة سوى المتميّزين بالشذوذ ممّن لا يؤثر رأيُهم في انعقاد الإجماع أو حصول الاتّفاق .
و التأثير المتبادَل بين هذين المصدرين ، معروضٌ في مجالين كبيرين و هامّين :
الأوّل : في مجال الحجّيّة و التأكيد على المصدريّة .
و الثاني : في مجال التحديد لكلّ منهما بالآخر .
1. في المجال الاول
فقد بات واضحاً – عند أهل المعرفة الإسلاميّة – أنّ القرآن الكريم ، باعتباره المعجزة الإلهيّة الخالدة – هو من أهمّ أدلّة إثبات الرسالة و تثبيت قدسيّة الرسول المبلِّغ لها ، و الصادع بوحي القرآن نفسه ، و الحامل له على قلبه ، و المطبّق له على حياته و سيرته .
و لهذا يتميّز القرآن بكونه أقوى الحُجج على الرسالة نفسها ، و على حجّيّة الرسولصلى الله عليه و آله و سلم رسالةً ، و عملاً ، و قولاً ، و إرادة .
بل الآيات الكريمة المحتجّ بها على حجّية الحديث الشريف ، هي من أوضح أدلّتها و أشهرها و أبهرها و أكثرها إقناعاً عند الباحثين عن حجّية الحديث و السنّة .
كما تميّز القرآن بميزة القطعيّة و التواترِ ، فهو المصدر الذي لا ريب فيه ، بنصّ الوحي و تأكيده ، فإليه ترجع سائر الأدلّة عند الاختلاف ، و عند محكماته يقفُ كلّ نزاع و خلاف ، و هو القول الفصل و ما هو بالهزل .
ثمّ الحديث الشريف ما فتئت نصوصٌ متواترةٌ منه معلومة الحجّية ، تدعم القرآن بالتأييد و التبيين ، و النشر و التبليغ ، و طرق اُخرى كالتقديس و التمجيد ، و الحثّ على التداول بالحفظ و التلاوة و الكتابة ، إلى التدبّر و العمل و التطبيق ، و غير ذلك من متنوّع الأساليب ، حسب الأغراض و الأهداف و الغايات .
إلّا أنّ الحديث الذي يُستند في هذا المجال ، ليس من الضروري أن يكون قطعيّاً ، بل اكتفى علماء الإسلام – قاطبةً – بما ورد من الحديث ، و لو واحداً أو غيره ممّا لم يصلْ إلى رتبة القطع و اليقين ، فإنّهم عمّوا الاستناد بكلّ ما ورد ممّا لا يتنافى مع أصلٍ قطعيٍّ أو فرعٍ ثابتٍ ، من أُصول الدين و فروعه ، فإنّهم متّفقون على جواز العمل به ، باعتباره مرشداً إلى ما هو من المطلوبات العقلائية التي وافق عليها الشرع بمثل هذا الحديث ، أو لم يخالفها بأدلّته المتداولة .
و هي في الغالب قضايا أوّلية معها من المرغّبات الحسّية ، أو المبرّرات الأخلاقية و الإنسانية ما يكفي للاعتماد .
و من هذا القبيل ما ورد في فضائل القرآن سوره و آياته و غير ذلك ، ممّا يُرغّب في تلاوةٍ أو كتابةٍ ، أو استشفاءٍ ، أو اصطحابٍ و حملٍ ، أو عملٍ و رُقيةٍ .
فإنّ سيرة المسلمين منعقدة على التسامح في أدلّة ذلك كلّه ، و على الالتزام بمداليلها رجاءً للمطلوبية الشرعيّة ، و للوصول إلى الثواب و الأجر ، الذي بلَغَ من خلال تلك الأحاديث ، التي أضفت على الأعمال مسحةً من الاستحباب الشرعيّ ، و لو انّها لم تتّسم بالانتساب القطعيّ – على بعض المناهج – للإثبات ، كما فُصِّلَ في مباحث الفقه و اُصوله .
2. و في المجال الثاني
– أعني تبادل التأثير في التحديد – فلا بدّ من التذكير بأمرين :
الأوّل : إنّ التأثير بالتحديد في الآخر ، إنّما يتحقّق عند وجود تعارض في البين ، و التعارض لا يصدق إلّا بين متكافئين في الرتبة ، و في ما لو كان المتعارضان في درجةٍ واحدة ، و بما أنّ القرآن الكريم قطعيّ الصدور ، كما ألمحنا ، فلا بدّ أن يكون ما يراد له معارضته ، كذلك ، قطعياً أيضاً .
فالحديث الذي يُراد منه تحديد القرآن ، لا بدّ أن يكون من نوع الحديث القطعي ، و هو إمّا بالتواتر ، أو بالقبول من قبل الاُمّة – جمعاء – حيث يرتفع الحديث بذلك إلى مستوى القطعيّ المعلوم .
و إلّا فالحديث الظنّي ، آحاداً أو غيره ، ليس له مقاومة القرآن و لا الوقوف إلى صفّهِ كي يفرض له مقارعته و معارضته ، لعدم هذا الشرط الأساسي في المعارضة .
الثاني : إن فرض التأثير بالتحديد ، يستدعي وجود التفاوت – و لو بشكل جزئيّ – بين الطرفين ، و إلّا فعند الاتّفاق التامّ بينهما ، بحيث لا يدلّان إلّا على شيءٍ واحد ، فلا يكون التأثير إلّا من مجال الدعم و التأييد ، لا التأثير بالتحديد .
مع أنّ المرجعية – عندئذٍ – انّما تكون للقرآن نفسه ، لأنّه الأصل في المرجعية ، لكونه المتّسم بالقطعيّة ، كما أسلفنا ، فلا حاجة إلى الاستناد إلى الحديث ، إلّا على أساس الإرشاد إلى ما في القرآن ، و تبياناً له و تفسيراً .
و بعد :
فإنّ التأثير من جانب القرآن على الحديث ، إنّما هو في قبول الحديث – بعد قابليّته للوقوف في صفّ المعارضة – .
فقد أكّدت أحاديث كثيرة ، فاقت حدَّ الشهرة ، تدلّ على الأخذ بما يُوافق كتاب اللَّه ، و ترك ما يُخالِفُه .
و قد التزمت طوائف من المسلمين بهذه الأحاديث ، و اعتبروها من قوانين قبول الحديث .
و لكن طوائف اُخرى رفضتْ الالتزام بها ، و اعتبرتها باطلة موضوعة ، مخالفة لما دلّ على حجّية الحديث ، و قالوا : إنّه تحجيم لأدلّة الدين ، و حصر له في القرآن ، بينما الحديث تكبُر كمّية نصوصه بكثير على حجم القرآن ، بعشرات المرّات .
و يبتنى هذا الرفض على تصوّر أنّ المخالفة – التي يُردُّ به الحديث – تشمل كلّ تفاوتٍ بينه و بين القرآن ، و على هذا لا يبقى مجالٌ للتأثير بالتحديد ؛ للزوم المطابقة دائماً .
لكنّ المراد بموافقة الحديث للقرآن ليس هو المطابقة و الاتفاق التامّ ، و إلّا فلم يبق للحديث إلّا مزية الإرشاد و التأثير بالتأييد ، فقط ، و هذا أمر مخالفٌ لحجّية الحديث في عرض القرآن ، كما هو متّفق عليه بين علماء الإسلام ، بلا خلاف .
بل المراد بالموافقة هو عدم المخالفة لنصوصه الواضحة و لا لأحكامه الثابتة و المتّفق عليها بين أهل الحقّ ، ممّا أصبح من ضروريات الملّة ، من مرادات القرآن و دلالاته ، فإنّ الحديث مهما كان سنده – صحيحاً أو ضعيفاً – فلا بدّ أن يتوافق مع هذه الحقائق و تلك الضرورات ، و إذا كان مخالفاً لأيٍّ منها ، فإنّه زخرفٌ و باطل و مردود مهما كان صحيحاً ، بل كلّما ازداد صحّةً ازداد ضعفاً ، لمخالفته لما ثبت في القرآن .
كما لو كان الحديث موافقاً لهذه الضرورات ، موافقةً تامّة ، فهذا الحديث يُقبل من دون نظرٍ إلى سنده ، بل تجعل هذه ، الموافقة دليلاً ، على الصحّة ، فلا يُترك ما في الحديث من الحق لأجل ما يرى في سنده من الضعف .
و لو كان الحديث موافقاً لهذه الضرورات ، و لكن تفاوت بما ليس منها ، بزيادة قيد أو شرط ، فإنّ الحديث البالغ درجة المعارضة ، يكون حينئذٍ قابلاً للتأثير في المدلول القرآني بالتحديد ، و هنا تبدو أهمّية الحديث و أثره العظيم ، حيث يتمّ به بيان القرآن و تفصيله و تفسيره به .
و أمّا المخالف لتلك الضرورات ، فإبطاله ليس إبطالاً للحديث كلّه ، حتّى يُجعل ذلك ذريعةً لرفض هذه الأحاديث ، بل هو تعيين للقابل منه للمعارضة مع القرآن ، لأنّ المخالفة تكشف عن سقوط المخالف عن الحجّية و الاعتبار ، فلا يرتقي إلى مستوى المقابلة للقرآن المقطوع بحجّيته .
و العجب ممّن أفرط بالحديث على حساب القرآن ، و نادى بمقولة : ” حسبنا كتاب اللَّه ” و وقف من الحديث موقف المنع من كتابته و نشره و التحديث به ، كيف يرفض ” أحاديث الموافقة ” بتلك الحجّة الواهية ؟!
و كما مُنِيَ القرآنُ بالتفريط فيه بالالتزام بالحديث على حسابه ، فالحشوية – من الفرق الإسلامية – التزموا بكلّ ما سمّي ” حديثاً ” فاعتقدوا به و بَنَوا أفكارهم و أعمالهم عليه ، في مجالات العلم و العقيدة ، و في مجالات العمل و الأحكام ، مطلقاً ، سواء ما كان بالندب أو الاستحباب ، أم بالإلزام و الإيجاب .
فأدّى هذا الالتزام إلى مخالفات رهيبة لضرورات واضحة في الإسلام عقيدةً و شريعة ، و تهزيز فظيع لملتزمات مجمع عليها بين علماء الاُمّة ، و إسقاط لمسلّمات اتّفق عليها المسلمون ، على أساس من أدلّة العقل البديهي ، و على أساس من النصوص الواضحة كالآيات المحكمة القرآنية ، و الأحاديث القويمة .
إلّا أنّ الحَشْويّة ، و استناداً إلى أيّ حديثٍ رُوي لهم ، و بأيّ طريقٍ – مهما كان و كانت – أعرضوا عن تلك الحقائق و رفضوا تلك المسلّمات ، بحجّة التزامهم بالحديث .
و لا ريب أنّ هذا الإفراط مرفوضٌ لدى العقلاء من علماء الاُمّة ، كما أنّ ذلك التفريط كان مرفوضاً لديهم .
و لم تؤثّر هذه الانحرافات في الحقّ الذي ثبت لدى المسلمين ، و من خلال المحكم من آيات القرآن ، و المسلّم من الحديث الشريف ، لقوّة الأدلّة عليه ، من جهة ، و لصمود أهل الحقّ و نضالهم و عزّتهم و إبائهم ، مهما قلّوا ، من جهة أُخرى .
إنّ ما ذكرنا من مجالات التأثير و التأثُّر بين القرآن و الحديث ، و ما دارت عليه من محاور البحث و الدراسة ، و غيرهما ممّا لم نذكره ، هي كلّها بحاجة إلى دراسات واسعة معمّقة ، و مقارنة بين الآراء و المذاهب الإسلامية الحيّة ، بهدف توحيد وجهات النظر ، في سبيل تعبيد الطرق للوصول إلى وحدة المسلمين و تأصيل ثقافتهم و معارفهم .
و قد حاولنا ـ في هذا العدد من مجلّتنا هذه ـ تقديم ما تهيّأ لنا من الأعمال التي تدور حول بعض هذه المحاور .
و نُهيب بأصحاب الهمم من أعلام الفكر و العلم ، أن يقوموا بتكميل الأشواط للوصول إلى القمم المنشودة في سبيل تلك الأهداف المحمودة .
و اللَّه من وراء القصد