مقالات

من المنتصر!

لمعرفة المنتصر أو المهزوم في أية قضية لا بُدَّ و أن يكون التقييم وفقاً لمعايير خاصة ، و من أحد أهم تلك المعايير معرفة أهداف كل من طرفي النزاع ، حيث أن المنتصر هو من تمكن من تحقيق أهدافه بصورة كاملة و دقيقة من خلال برنامج مدروس و خطة متقنة .
و عليه فلمعرفة المنتصر في واقعة الطف الأليمة التي وقعت في كربلاء 1 يوم عاشوراء 2 لا بُدَّ من معرفة أهداف الإمام الحسين بن علي ( عليه السَّلام ) في مواجهته ليزيد بن معاوية أولاً ، ثم معرفة أهداف يزيد بن معاوية ثانياً ، ثم لننظر من تمكن من تحقيق أهدافه و لم يتمكن ، حتى نعرف المنتصر من الخاسر .
أهداف يزيد :
من يلاحظ  التاريخ ـ رغم إخفائه الكثير من الحقائق ـ تحصل له قناعة تامة بأن البيت الأموي بصورة عامة ، و أبو سفيان و معاوية و يزيد بصورة خاصة كانوا عازمين على محو الإسلام بكل الوسائل و السبل و بكل ما أوتوا من حول و قوة .
نعم إن من أخطر الأهداف التي سعى إليها معاوية بن أبي سفيان و من بعده ابنه يزيد هو القضاء على الإسلام كلياً ، قوانينه و سننه و معالمه بصورة جادة بل بصورة تكاد تكون علنية ، كما و سعيا لمحو ذكر النبي المصطفى محمدٍ ( صلى الله عليه و آله ) حقداً منها و بغضاً للحبيب المصطفى ( صلى الله عليه و آله ) ، حيث يشهد التاريخ أن معاوية كان يغتاض عندما كان يسمع ذكر النبي ( صلى الله عليه و آله ) في الأذان ، و كان يُصرِّح لخواصه بأنه عازم على دفن ذكر هذا الإسم .
قال المطرّف بن المغيرة بن شعبة : دخلت مع أبي على معاوية ، و كان أبي يأتيه فيتحدث معه ثم ينصرف إلي ، فيذكر معاوية و عقله ، و يُعجب بما يرى منه ، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء ، و رأيته مغتماً فانتظرته ساعة ، و ظننت أنه لأمر حدث فينا .
فقلت : ما لي أراك مغتماً منذ الليلة ؟
فقال : يا بني جئتُ من عند أكفر الناس و أخبثهم 3 !
قلت : و ما ذاك ؟!
قال : قلت له و قد خلوت به : إنك قد بلغت سناً يا أمير المؤمنين ، فلو أظهرت عدلا و بسطت خيراً ، فإنك قد كبرت ، و لو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم ، فوالله ما عندهم اليوم شي تخافه ، و إن ذلك مما يبقى لك ذكره و ثوابه .
فقال : هيهات هيهات ، أي ذكر أرجو بقاءه ! مَلكَ أخو تيم فعدل ، و فعل ما فعل ، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره ، إلاّ أن يقول قائل : أبو بكر ، ثم ملك أخو عدي ، فاجتهد و شمّر عشر سنين ، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره ، إلاّ أن يقول قائل : عمر ، و إن ابن أبي كبشة 4 ليُصاح به كل يوم خمس مرات ” أشهد أن محمداً رسول الله [ صلى الله عليه وآله ] ، فأيُّ عمل يبقى و أيُّ ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك ، لا والله إلاّ دفناً دفناً !! ” 5 .
و لقد كان يزيد بن معاوية يردد :
لعبت هاشم بالملك *** فلا خبر جاء ولا وحي نزل 6
النبي ( صلى الله عليه و آله ) يحذر من خطر بني أمية :
لقد تنبأ النبي محمد ( صلى الله عليه و آله ) بما يضمره بنو أمية من العداء و الحفد تجاه أهل بيته ( عليهم السلام ) ، فقد روى الحاكم في مستدرك الصحيحين بسنده عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه ( و آله ) و سلم ) : ” إن أهل بيتي سيُلقون من بعدي من امتي قتلاً و تشريداً ، و إن أشدَّ قومنا لنا بغضاً بنو أمية و بنو المغيرة و بنو مخزوم ” ، ثم قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد 7 .
و ذكر السيوطي في تفسيره المسمى بالدر المنثور في ذيل تفسير قول الله عَزَّ و جَلَّ : ﴿ … وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ … ﴾ 8 ، أن سعيد بن مسيب قال : رأى رسولُ الله ( صلى الله عليه ( و آله ) و سلم ) بني أمية يَنْزُون على منبره نزو القرد فساءه ذلك ، قال : و هذا قول ابن عباس في رواية عطا 9 .
من الغالب الحسين عليه السلام ، أم يزيد ؟
بعدما عرفنا أن الهدف الأول للبيت الأموي كان القضاء على الإسلام و إمحاء ذكر النبي ( صلى الله عليه و آله ) و أهل بيته الطاهرين ( عليهم السلام ) يتضح لنا جلياً أن هذا الهدف لم يتحقق أبداً بسبب نهضة الإمام الحسين ( عليه السَّلام ) الذي ضحى بنفسه و أهل بيته و أبنائه و أصحابه ( عليهم السلام ) ، و بالعكس فإن أهداف الحسين ( عليه السَّلام ) قد تحققت كلها .
من أهداف الثورة الحسينية :
قال الإمام الحسين بن علي ( عليه السَّلام ) : ” أَنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشِراً وَ لَا بَطِراً وَ لَا مُفْسِداً وَ لَا ظَالِماً ، وَ إِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ الْإِصْلَاحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي ( صلى الله عليه و آله ) ، أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَ أَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَ أَسِيرَ بِسِيرَةِ جَدِّي وَ أَبِي‏ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ( عليه السَّلام ) ، فَمَنْ قَبِلَنِي بِقَبُولِ الْحَقِّ فَاللَّهُ أَوْلَى بِالْحَقِّ ، وَ مَنْ رَدَّ عَلَيَّ هَذَا أَصْبِرُ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ بَيْنِي وَ بَيْنَ الْقَوْمِ بِالْحَقِّ وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ ” 10 .
هذا و إنا نجد أن هذه الأهداف المعلنة من قِبل الإمام حسين ( عليه السَّلام ) تحققت تماماً ، فالإسلام باقٍ و الأذان باقٍ و الصلاة باقية ، و ذكر النبي ( صلى الله عليه و آله ) و ذكر أهل بيته ( عليهم السلام ) باقٍ ، و في المقابل لم يبق لبني أمية أي ذكر ، إلا اللعنة و التاريخ السيء المظلم .
و قد رُوِيَ عن الإمام جعفر بن محمد الصادق ( عليه السَّلام ) أنَّهُ قَالَ : ” لَمَّا قَدِمَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وَ قَدْ قُتِلَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، اسْتَقْبَلَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَ قَالَ :
يَا عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ ، مَنْ غَلَبَ ـ وَ هُوَ يُغَطِّي رَأْسَهُ وَ هُوَ فِي الْمَحْمِلِ ـ ؟
قَالَ : فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ : إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْلَمَ مَنْ غَلَبَ وَ دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ فَأَذِّنْ ثُمَّ أَقِمْ ” 11 .
أي انه ما دام الأذان و الإقامة و الصلاة موجود فالإسلام هو الغالب و المنتصر .
نعم إذا أردت أن تعرف المنتصر ألق بنظرة إلى كربلاء خاصة في شهري محرم و صفر ستعرف من المنتصر ، و انظر أيضاً إلى مجالس الحسين في العالم فستعرف من هو المنتصر و من هو المهزوم ، و انظر أيضاً إلى ضريح الحسين ( عليه السَّلام ) في كربلاء و إلى الجموع المليونية في كل مناسبة و غير مناسبة التي تحوم حول القبر الشريف تعرف من المنتصر .
و انظر أيضاً إلى ضريح السيدة زينب ( عليها السلام ) بالشام فلا ترى سوى الشموخ و الإباء و العظمة و العز و الكرامة .
و كذلك لا بُدَّ لك و أن تلق بنظرة خاصة إلى الضريح المتألق الشامخ لطفلة الإمام الحسين و التي لم يكن عمرها يتجاوز الثالثة السيدة رقية عندما ماتت حزناً على أبيها في الشام فدفنت هناك ، ثم بعد هذه النظرات إسأل عن قبر يزيد و معاوية فستعرف من المنتصر !
نعم لقد غلب الدم السيف ، و غلب المظلوم الظالم ، و كما يقول غاندي : تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوما فانتصر .
و لقد أجاد الشاعر السوري محمد مجذوب حين صور هذه الحقائق في قصيدته الغراء حينما وقوف على قبر معاوية فجادت قريحته فبدأ يخاطبه هكذا :
أين القصور أبـا يزيـد و لهوهـا *** و الصافنـات و زهوهـا و السـؤددُ
اين الدهاء نحـرت عزتـه علـى *** أعتـاب دنيـا زهوهـا لا ينفـدُ
آثرت فانيها علـى الحـق الـذي *** هو لو علمت على الزمـان مخلـدُ
تلك البهارج قد مضـت لسبيلهـا *** و بقيـت وحـدك عبـرة تتجـددُ
هذا ضريحك لو بصرت ببؤسـه *** لأسال مدمعك المصيـر الأسـودُ
كُتلٌ من التـرب المهيـن بخربـةٍ *** سكر الذباب بهـا فـراح يعربـدُ
خفيـت معالمهـا علـى زوارهـا *** فكأنهـا فـي مجهـل لا يقصـدُ
و القبـة الشمـاء نكـس طرفهـا *** فبكـل جـزء للفنـاء بهـا يــدُ
تهمي السحائب من خلال شقوقهـا *** و الريـح فـي جنباتهـا تـتـرددُ
و كـذا المصلـى مظلـم فكـأنـه *** مذ كـان لـم يجتـز بـه متعبـدُ
أ أبا يزيـد و تلـك حكمـة خالـق *** تجلى على قلـب الحكيـم فيرشـدُ
أ رأيت عاقبـة الجمـوح و نـزوة *** أودى بلبـك غّيـهـا المتـرصـدُ
تعدوا بها ظلما علـى مـن حبـه *** دين و بغضتـه الشقـاء السرمـدُ
ورثـت شمائلـه بـراءة أحمـد *** فيكاد مـن بريـده يشـرق احمـدُ
و غلوت حتى قد جعلـت زمامهـا *** ارثـا لكـل مـدمـم لا يحـمـدُ
هتك المحارم و استبـاح خدورهـا *** و مضـى بغيـر هـواه لا يتقيـدُ
فأعادهـا بعـد الهـدى عصبيـة *** جهـلاء تلتهـم النفـوس و تفسـدُ
فكأنمـا الأسـلام سلعـة تاجـر *** و كـأن أمـتـه لآلــك أعـبـدُ
فاسأل مرابض كربـلاء و يثـرب *** عن تلكـم النـار التـي لا تخمـدُ
أرسلـت مارجهـا فمـاج بحـره *** أمس الجـدود و لـن يجّنبهـا غـدُ
و الزاكيات مـن الدمـاء يريقهـا *** باغ علـى حـرم النبـوة مفسـدُ
و الطاهـرات فديتهـن حـواسـرا *** تنثـال مـن عبراتهـن الأكـبـدُ
و الطيبيـن مـن الصغـار كأنهـم *** بيض الزنابق ذيد عنهـا المـوردُ
تشـكـو الظـمـا و الظالـمـون *** أصمهم حقد أناخ على الجوانح موقدُ
و الذائديـن تبعثـرت اشـلاؤهـم *** بـدوا فثمـة معصـم و هنـا يـدُ
تطـأ السنابـك بالطغـاة أديمهـا *** مثل الكتاب مشـى عليـه المُلحـدُ
فعلى الرمال من الأبـاة مضـرج *** و على النياق مـن الهـداة مصفـدُ
و على الرمـاح بقّيـة مـن عابـد *** كالشمس ضاء به الصفا و المسجـدُ
ان يجهل الأثماء موضـع قـدره *** فلقـد دراه الراكـعـون السّـجـدُ
أ أبـا يزيـد و سـاء ذلـك عثـرة *** ماذا أقول و باب سمعـك موصـدُ
قم و ارمق النجف الشريف بنظـرة *** يرتد طرفـك و هـو بـاك أرمـدُ
تلك العظام أعـز ربـك قدرهـا *** فتكاد لـولا خـوف ربـك تعبـدُ
ابـدا تباركهـا الوفـود يحثـهـا *** من كـل حـدب شوقهـا المتوقـدُ
نازعتها الدنيـا ففـزت بوردهـا *** ثم انقضـى كالحلـم ذاك المـوردُ
وسعت الى الأخرى فخلد ذكرهـا *** في الخالدين و عطف ربـك أخلـدُ
أ أبـا يزيـد لتلـك آهـة موجـع *** أفضى اليـك بهـا فـؤاد مُقصـدُ
أنا لست بالقالي و لا أنـا شامـت *** قلب الكريم عـن الشماتـة أبعـدُ
هي مهجـة حـرى اذاب شغافهـا *** حزن على الاسلام لم يـك يهمـدُ
ذكرتها الماضـي فهـاج دفينهـا *** شمل لشعـب المصطفـى متبـددُ
فبعثتـه عتبـا و ان يـك قاسـيـا *** هو في ضلوعـي زفـرة يتـرددُ
لم استطع صبـرا علـى غلوائهـا *** أي الضلوع على اللظـى تتجلـدُ
النصر للمؤمنين في الدنيا و الآخرة بنص القرآن :
قال الله عَزَّ و جَلَّ : ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾ 12
يقول السيد قطب لدى تفسيره هذه الآية : فأما في الآخرة فقد لا يجادل أحد من المؤمنين بالآخرة في هذه النهاية. و لا يجد ما يدعوه إلى المجادلة.
و أما النصر في الحياة الدنيا فقد يكون في حاجة إلى جلاء و بيان.
إن وعد اللّه قاطع جازم : ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا … ﴾ 13 .. بينما يشاهد الناس أن الرسل منهم من يقتل و منهم من يهاجر من أرضه و قومه مكذبا مطرودا ، و أن المؤمنين فيهم من يسام العذاب ، و فيهم من يلقى في الأخدود ، و فيهم من يستشهد ، و فيهم من يعيش في كرب و شدة و اضطهاد .. فأين وعد اللّه لهم بالنصر في الحياة الدنيا ؟ و يدخل الشيطان إلى النفوس من هذا المدخل، و يفعل بها الأفاعيل! و لكن الناس يقيسون بظواهر الأمور . و يغفلون عن قيم كثيرة و حقائق كثيرة في التقدير.
إن الناس يقيسون بفترة قصيرة من الزمان ، و حيز محدود من المكان . و هي مقاييس بشرية صغيرة . فأما المقياس الشامل فيعرض القضية في الرقعة الفسيحة من الزمان و المكان ، و لا يضع الحدود بين عصر و عصر و لا بين مكان و مكان . و لو نظرنا إلى قضية الاعتقاد و الإيمان في هذا المجال لرأيناها تنتصر من غير شك . و انتصار قضية الاعتقاد هو انتصار أصحابها . فليس لأصحاب هذه القضية وجود ذاتي خارج وجودها . و أول ما يطلبه منهم الإيمان أن يفنوا فيها و يختفوا هم و يبرزوها ! و الناس كذلك يقصرون معنى النصر على صور معينة معهودة لهم ، قريبة الرؤية لأعينهم. و لكن صور النصر شتى. و قد يتلبس بعضها بصور الهزيمة عند النظرة القصيرة .. إبراهيم عليه السّلام و هو يلقى في النار فلا يرجع عن عقيدته و لا عن الدعوة إليها .. أ كان في موقف نصر أم في موقف هزيمة ؟ ما من شك ـ في منطق العقيدة ـ أنه كان في قمة النصر و هو يلقى في النار. كما أنه انتصر مرة أخرى و هو ينجو من النار. هذه صورة و تلك صورة. و هما في الظاهر بعيد من بعيد. فأما في الحقيقة فهما قريب من قريب ! .. و الحسين ـ رضوان اللّه عليه ـ و هو يستشهد في تلك الصورة العظيمة من جانب ، المفجعة من جانب ؟ أ كانت هذه نصرا أم هزيمة ؟ في الصورة الظاهرة و بالمقياس الصغير كانت هزيمة . فأما في الحقيقة الخالصة و بالمقياس الكبير فقد كانت نصرا . فما من شهيد في الأرض تهتز له الجوانح بالحب و العطف ، و تهفو له القلوب و تجيش بالغيرة و الفداء كالحسين رضوان اللّه عليه . يستوي في هذا المتشيعون و غير المتشيعين . من المسلمين . و كثير من غير المسلمين ! و كم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته و دعوته و لو عاش ألف عام ، كما نصرها باستشهاده . و ما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة ، و يحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة ، بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي يكتبها بدمه ، فتبقى حافزا محركا للأبناء و الأحفاد. و ربما كانت حافزا محركا لخطى التاريخ كله مدى أجيال ..
ما النصر ؟ و ما الهزيمة ؟
إننا في حاجة إلى أن نراجع ما استقر في تقديرنا من الصور . و من القيم . قبل أن نسأل : أين وعد اللّه لرسله و للمؤمنين بالنصر في الحياة الدنيا ! على أن هناك حالات كثيرة يتم فيها النصر في صورته الظاهرة القريبة. ذلك حين تتصل هذه الصورة الظاهرة القريبة بصورة باقية ثابتة. لقد انتصر محمد ـ صلّى اللّه عليه و سلّم ـ في حياته. لأن هذا النصر يرتبط بمعنى إقامة هذه العقيدة بحقيقتها الكاملة في الأرض . فهذه العقيدة لا يتم تمامها إلا بأن تهيمن على حياة الجماعة البشرية و تصرفها جميعا . من القلب المفرد إلى الدولة الحاكمة . فشاء اللّه أن ينتصر صاحب هذه العقيدة في حياته ، ليحقق هذه العقيدة في صورتها الكاملة ، و يترك هذه الحقيقة مقررة في واقعة تاريخية محددة مشهودة.
و من ثم اتصلت صورة النصر القريبة بصورة أخرى بعيدة ، و اتحدت الصورة الظاهرة مع الصورة الحقيقية . وفق تقدير اللّه و ترتيبه .
و هنالك اعتبار آخر تحسن مراعاته كذلك . إن وعد اللّه قائم لرسله و للذين آمنوا . و لا بد أن توجد حقيقة الإيمان في القلوب التي ينطبق هذا الوعد عليها . و حقيقة الإيمان كثيرا ما يتجوز الناس فيها . و هي لا توجد إلا حين يخلو القلب من الشرك في كل صوره و أشكاله . و إن هنالك لأشكالا من الشرك خفية لا يخلص منها القلب إلا حين يتجه للّه وحده ، و يتوكل عليه وحده ، و يطمئن إلى قضاء اللّه فيه ، و قدره عليه ، و يحس أن اللّه وحده هو الذي يصرفه فلا خيرة له إلا ما اختار اللّه . و يتلقى هذا بالطمأنينة و الثقة و الرضى و القبول . و حين يصل إلى هذه الدرجة فلن يقدم بين يدي اللّه ، و لن يقترح عليه صورة معينة من صور النصر أو صور الخير.
فسيكل هذا كله للّه . و يلتزم . و يتلقى كل ما يصيبه على أنه الخير .. و ذلك معنى من معاني النصر .. النصر على الذات و الشهوات . و هو النصر الداخلي الذي لا يتم نصر خارجي بدونه بحال من الأحوال.
﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾ 12 14 .
من اعترافات الخصوم :
رَوَى الْبَلاذِرِيُّ 15 قَالَ لَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ ( عليه السَّلام ) كَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ :
أَمَّا بَعْدُ ، فَقَدْ عَظُمَتِ الرَّزِيَّةُ وَ جَلَّتِ الْمُصِيبَةُ وَ حَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ حَدَثٌ عَظِيمٌ ، وَ لَا يَوْمَ كَيَوْمِ الْحُسَيْنِ !
فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَزِيدُ : أَمَّا بَعْدُ ، يَا أَحْمَقُ ، فَإِنَّنَا جِئْنَا إِلَى بُيُوتٍ مُنَجَّدَةٍ ، وَ فُرُشٍ مُمَهَّدَةٍ ، وَ وَسَائِدَ مُنَضَّدَةٍ ، فَقَاتَلْنَا عَنْهَا ، فَإِنْ يَكُنِ الْحَقُّ لَنَا فَعَنْ حَقِّنَا قَاتَلْنَا ، وَ إِنْ كَانَ الْحَقُّ لِغَيْرِنَا فَأَبُوكَ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ هَذَا وَ ابْتَزَّ وَ اسْتَأْثَرَ بِالْحَقِّ عَلَى أَهْلِهِ . 16 .
النصر و الهزيمة عند أهل البيت عليهم السلام :
هذا و أن ما يلاقيه المؤمن من أجل الدفاع عن عقيدته الحقة من قتل و تشريد و غير ذلك لا يعد هزيمة و خسارة يلام عليها ، بل العكس هو الصحيح ، حيث أن كل ذلك وسام و فخر لا يستحقه إلا الأبطال المجاهدون في سبيل الله ، و من هذا المنطلق نجد الفرق كبيراً بين رؤية المدرستين ، فهذا يزيد بن معاوية يخاطب العقيلة زينب بنت علي ( عليهما السلام ) شامتاً : كيف رايت صنع الله بأخيك ؟!
أما عقيلة الهاشميين أسطورة الصبر و الفداء و البطلولة ماذا تقول ، تقول : ما رأيت إلا جميلاً ، فقد رَوَى السَّيِّدُ ابن طاووس انَّ ابْنَ زِيَادٍ جَلَسَ فِي الْقَصْرِ لِلنَّاسِ وَ أَذِنَ إِذْناً عَامّاً ، وَ جِي‏ءَ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ ( عليه السلام ) فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَ أُدْخِلَ نِسَاءُ الْحُسَيْنِ وَ صِبْيَانُهُ إِلَيْهِ ، فَجَلَسَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ عَلِيٍّ ( عليه السلام ) مُتَنَكِّرَةً .
فَسَأَلَ عَنْهَا ، فَقِيلَ : هَذِهِ زَيْنَبُ بِنْتُ عَلِيٍّ .
فَأَقْبَلَ عَلَيْهَا ، فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَحَكُمْ وَ أَكْذَبَ أُحْدُوثَتَكُمْ !
فَقَالَتْ : إِنَّمَا يَفْتَضِحُ الْفَاسِقُ ، وَ يَكْذِبُ الْفَاجِرُ ، وَ هُوَ غَيْرُنَا .
فَقَالَ ابْنُ زِيَادٍ : كَيْفَ رَأَيْتِ صُنْعَ اللَّهِ بِأَخِيكِ وَ أَهْلِ بَيْتِكِ ؟
فَقَالَتْ : مَا رَأَيْتُ إِلَّا جَمِيلًا ، هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ فَبَرَزُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ، وَ سَيَجْمَعُ اللَّهُ بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُمْ فَتُحَاجُّ وَ تُخَاصَمُ ، فَانْظُرْ لِمَنِ الْفَلْجُ 17 يَوْمَئِذٍ ، ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ مَرْجَانَةَ .
قَالَ : فَغَضِبَ وَ كَأَنَّهُ هَمَّ بِهَا .
فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ : إِنَّهَا امْرَأَةٌ ، وَ الْمَرْأَةُ لَا تُؤَاخَذُ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ مَنْطِقِهَا .
فَقَالَ لَها ابْنُ زِيَادٍ : لَقَدْ شَفَى اللَّهُ قَلْبِي مِنْ طَاغِيَتِكِ الْحُسَيْنِ وَ الْعُصَاةِ الْمَرَدَةِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكِ .
فَقَالَتْ : لَعَمْرِي لَقَدْ قَتَلْتَ كَهْلِي ، وَ قَطَعْتَ فَرْعِي ، وَ اجْتَثَثْتَ أَصْلِي ، فَإِنْ كَانَ هَذَا شِفَاءَكَ فَقَدِ اشْتَفَيْتَ .
فَقَالَ ابْنُ زِيَادٍ : هَذِهِ سَجَّاعَةٌ ، وَ لَعَمْرِي لَقَدْ كَانَ أَبُوكِ سَجَّاعاً شَاعِراً .
فَقَالَتْ : يَا ابْنَ زِيَادٍ مَا لِلْمَرْأَةِ وَ السَّجَاعَةَ . 18 .

  • 1. كربلاء : مدينة إسلامية مشهورة تمتاز بقدسيتها و تأريخها الحافل بالأمور العظام و التضحيات الجسام حيث شهدت تربتها واحدة من أنبل ملامح الشهادة و الفداء ألا و هي حادثة الطَّف الخالدة ، و هي تقع المدينة على بعد 105 كيلومتراً إلى الجنوب الغربي من العاصمة العراقية بغداد ، و تقع على حافة الصحراء في غربي الفرات و على الجهة اليسرى لجدول الحسينية .
    و تقع مدينة كربلاء المقدسة على خط طول 44 درجة و 40 دقيقة و على خط عرض 33 درجة و 31 دقيقة ، و يحدها من الشمال محافظة الأنبار و من الجنوب محافظة النجف و من الشرق محافظة الحلة و قسم من محافظة بغداد و من الغرب بادية الشام و أراضي المملكة العربية السعودية .
  • 2. يوم عاشوراء بالمد و القصر و هو عاشر المحرم ، و هو اسم إسلامي ، و جاء عشوراء بالمد مع حذف الألف التي بعد العين ، راجع : مجمع البحرين : 3 / 405 ، للعلامة فخر الدين بن محمد الطريحي ، المولود سنة : 979 هجرية بالنجف الأشرف / العراق ، و المتوفى سنة : 1087 هجرية بالرماحية ، و المدفون بالنجف الأشرف / العراق ، الطبعة الثانية سنة : 1365 شمسية ، مكتبة المرتضوي ، طهران / إيران .
  • 3. يقصد معاوية بن أبي سفيان .
  • 4. يقصد به رسول الله ( صلى الله عليه و آله )
  • 5. الصحوة ، لصباح علي البياتي : 403 ، نقلاً عن الموفقيات : 577.
  • 6. كشف الغمة : 2 / 21 ، و روضة الواعظين : 191 ، و الاحتجاج : 307 ، و اللهوف : 181.
  • 7. فضائل الخمسة من الصحاح الستة : 3 / 351 ، نقلاً عن مستدرك الصحيحين : 4 / 487 .
  • 8. القران الكريم : سورة الإسراء ( 17 ) ، الآية : 60 ، الصفحة : 288 .
  • 9. فضائل الخمسة من الصحاح الستة : 3 / 304 ، نقلاً عن التفسير الكبير للفخر الرازي .
  • 10. بحار الأنوار ( الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار ( عليهم السلام ) ) : 44 / 329 ، للعلامة الشيخ محمد باقر المجلسي ، المولود بإصفهان سنة : 1037 ، و المتوفى بها سنة : 1110 هجرية ، طبعة مؤسسة الوفاء ، بيروت / لبنان ، سنة : 1414 هجرية .
  • 11. بحار الأنوار : 45 / 177 .
  • 12. a. b. القران الكريم : سورة غافر ( 40 ) ، الآية : 51 و 52 ، الصفحة : 473 .
  • 13. القران الكريم : سورة غافر ( 40 ) ، الآية : 51 ، الصفحة : 473 .
  • 14. في ظلال القرآن : 5 / 30 85 .
  • 15. هو أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري البغدادي من أعلام القرن الثالث الهجري ، صاحب التاريخ المعروف بـ ” أنساب الأشراف ” ، وصفه الذهبي في كتاب “تذكرة الحفاظ” ناقلاً عن الحاكم بقوله : كان واحد عصره في الحفظ و كان أبو علي الحافظ و مشايخنا يحضرون مجلس وعظه يفرحون بما يذكره على رؤوس الملأ من الأسانيد ، و لم أرهم قط غمزوه في إسناد ، راجع : تذكرة الحفاظ : 3 / 892 برقم 860 .
  • 16. بحار الأنوار : 45 / 328 .
  • 17. الفلج : الظفر و الفوز ، مجمع البحرين : 2 / 323 .
  • 18. بحار الأنوار : 45 / 115 .
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى