التكامل البشري
يتقدم الانسان دوماً نحو الرقي و التكامل … كثير من الحقائق كان يجهلها الناس أمس الأول وكشف الحجاب عنها أمس ، و قسم من الحقائق كانت مجهولة أمس ، و إذا بالعلم يكشف عن أسرارها اليوم … و هكذا فإن هناك كثيراً من الحقائق يجهلها العالم اليوم ، و لكنها ستنكشف لعالم الغد . و على مر الأيام كلما انكشفت زاوية مجهولة في هذا الكون الفسيح و رفع النقاب عن سر مكنون … إطلع العالم على النظام الحكيم الذي أودعه الله ، فيقف إجلالاً و يركع خضوعاً و خشوعاً حيال عظمته و حكمته .
و حين كان موسى يتكلم مع فرعون حول توحيد الله … و حين نزل حديث موسى بن عمران بصورة آية من القرآن على نبينا العظيم ، كانت معلومات البشر عن نظام الخلقة ، و أسرارها العجيبة محدودة و ضئيلة جداً ولم يكن الناس ليتوصلوا إلا إلى ما تراه عيونهم المجردة القاصرة غافلين كل الغفلة عن أن الحقائق التي لا تدرك بالعين المجردة ، و الأمواج التي لا تسمع بالأذن العادية أكثر بكثير ن المبصرات و المسموعات العادية للبشر . لكن أئمة الاسلام الهداة ، و القادة المعصومين الذين كانوا ينظرون بنور الوحي و الإلهام و بعين الحقيقة و الواقع التي لا تحجبها الأستار المادية ، كانوا على علم بجميع تلك الحقائق .
يذكر الامام علي ( عليه السلام ) هذه الحقيقة في خطبة من خطبه ، ضمن حمد الله و الثناء عليه قائلاً : « و ما الذي نرى من خلقك ، و نعجب له من قدرتك ، و نصفه من عظيم سلطانك ؟ و ما يغيب عنا منه و قصرت أبصارنا عنه ، و انتهت عقولنا دونه ، و حالت سواتر الغيوب بيننا و بينه … أعظم » 1 .
الموجودات المجهرية
لم يكن ليعرف الانسان قبل أربعة عشر قرناً شيئاً عن العالم المحير و العجيب للموجوادات المجهرية ، ولم يكن بالامكان للعلماء في عصر نزول القرآن أن يؤمنوا أن في القطرة الواحدة من نطفة الرجل تسبح ملايين الموجودات الحية … و لكننا نجد في ذلك العصر حينما يسأل ( الفتح بن يزيد الجرجاني ) من الامام الرضا ( عليه السلام ) عن سبب تسمية الله باللطيف يقول الإمام في جوابه : « للخلق اللطيف ، و لعلمه بالشيء اللطيف … و من الخلق اللطيف ، و من الحيوان الصغار و من البعوض و الجرجس و ما هو أصغر منها ، ما لا يكاد تستبينه العيون بل لا يكاد يستبان ـ لصغره ـ الذكر من الأنثى ، و الحدث المولود من القديم » 2 .
هذا الحديث يرينا أن الامام الرضا عليه السلام كان مطلعاً في ذلك الزمان على وجود الحيوانات المجهرية ، و لذلك فهو يذكر السبب في تسمية الله باللطيف ، خلقه تعالى للأشياء الدقيقة الصغيرة بنظم متقن و إبداع عجيب ، حيث أنها لصغرها لا يمكن أن ترى بالعين المجردة .
المستقبل الوضاء
و في تلك الأيام التي كانت معلومات علماء البشر محدودة و كانوا لا يعرفون الكثير من الحقائق المكتشفة اليوم لعدم حصولهم على الوسائل و الآلات العليمة … و في تلك الأيام بالذات ظهر القرآن الكريم ببشارة سعيدة للبشرية ، و بعث في نفوس البشر الأمل الوطيد في وصولهم إلى حقائق خفية و أسرار مكنونة فقال : ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ … ﴾ 3
فتنطلق هذه البشارة باعثة الأمل في نفوس الباحثين ليعلموا أن المستقبل سيظهر لهم الكثير من آيات الله في الآفاق الكونية ، و في بناء البشر أنفسهم … ليصلوا إلى النتيجة المطلوبة و هي أن الله هو الحق و الموجود .
… و كأن الله تعالى يقول للبشر في عصر النبي ( صلى الله عليه و آله ) : بالرغم من أنني أظهرت كثيرا من الآيات و الحقائق للبشر ، و لكن الحقائق التي يمكن اكتشافها لهم هي أكثر بكثير من الحقائق المكتشفة لحد الآن . و في المستقبل القريب ، سأظهر لهم من الآيات الجديدة و الحقائق الكثيرة ما يكفل لهم إتضاح الحق و القدرة الإلهية أكثر .
و كأن الأئمة عليهم السلام كانوا يتنبأون بالتقدم العلمي للبشر ، و التعمق الذي سيبذلونه في بحوثهم في العصور التالية ، و لذلك فكانوا يذكرون ذلك في الأوقات المناسبة …
« سئل علي بن الحسين ( عليه السلام ) عن التوحيد ، فقال : الله عز و جل علم أنه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون ، فأنزل الله : ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ 4 و الآيات من « سورة الحديد » … » 5 .
إن مما لا شك فيه هو أن البشر اليوم قد اكتشفوا ـ بفضل التقدم العلمي ـ كثيراً من الحقائق و الأسرار في الآفاق الكونية و النفس الإنسانية مما لم يكن يحدس به أصحاب القرون السابقة ، فمثلاً كان السابقون يستفيدون من قوله تعالى : « ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى » بمقدار ما كان يعرف البشر من أسرار العالم حينذاك ، فكانوا يعرفون مثلاً أن النحلة تملك الأدوات اللازمة لها في صنع غذائها و كذلك تعرف بفضل الهداية الفطرية كيفية استخدامها . أو أن الحمامة تعرف ـ بالهداية الفطرية ـ كيف و أن تضع عشها ، وكيف تحافظ على فروخها .
أما العلماء اليوم فإنهم عبروا المراحل التي تدرك بالعين المجردة . و شاهدوا الموجودات الحية التي ليست قابلة للرؤية ، بواسطة العين المسلحة ( بسلاح المجهر ) ، و تمكنوا أن يراقبوا نشاط الخلية التي تعتبر الوحدة الأولى لجميع الأحياء في العالم . إن ما لا شك فيه هو أن هذه الاكتشافات العلمية قد كشفت الستار عن كثير من آيات الله الخفية و أرتنا قدرة الله العظيم في الهداية الفطرية التي أودعها في هذه الموجودات لمزاولة نشاطها بصورة أوسع مما مضى .
عالم الخلية
لقد قام الدكتور ( الكسيس كارل ) 6 بتجارب دقيقة حول حياة الخلايا خارج محيط البدن و توصل إلى كشف رموز دقيقة في اختباراته العلمية ، و من خلال قراءة بعض الفقرات من عباراته يتضح لنا أن الخلية الصغيرة الدقيقة لم تحرم أيضاً من فيض الهداية الفطرية التي أودعها الله تعالى في هذا الكون ، إنه يقول :
« ولقد عرف علماء التشريح و الفسيولوجيا الصفات المميزة للأنسجة و الأعضاء أي جمعيات الخلايا ، منذ أمد بعيد و لكنهم نجحوا حديثاً فقط في تحليل صفات الخلايا نفسها و لقد أمكن دراسة الخلايا الحية في قنينة بسهولة كما يمكن دراسة النمل في الخلية . و ذلك بسبب الطرق الحديثة المستخدمة في توزيع الأنسجة . و لقد كشفت هذه الخلايا عن نفسها و عما وهبته من قوى لا يرقى إليها الشك ذات صفات مذهلة … و مع أن هذه الصفات تقديرية في أحوال الحياة الطبيعية ، فإنها تصبح حقيقة تحت تأثير المرض حينما يتعرض الوسط العضوي إلى تغييرات ( طبيعية ـ كيماوية ) معينة » 7 .
« و الخلايا ، كالحيوانات ، تنتمي إلى أجناس مختلفة ، و هذه الأجناس أو الأنواع تعين بصفات تكوينها و وظائفها المميزة لها » 8 .
« وحينما تربى مختلف هذه الأنواع من الخلايا في قنينة فإن صفاتها المميزة تصبح من الوضوح مثل الصفات المميزة لمختلف الجراثيم . فلكل نوع صفاته الفطرية الملازمة له والتي تظل محدودة حتى بعد أن تنقضي بضعة أعوام على انفصاله من الجسم … » 9 .
« ويبدو أن الخلايا تتذكر وحدتها الأصلية حتى حينما تصبح عناصر مجهرة لا عدد لها .. أنها تعرف ، من تلقاء ذاتها ، الوظائف المطلوب منها تأديتها في الجسم كوحدة . فلو أننا زرعنا خلايا أبثيلية عدة أشهر ، و هي بعيدة عن الحيوان الذي تنتسب إليه ، فإنها تنظم نفسها تنظيماً يشبه الفسيفساء كما لو كانت ستحمي سطحاً تاماً و مع ذلك فان هذا السطح يكون غير موجود ، كذلك فإن كرات الدم البيضاء التي تعيش في قنينة تبذل قصارى جهدها للفتك بالجراثيم و الكرات الحمراء على الرغم من عدم وجود جسم تتولى حمايته من غزو هذه الأعداء . و ذلك لأن إلمامها الفطري بالدور الذي يجب عليها أن تلعبه في الجسم إن هو إلا وسيلة للبقاء تلتزمها جميع عناصر الجسم ».
« و تختص الخلايا المعزولة بقوة إعادة إنشاء التكوين الذي يتميز به كل عضو من غير إرشاد أو من غير غرض معين ، فلو أن عدة كرات حمراء انسالت بفعل الجاذبية ، من قطرة من الدم وضعت في وسائل البلازما و كونت مجرى دقيقاً ، فانها سرعان ما تنشىء له شاطئين و لن يلبث هذان الشاطئان أن يغطيا نفسيهما بخويطات من الليفين و يصبح المجرى أنبوية تنسال فيها الكرات الحمراء مثلما تنسال في وعاء دموي ، وتحيط نفسها بغشائها المتماوج . و في هذه الأثناء يتخذ مجرى الدم مظهر وعاء شعري مغلف بطبقة من الخلايا القابضة و هكذا فإن كرات الدم الحمراء والبيضاء المعزولة تستطيع أن تنشىء قطاعاً صغيراً من جهاز الدورة الدموية على الرغم من عدم وجود قلب أو دورة دموية أو أنسجة لترويها » 10 .
القيام بالواجب في الخلية
إن ما كان يعرفه علماء البشر بالأمس عن الهداية الفطرية للموجودات الحية كان مقتصراً مثلاً على أن القطة التي هي من الأحياء قد جهزت بالوسائل و الأدوات اللازمة لإدامة الحياة ، و جهزت بجهاز خاص لتربية صغارها لغرض بقاء النسل … أولاً ، و أنها تعرف كيف تستعمل تلك الأدوات و الوسائل في حياتها و الاستفادة منها ، و كيف تحمل و تضع و بأي صورة تربي صغارها … ثانياً .
أما علماء اليوم فقد توصلوا إلى أن القطة تعني آلاف الملايين من الخلايا الحية التي تمتاز بخصائص معينة ، اجتمعت كل مجموعة منها لصنع عضو خاص و المهم أن كل واحدة من هذه الخلايا الحية التي لا ترى بالعين المجردة قد جهزت بلوازم إدامة الحياة و كل منها تعرف ـ بفضل الهداية الفطرية ـ الطريق إلى تكاملها و الوصول إلى غايتها ، و كما شرح لنا العالم الاختصاصي بمعرفة الخلايا ، فان هذه الخلايا لا تنسى واجبها حتى في خارج بدن الموجود الحي ( أي في المختبرات العلمية ) بل تستمر في أداء وظيفتها بأحسن وجه قرره لها الله تعالى بقلم قضائه .
الجنين المختبري
قبل سنتين نشرت الجرائد و الصحف المحلية خبراً حول توصل البروفسور الايطالي ( دانيل بتروجي ) إلى إيجاد طفل في المختبر من نطفة الرجل و المرأة …
« باريس / 14 كانون الثاني / وكالة الأنباء الفرنسية ، لقد أعلن اليوم أن البروفسور دانيل أحد علماء ـ الأحياء ـ الايطاليين استطاع أن يلقح نطفة الرجل و المرأة في خارج رحم الأم و أن يوجد جنيناً يقوم بتربيته بصورة صناعية » 11 .
« لقد أكد العالم الايطالي أن الفلم الذي صوره يوضح كيفية دخول ( الحيمن المنوي ) في ( البويضة ) داخل أنبوبة الاختبار . و النطفة التي انعقدت بهذه الصورة استمرت في النمو لمدة 29 يوماً » 12 .
« إن المحافل الكاثوليكية و مجلس الفاتيكان يرون أن هذه الاختبارات تفسد روح البشرية و أخلاقها و يعتقدون بأن علماء العالم يجب أن يجتنبوا عن مثل هذه التجارب التي تؤدي إلى وجود موجود حي ثم قتله » 13 .
الهداية الالهية في عالم الخلية
إننا لا نريد أن نبحث عن أساس هذا العمل و حكم قتل هكذا طفل من الوجهة الشرعية ، و لكننا نقول : إنه من الجانب العلمي نجد أن هذا العمل مقتبس من أحد القوانين الكونية ، و هذا هو دليل الهداية الفطرية الإلهية في عالم الخلية . إن ( الحيمن المنوي ) هو أحد مصاديق ( كل شيء ) الذي تحدث عنه موسى بن عمران بقوله : ﴿ … رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾ 14 .
هذا الموجود المجهري مجهز بلوازم الحياة ، و مضافاً إلى ذلك فإن الله قد منحه جميع جميع الهدايات اللازمة له ، و التي منها : العشق إلى بويضة المرأة . إن الوضع الاعتيادي للبويضة هو في عنق الرحم ، و الحيامن مأمورة ـ بحكم الهداية الالهية الفطرية ـ أن توصل أنفسها إلى البويضة ، و تظهر جميع النشاطات في سبيل الوصول إليها … و تكون النتيجة أن أحد تلك الحيامن يلقح البويضة و يصير سبباً لظهور الإنسان .
و كما أشرنا سابقاً فإن تجارب العلماء قد أثبتت أن الخلايا تستمر في عملها حتى خارج البدن ، و لا تنسى واجبها ، و لهذا فإذا استطاع البروفسور الايطالي من أن يضع بويضة المرأة في أنبوبة الاختبار بدلاً من عنق الرحم و هيأ الظروف اللازمة لذلك ، فإن الحيامن لا تقف عن أداء وظيفتها التي خلقت لأجلها ، بل نلقح البويضة هناك و توجد طفلاً .
و هكذا فإن لكل مجموعة من الخلايا وظيفة معينة ، تؤديها في محيطها الاعتيادي ، و لا تكف عن إتيانها في الظروف غير الاعتيادية أيضاً ، و هذا السر العظيم للخلقة دقيق إلى درجة أن العلماء لم يتوصلوا بعد إلى كثير من رموزه .
« تتميز أنواع الخلايا بطريقتها في الحركة ، و في اتحاد إحداها مع الأخرى و شكل مجموعاتها ، و درجة نموها و استجابتها لمختلف الكيميائيات ، و المواد التي تفرزها و الطعام الذي تحتاجه ، كما تتميز بشكلها و بنيانها … إن قوانين تنظيم كل مجموعة خلايا ـ أي كل عضو ـ مستمدة من هذه الخصائص العنصرية . و إذا كانت خلايا النسيج تملك فقط الصفات التي ينسبها علم التشريح لها ، لما كان في استطاعتها أن تنشئ جسماً حياً … انها تملك قوى أخرى ، تكون مخبأة عادة و لكنها تصبح فعالة حينما تستجيب لتغييرات معينة في الوسيط ، و هكذا تتاح لها فرصة علاج الحوادث غير المتوقعة إبان الحياة العادية أو في أثناء المرض … و تتحد الخلايا في جماهير كثيفة هي الأنسجة و الأعضاء التي يتوقفها تنظيمها الهندسي على الاحتياجات التكوينية و الوظيفية للجسم في مجموعة » 15 . « و جميع الخلايا الحية تعتمد كل الاعتماد وبصفة خاصة على الوسيط الذي غاصت فيه وهي تعدل هذا الوسيط من غير توقف ، و تتعدل هي به من غير توقف أيضاً . بل الحقيقة أنها غير قابلة للانفصال عنه مثلما لا ينفصل جسمها عن نواته . و بنيانها يتبعان الأحول المادية ( الطبيعية ـ الكيميائية ) و الكيميائية للسائل المحيط بها … » 16 .
و تملك الخلايا نشاطات مختلفة في الحالات الاعتيادية و غير الاعتيادية و غير الاعتيادية و إن الظروف البيئية تؤثر فيها . و في حالة المرض حيث يكون وضع البدن غير اعتيادي تقوم الخلايا بنشاطات خاصة دقيقة و غير واضحة تماماً لصالح البدن و لدفع المرض . و كذلك أيام الحمل تكون وضعاً لا اعتيادياً بالنسبة إلى المرأة . و بالرغم من أن الخلية التناسلية الأولى تنتج من تلقيح البويضة بالحمين ، ـ و لا يختلف محيط الرحم مع محيط المختبر من هذه الجهة ـ لكن ما لا شك فيه هو أن خلايا بدن الأم تقع تحت تأثير العوامل البيئية للحمل طيلة التسعة أشهر حيث يتم خلالها نمو الطفل في الرجم و تؤثر تلك التأثيرات في البناء الطبيعي للطفل بلا ريب ، و لهذا السبب فإن البروفسور الايطالي قد قطع التجربة في اليوم التاسع و العشرين بالنسبة إلى أيجاد الطفل في المختبر .
« إن الجنين أخذ شكله اللازم له طيلة ( 25 يوماً ) ، و توقفت التجربة في اليوم ( 29 ) عمداً . لقد أعلن العالم لايطالي أنه أوقف التجربة عمداً ، لأنه كان من المحتمل أن ينشأ من نمو هذا الجنين عملاق ضخم ، و يكون النمو التالي للجنين غير طبيعي ».
« هذا الأمر يدلنا على أن العلماء لم يستطيعوا بعد ، من إيجاد الظروف اللازمة لتربية النطفة و تحويلها إلى طفل جديد خارج بدن الإنسان . و يبدو أن هناك أسراراً دقيقة حول تغيير أشكال الأنسجة ، و نفوذ الهورمونات بين نطفتين إنسانيتين لم تكشف لحد الآن » 17 .
إن بعض الجهال و المنحرفين الذين يستغلون الفرص المناسبة لاسداء الضربة القاضية إلى التعاليم الدينية . قد استغلوا هذه المناسبة فراحوا يقولون إن البشر استطاع أن يخلق بشراً مثله ، و بهذا لا داعي لموافقة المتألهين حول حصر نسبة الخالقية إلى الله . و لتوضيح الموضوع والرد على هذه الشبهة لا بد من تمهيد بعض المقدمات .
جهاز التفقيس
إن الطريقة الطبيعية في تربية فروخ الدجاج هي أن يستقر البيض تحت جناحي الدجاجة و ريشها ، و يفقس البيض بعد ثلاثة أسابيع … و لقد فكر البعض فيما مضى في إيجاد حرارة مشابهة لحرارة جسد الدجاجة في الدرجة في جهاز خاص و ذلك لغرض التفقيس بلا دجاجة . و لقد تم هذا العمل فعلاً ، و اليوم يفقس عدد كثير من البيض عن كتاكيت بواسطة الحاضنات الاوتوماتيكية … و لكن لم يظهر لحد الآن من يتمكن من صنع البيضة ـ التي هي بمنزلة خلية كبيرة لنطفة الكتكوت ـ و سوف لن يستطع من ذلك في المستقبل ، بل يجب عليه أن يحصل على البيض من نفس الطريق الذي قرره خالق الكون ، أي عن طريق الدجاجة 18 .
و اليوم نجد أن البروفسور الايطالي قد أخذ نطفة الرجل و المرأة ـ التي هي بمنزلة البيضة ـ من مجراها الطبيعي ، و لقحها في المختبر ـ الذي هو بمنزلة مكائن التفقيس ـ مع فارق واحد هو أن جهاز التفقيس يؤدي عملاً واحداً هو تنظيم درجة الحرارة و تقليب البيضات ظهراً لبطن يومياً لمنع الترسب … بينما يجب على البروفسور الايطالي أن يقوم بمائة عمل أو مئات الأفعال لتهيئة الظروف المتنوعة من الحرارة و الرطوبة و المحيط المساعد ، و المواد الغذائية الصالحة ، و تغذية الجنين … و غيرها من العوامل . نعم ! لا شك في أنه قام بعمل مهم من الناحية العلمية ، و لكنه لم يصنع الحيمن و البويضة ، بل إنه حصل على أساس الخلقة البشرية و خليته الأولى بواسطة الرجل و المرأة ، و من بين أحضان الطبيعة و المجرى الطبيعي للقضاء و القدر الآلهيين ، و لكنه قام بتلقيحهما و تربيتهما و تغذيتهما في داخل المختبر . و إذا أمكن القول بأن جهاز التفقيس أو المتصدي لتنظيم درجة حرارة الجهاز أو واضع الزيت فيه هو خالق الكتكوت ( الفرخ ) الذي يخرج منه ، أمكن القول هنا أيضاً بأن البروفسور و المختبر قد خلقا الجنين !!!
سر الحياة المجهول
إن العالم لم يتوصل بعد إلى كشف رمز الحياة ، و حل سر الوجود على وجه الكرة الأرضية . فكيف بقدرته على صنع خلية حية تكون منشأ ظهور البشر أو الحيوان . إن علماء الحياة بعد القيام بجهود عظيمة في هذا الميدان يبعثون الأمل في نفوس الناس بإمكان معرفة كيفية ظهور الموجود الحي بعد ألف سنة …
« و بعد ألف سنة ، يتوصل الانسان إلى كشف سر الحياة و لكن لا يدل هذا على أن باستطاعة البشر أن يوجد ذبابة أو حشرة أخرى أو حتى خلية حية . لقد أعلن هذا الموضوع في مؤتمر انعقد باسم ( داروين ) . و قد أعلن ( البروفسور هانز ) العالم الأمريكي أن العلماء سيبحثون عن سر الحياة خلال الألف سنة القادمة » 19 .
أما بالنسبة إلى تلقيح البيضة بالحيمن في المختبر ، و التجربة الناقصة التي قام بها البروفسور الايطالي ، فلو فرض أن العلماء توصلوا إلى جميع الخصائص الخلوية المجهولة في بدن الأم ، و تفاعلاتها الكيميائية في أيام الحمل ، و استطاعوا من إيجادها في محيط المختبر ، و أوجدوا طفلاً كاملاً و سالماً … فليس هذا العمل غير مناف لأساس التوحيد فحسب ، بل يبقى سنداً قوياً على النظام الدقيق الذي يسود الكون ، و دليلاً بارزاً على وجود الخالق الحكيم العالم الذي أوجد حتى الذرات غير المرئية في هذا العالم حسب نظام دقيق و تقدير مطابق . و هنا يتبين قوله تعالى : ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ 20 . إذ أنه لا شك في أن الطبيعة الجاهلة و الصدفة العمياء لا يمكن أن يصدر منها هذا النظام العجيب .
نستنتج مما سبق أن الحيوانات و الحشرات وحى الخلايا تملك قسطاً وافراً من الهداية الفطرية الالهية ، و لا تحتاج في الوصول إلى كمالها اللائق بها إلى التعليم و التربية . إن النحل و العناكب تعرف منهجها التكاملي على نحو الغريزة الفطرية ، وكذلك الحيامن و الكريات البيض تعرف وظائفها عن طريق الهداية الالهية.
إن بعض النشاطات التي تظهر من الحيوانات و الحشرات بإرشاد من هدايتها الغريزية دقيقة و مهمة إلى درجة أنها تبعث الانسان على التعجب و الحيرة !
حشرة الآموفيل
« إن حشرة الآموفيل لا تأكل الديدان ، بل هي تتغذى على الأعشاب ، لكن صغارها تحتاج إلى الديدان في تغذيتها في أولى أدوار حياتها ، و لهذا فإن هذه الحشرة تلسع الديدان و تخدرها بالسم المخصوص الذي تفرزه و لكن لا تقتلها … و ذلك لكي تولد صغارها فتستطيع التغذي على هذه الديدان . إن حشرة الآموفيل تعلم أن الديدان لو قتلت قبل ولادة صغارها فانها تتعفن و لا تصلح غذاء لها . إن هذه الحشرة قد اكتشفت أنه لو لم تخدر الديدان بالدرجة الكافية فإنها تستعيد نشاطها و تأخذ بالفرار … فتموت صغارها جوعاً ، لذلك فإنها تلسع الدودة بصورة غير قاتلة بل مخدرة فقط » 21 .
إن الحيوانات و الحشرات تسير بأحسن ما يكون من الانتظام في طريق حياتهما و تكاملها ـ في كنف الهداية الفطرية ـ و لا تحتاج في ذلك إلى التربية و التعليم .
الخصائص المشتركة بين الانسان و الحيوان
أما البشر فإن جانباً من مناهجه الحياتية و قوانينه التكاملية تدار بواسطة لهداية الفطرية من قبل الله تعالى ، و في ذلك يشبه الحيوانات و الحشرات في أنه لا يحتاج إلى مرشد و معلم . فالمعدة في هضمها للطعام ، و الكبد في تصفية الغذاء و تحويله إلى دم ، يعرفان واجباتهما على أكمل وجه و لا يحتاجان في ذلك إلى من يرشدهما و يهديهما . و كذا مبيض المرأة فانه يعمل بصورة تلقائية على صنع بيضة واحدة في كل شهر . و كذلك الرحم في صنع الجنين ، و غدد الثديين في صنع الحليب للطفل . فكل هذه الأعضاء قد تلقت دروسها في مدرسة الخلقة و الابداع .
و الانسان لا يحتاج في إحساسه بالجوع و العطش و التعب و الرغبة في النوم و إدراك البلوغ و الرغبة الجنسية إلى دراسة و مدرسة ، إذ أنه يدرك هذه الحقائق بصورة فطرية . لكن الأطفال يحتاجون إلى المربي و المعلم في موردين : الأول في صفات مشتركة بين الإنسان و الحيوان . و الثاني من خواص الإنسان . و سنضرب لكل منهما بعض الأمثلة الموجزة .
أما الموارد التي يتشرك فيها الإنسان مع سائر الحيوانات ، فهي أن الحيوانات تعرف أعداءها و تهرب منها بلا حاجة إلى دراسة و تلقين ، و لكن الانسان يعرف أعداءه عن طريق التعلم و التجربة . الحيوانات تعرف مقدار حاجتها إلى الطعام من ناحية الكم و الكيف ، و تعرف كيفية تربية أطفالها وتغذيتهم أيضاً بلا حاجة إلى معلم ، و لكن الانسان عرف احتياجاته الغذائية و نسب المواد الغذائية التي يجب أن يتناولها بعد تجارب عديدة و محاولات طويلة ، أما تغذية الأطفال بالصورة الصحيحة فيخضع لنظر الطبيب .
إن صغار القط تدرك الفواصل تماماً و تعرف مقدرتها أيضاً ، فلا تقفز إلى الأماكن التي تكون الفاصلة نحوها بعيدة و لا تستطيع القفز نحوها و لكن الأطفال لا يفهمون هذه الأمور فما أكثر ما رأيناهم يسقطون من السطوح العالية و يموتون . و هكذا المهر فانه يفهم خطر الغرق في الماء و لا يرمي بنفسه في ولم يسمع لحد الآن أن مهرة قد اختنقت في نهر القرية أو بركتها جهلاً ، لكن أطفال البشر هم الذين يسقطون في أحواض البيوت و المسابح فيغرقون !
و الحيوانات لا تحتاج في الأمور الصحية و حفظ سلامتها و سلامة صغارها إلى التعليم و التربية ، و لكن البشر نراه ماداً يد الحاجة دائماً إلى العم و العالم لحفظ سلامته و سلامة أطفاله على ضوء إرشاداته . هذه هي بعض الأمثلة البسيطة على المقارنة بين الصفات المشتركة بين الإنسان و سائر الحيوانات .
خواص الإنسان
أما فيما يتعلق بالجانب الثاني . فإن في باطن الإنسان قابليات ومواهب خاصة لا توجد في الحيوانات أصلاً . هذه المواهب و القابليات هي التي تبلغ بالإنسان إلى أعلى درجات الكمال الإنساني في المدارج الإيمانية و المراحل الأخلاقية ، وبذلك تحفظه عن كل المدنسات والرذائل … وهي التي تجعله مسيطراً على علام طبيعة في المجال العلمي وإدراك نواحي الخلقة ، وبذلك تخضع له جميع القوى و الطاقات الأرضية ، ثم تفسح له المجال للسيطرة على الأجرام السماوية وتسخيرها أيضاً . لكن هذه الثروة العظيمة التي ينحصر بها الإنسان تكمن في الباطن بصورة استعدادات و قابليات و لا تظهر لوحدها أصلاً ، وفي ظل التربية والتعليم فقط يمكن إخراج تلك الذخائر العظيمة من القوة إلى الفعل ، و من الاستعداد إلى حيز التنفيذ و الاستغلال .
إن أصوات الحيوانات التي تكون كل منها بمنزلة علامة خاصة ، لا تحتاج إلى تمرين و تربية ، و لكن التكلم الذي لا يعدو كونه أبسط الظواهر الإنسانية لا يتم من دون مرشد ومرب ، إذ لو ترك الطفل من أول يوم ولادته وحيداً لا يتكلم معه ، فلا شك في أن قابلية على التكلم تموت ولا تصل إلى عالم الفعلية ، و هكذا سائر الاستعدادات الفطرية في الإنسان فإنها تظهر عن طريق التربية و التعليم فقط 22 .
- 1. شرح نهج البلاغة لملا فتح الله : 276 .
- 2. الكافي للكليني : 1 / 119.
- 3. القران الكريم : سورة فصلت ( 41 ) ، الآية : 53 ، الصفحة : 482 .
- 4. القران الكريم : سورة الإخلاص ( 112 ) ، الآية : 1 ، الصفحة : 604 .
- 5. تفسير البرهان : 1228 .
- 6. من العلماء المعروفين في علم الأجنة ، و معرفة الأنسجة في العالم ، لقد كتب أحدهم عن شخصيته : « و أعظم هذه الاكتشافات هو معرفة الأجنة ( جمع جنين ) التي توصل إليها الكسيس كارل . لقد تمكن من أن يعتني بتربية الأنسجة بصورة دقيقة ، حتى توصل إلى الاحتفاظ بقطعة من قلب دجاجة لمدة ثلاثين سنة في معهد ( روكفلر ) بنيويورك » !!.
- 7. الانسان ذلك المجهول : 65.
- 8. المصدر نفسه : 67.
- 9. الأنسان ذلك المجهول : 68 .
- 10. الانسان ذلك المجهول :90.
- 11. جريدة ( إطلاعات ) الايرانية ـ العدد / 10410.
- 12. جريدة ( إطلاعات ) الايرانية ـ العدد / 10429 .
- 13. المصدر نفسه ـ العدد / 10411 .
- 14. القران الكريم : سورة طه ( 20 ) ، الآية : 50 ، الصفحة : 314 .
- 15. الانسان ذلك المجهول : 68 .
- 16. الانسان ذلك المجهول : 65 .
- 17. جريدة إطلاعات الايرانية ـ العدد / 10411 ، تاريخ 26 / 10 / 1339 هجرية شمسية .
- 18. و هنا نضيف إلى عبارة الاستاذ الفلسفي نكتة مهمة . و هي أنهم على فرض صنعهم للبيضة أيضاً بطريقة ميكانيكية ، فلا يسمى عملهم ذلك خلقاً ، بل هو اقتباس لخلق الله … إذ لا يتم ذلك على فرض الامكان إلا بعد فحصهم لمكونات البيضة وعناصرها و تحليلها و معرفة ظروف تركيبها من حرارة و ضوء و رطوبة … الخ ، كي يتمكنوا من صنع بيضة مثلها ، و حينذاك لا يسمى عملهم هذا خلقاً بل هو تقليد لخلق الله .
- 19. جريدة إطلاعات الايرانية العدد / 10160 ، التاريخ 19 / 12 / 1338 هجرية شمسية .
- 20. القران الكريم : سورة القمر ( 54 ) ، الآية : 49 ، الصفحة : 530 .
- 21. آخرين تحول : 74 .
- 22. المصدر : كتاب الطفل بين الوراثة و التربية و هو مجموعة محاظرات القاها الشيخ محمد تقي الفلسفي في رمضان 1381 هـ بطهران . قام بتعريب الكتاب فاضل الحسيني الميلاني ، طبعة دار التعاريف للمطبوعات ـ بيروت : 146 ـ 158 .