بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على محمد و آله الطاهرين و أصحابه المنتجبين .
جاء في الحديث الصحيح عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ( الصادق ) عليه السلام يَقُولُ :
( رَحِمَ اللَّهُ عَبْداً حَبَّبَنَا إِلَى النَّاسِ وَلَمْ يُبَغِّضْنَا إِلَيْهِمْ .
أَمَا وَاللَّهِ لَوْ يَرْوُونَ مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَكَانُوا بِهِ أَعَزَّ وَ مَا اسْتَطَاعَ أَحَدٌ أَنْ يَتَعَلَّقَ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ وَ لَكِنْ أَحَدُهُمْ يَسْمَعُ الْكَلِمَةَ فَيَحُطُّ إِلَيْهَا عَشْراً ) 1 .
و يؤيد هذا الحديث ما روي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام ، أنه قال :
( رحم الله عبدا من شيعتنا حببنا إلى الناس ولم يبغضنا إليهم .
أما والله لو يروون ما نقول ، و لا يحرفونه ، و لا يبدلونه علينا برأيهم ما استطاع أن يتعلق عليهم بشيء ، و لكن أحدهم يسمع منا الكلمة فينيط عشرا و يتناولها برأيه ……. ) 2 .
الكلام يقع في محورين :
المحور الأول : في الآليات الناجحة و الفعالة للتعريف بأهل البيت عليهم السلام و إعطاء صورة واضحة عن حياتهم و سيرتهم و ما يحملونه من رؤى و أفكار و أخلاق و ما قدموه للأمة من خدمات جليلة و عظيمة طيلة حياتهم .
في المقدمة لا بد من التنبيه على بعض الأمور :
1 ـ مما يلفت النظر في بداية الحديث هو الدعاء من الإمام عليه السلام لمن يقوم بهذا الواجب .
2 ـ أن الأئمة عليهم السلام لم يعيشوا لأنفسهم و إنما هو لله و للدين ، فمحبتهم و الحديث عنهم إنما هو حديث عن الإسلام ، لذلك قدموا كل ما يملكونه بما فيه دماءهم لأجل الإسلام .
3 ـ ما هو حجم المسئولية ؟
4 ـ الأئمة عليهم السلام هم أئمة لعموم المسلمين و الإمام الصادق عليه السلام إمام المسلمين و قد أشارت إلى ذلك جملة من الروايات .
5 ـ ولايتهم ولاية الله و عداوتهم عداوة لله و قد نص على ذلك عدد من الأحاديث .
6 ـ مسئولية التعريف بأهل البيت عليهم السلام على من تقع ؟ لا شك على أن طبقة العلماء هي في مقدمة من يتحمل المسئولية و هذا لا يعفي الآخرين منها كما يشير إلى ذلك كل من هذين الحديثين .
مواصفات المبلغ
و من منطلق تحمل المسئولية لا بد من توفر مواصفات معينة في العالم الذي يريد أن يقوم بهذا الواجب و هي :
1) العلم بما يريد أن يبلغه و يعرف به و أن يكون قائما على بحثه و تتبعه ، و أن لا يكون قائماً على الجهل و التعصب أو التقليد الأعمى أو مسايرا للعوام و الجهلة .
2) الحلم
3) التواضع و اللين بل و حسن الأخلاق عموما .
4) الموضوعية .
5) العدل و الإنصاف و التقوى .
6) الإيمان بما يريد أن يبلغه .
7) الخبرة بعقائد الطرف الآخر و تاريخه و مذهبه و مشاعره و شعائره و مقدساته .
8) بعد النظر و الحس السياسي .
9) حسن الإدارة و سعة الصدر
قال تعالى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ 3 . إن هذه الآية تجمع أهم صفات المبلغ و الداعية إلى الله و دينه القويم .
النبي يحمل نفسه المسئولية في الدعوة
نقل السيد الإمام الخميني عن أستاذه الشاه آبادي :
قال شيخنا العارف الكامل الشاه آبادي إن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم عندما دعا الناس إلى رسالته ولم يجد الإصغاء المطلوب و الدخول في دين الله حسب المستوى المرغوب فيه ، أبدى احتمالا في نفسه و هو النقص في دعوته ـ الداعي ـ فانصرف إلى ترويض نفسه طيلة عشرة أعوام حتى ورمت قدماه ، فنزلت هذه الآية المباركة مخاطبة إياه ﴿ مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ﴾ 4 .
إنك طاهر و هادٍ ، و لا يوجد عيب و نقص فيك ، بل النقيصة في الناس ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ … ﴾ 5 .
ويتابع الإمام بقوله :
و على أي حال يستفاد من هذه الآية المباركة ، أن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم كان في ترويض و تعب و جهاد . و يستفاد من مجموع أحاديث المفسرين هذا المعنى أيضاً ، رغم اختلافهم في كيفية الترويض و التعب .
و يجب أن تكون هذه الآية المباركة قدوة للناس جميعاً و خاصة للعلماء الذين يريدون القيام بالدعوة إلى الله تعالى ، حيث أن رسول الله مع طهارة قلبه و كماله التجأ إلى الترويض و أتعب نفسه حتى نزلت الآية الشريفة من الحق المتعالي .
و نحن رغم ثقل الخطايا و الذنوب لم نفكر البتة في معادنا و مآلنا و كأننا نحمل صك الخلاص و البراءة من جهنم و الأمان من العذاب . و هذا لا يكون إلا نتيجة أن حب الدنيا قد أصم آذاننا فلا نسمع كلمات الأولياء و الأنبياء 6 .
10) إشعار الطرف الآخر بالمحبة و المودة و أن هذا العمل لله و ليس لمقصد مادي أو مذهبي .
11) مخاطبة الطرف الآخر بأمور لا ينكرها عقائديا و مذهبيا و عقلياً .
12) الحكمة في الحديث .
عَنْ سَعْدِ بْنِ طَرِيفٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ : ( صَانِعِ الْمُنَافِقَ بِلِسَانِكَ وَ أَخْلِصْ وُدَّكَ لِلْمُؤْمِنِ وَ إِنْ جَالَسَكَ يَهُودِيٌّ فَأَحْسِنْ مُجَالَسَتَهُ ) 7 .
أدواة التعريف بأهل البيت
لعبت الدعاية و الإرهاب الفكري و العسكري في العصر الحديث أدواراً كبيرة في مختلف جوانب الحياة العقائدية و الأخلاقية و السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية فسلخت مجتمعات كثيرة عن عقائدها و فكرها و أخلاقها و أسقطت دول و أقامت غيرها و أفقرت جماعة أخرى و استعبدت آخرين .
إننا لسنا بحاجة إلى أساليب الاستعمار و الكفر العالمي من الدعاية الكاذبة و الإرهاب الفكري و العسكري فيما نصبو إليه من الدعوة إلى الله و تعريف مذهب أهل البيت عليهم السلام إلى من يجهلهم ، ففي الأساليب و الأدوات التي طرحتها أئمتنا لنا كفاية .
الأئمة عليهم السلام عرضوا لنا أساليب التعريف بمذهبهم و هي في الواقع قواعد أساسية ثابتة ، و إن اختلف الزمان أو المكان وفي ما يلي أذكر بعض ما يسمح به المقام و يوجد هنا قاعدتان :
القاعدة الأولى : تحبيب الأئمة
تحبيب الأئمة من أهل البيت عليهم السلام لدى مخالفيهم و إبرازهم بالصورة التي تتناسب مع مقامهم كأئمة لعموم المسلمين و لعل هذا هو السر في تأكيد الآيات و الروايات على ولايتهم و محبتهم و ذكر فضائلهم و البراءة من أعدائهم ؛ فإن ولايتهم ولاية لله و لرسوله و عداوتهم عداوة لله و لرسوله .
و عدم طرح الأمور التي تؤدي إلى عداوة أئمة أهل البيت عليهم السلام و تشويه سمعتهم و لو في نظر الآخرين .
ما طرحه الإمام الباقر و الصادق عليهما السلام في الصحيحة والرواية من تحبيبهم إلى من يجهلهم أو يخالفهم و إبرازهم بالصفة السامية لهو من أبدع و أنجع الأساليب في إقناع الطرف المخالف و تبديد الصور الكاذبة العالقة في ذهنه جراء الدعاية المغرضة الكاذبة أو التربية الخاطئة .
أساليب التحبيب
أما ما هي أساليب التحبيب و كيف يتم ذلك؟
فهي و إن كانت تختلف من زمان إلى زمان و من مكان إلى آخر بل و من شخص إلى آخر و من وسيلة إلى أخرى إلا أن ما عرضه الأئمة عليهم السلام في كلامهم لشيعتهم و بالأخص في الروايات الصحيحة حول هذا الجانب فهو واف كاف :
1 ـ الإقتداء بالأئمة عليهم السلام في هذا الجانب .
الأئمة هم القدوة
يجب على الشيعة أن يتعاملوا مع مخالفيهم بنفس الطريقة التي كان الأئمة عليهم السلام يتعاملون بها مع مخالفيهم حتى و إن اختلف الزمان أو المكان أو وسائل التعامل و بما أنهم عليهم السلام كانوا يتعاملون مع مخالفيهم بالأخلاق الحسنة و ما يدعوهم إلى الوحدة بين المسلمين و رص صفوفهم و تقريبهم إلى الإسلام بل و الكثير تأثر بأخلاق أهل البيت حتى أصبح من المحبين لهم فعلى الشيعة أن يتعاملوا بنفس الأخلاقية ففي الحديث الصحيح عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ وَهْبٍ قَالَ : قُلْتُ لَهُ كَيْفَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَصْنَعَ فِيمَا بَيْنَنَا وَ بَيْنَ قَوْمِنَا وَ بَيْنَ خُلَطَائِنَا مِنَ النَّاسِ مِمَّنْ لَيْسُوا عَلَى أَمْرِنَا ؟
فَقَالَ : ( تَنْظُرُونَ إِلَى أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تَقْتَدُونَ بِهِمْ فَتَصْنَعُونَ مَا يَصْنَعُونَ فَوَ اللَّهِ إِنَّهُمْ لَيَعُودُونَ مَرْضَاهُمْ وَ يَشْهَدُونَ جَنَائِزَهُمْ وَ يُقِيمُونَ الشَّهَادَةَ لَهُمْ وَ عَلَيْهِمْ وَ يُؤَدُّونَ الْأَمَانَةَ إِلَيْهِمْ ) 8 .
2 ـ الإحسان إلى المسيء .
3 ـ عدم المكاشفة .
و التعامل على الظاهر و عدم كشف الأمور المخفية في القلوب و النوايا ففي الحديث الصحيح عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا ( عليه السلام ) فِي حَدِيثٍ قَالَ : ( لَا تَمَلَّ مِنَ الدُّعَاءِ فَإِنَّهُ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ وَ عَلَيْكَ بِالصَّبْرِ وَ طَلَبِ الْحَلَالِ وَ صِلَةِ الرَّحِمِ وَ إِيَّاكَ وَ مُكَاشَفَةَ النَّاسِ فَإِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ نَصِلُ مَنْ قَطَعَنَا وَ نُحْسِنُ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْنَا فَنَرَى وَ اللَّهِ فِي ذَلِكَ الْعَاقِبَةَ الْحَسَنَةَ ) 9 .
4 ـ الانفتاح على الآخرين .
والدعاء للمخالفين بالهداية .
سعة قلب النبي مع الناس
قال السيد ابن طاووس : و كنت في ليلة جليلة من شهر رمضان بعد تصنيف هذا الكتاب ـ يعني كتاب الإقبال ـ بزمان و أنا أدعو في السحر لمن يحب [ يجب خ ل ] و يحسن تقديم الدعاء له و لي و لمن يليق بالتوفيق أن أدعو له فورد على خاطري :
أن الجاحدين لله جل جلاله و لنعمه و المستخفين بحرمته و المبدلين لحكمته في عباده و خليفته ينبغي أن يبدأ لهم بالدعاء بالهداية من ضلالتهم فإن جنايتهم على الربوبية و الحكمة الإلهية و الجلالة النبوية أشد من جناية العارفين بالله و بالرسول ( صلى الله عليه و آله ) فيقتضي تعظيم الله و تعظيم جلاله و تعظيم رسوله ( صلى الله عليه و آله ) و حقوق هدايته بمقاله و فعاله أن يقدم الدعاء بهداية من هو أعظم ضررا و أشد خطرا حيث نعذر [ لم يقدر خ ل ] أن يزال ذلك بالجهاد و منعهم من الإلحاد و الفساد .
أقول فدعوت لكل ضال عن الله بالهداية إليه و لكل ضال عن الرسول بالرجوع إليه و لكل ضال عن الحق بالاعتراف به و الاعتماد عليه .
ثم دعوت لأهل التوفيق و التحقيق بالثبوت على توفيقهم و الزيادة في تحقيقهم و دعوت لنفسي و من يعنيني أمره بحسب ما رجوته من الترتيب الذي يكون أقرب إلى من أتضرع إليه و إلى مراد رسوله صلى الله عليه و آله و قد قدمت مهمات الحاجات بحسب ما رجوت أن يكون أقرب إلى الإجابات .
أ فلا ترى ما تضمنه مقدس القرآن من شفاعة إبراهيم ( عليه السلام ) في أهل الكفران فقال الله جل جلاله : ﴿ … يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ﴾ 10 ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ ﴾ 11 فمدحه جل جلاله على حلمه و شفاعته و مجادلته في قوم [ لقوم ] لوط الذين قد بلغ كفرهم إلى تعجيل نقمته .
أ ما رأيت ما تضمنه أخبار صاحب الرسالة و هو قدوة أهل الجلالة كيف كان ، كلما آذاه قومه الكفار و بالغوا فيما يفعلون قال صلى الله عليه و آله : ( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) .
أما رأيت الحديث عن عيسى ( عليه السلام ) كن كالشمس تطلع على البر و الفاجر .
و قول نبينا ( صلى الله عليه و آله ) اصنع الخير إلى أهله و إلى غير أهله فإن لم يكن أهله فكن أنت أهله .
و قد تضمن ترجيح مقام المحسنين إلى المسيئين قوله جل جلاله ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ 12 و يكفي أن محمدا ( صلى الله عليه و آله ) بعث رحمة للعالمين 13 .
5 ـ الالتزام بالدين .
إن تدين الأتباع له مدخلية كبرى في إعطاء الصورة الحسنة للمتبوع في نظر الآخرين الذين لا يعرفونه سواء كان الإسلام أو أهل البيت عليهم السلام أم غيرهما من المذاهب و الأديان فإن الأتباع هم الذين يحكون الحالة لمن يتبعونه لذلك و قد ورد عن الصادق عليه السلام ، أنه قال للمفضل :
( أي مفضل قل لشيعتنا كونوا دعاة إلينا بالكف عن محارم الله ، و اجتناب معاصيه و إتباع رضوانه ، فإنهم إذا كانوا كذلك كان الناس إلينا مسارعين ) 2 .
و هذه الرواية صريحة أن حسن السلوك من شيعة أهل البيت و التزامهم بالدين من أهم أسباب الدعوة إلى أهل البيت عليهم السلام و أن التزامهم سوف يدعو الآخرين إلى الدخول في مذهب أهل البيت عليهم السلام بل و يكونون إلى ذلك مسارعين .
6 ـ استعمال الحكمة .
في الدعوة إلى أهل البيت عليهم السلام و التي هي دعوة إلى الله عز و جل فيقال ما ينبغي أن يقال و ما تكلم به الأئمة عليهم السلام ، و يسكتوا عما سكت عنه الأئمة عليهم السلام و سوف يهتدون إلى الحق و إلى صراط مستقيم .
فقد جاء عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ : ( لَيْسَ هَذَا الْأَمْرُ مَعْرِفَتَهُ وَ وَلَايَتَهُ فَقَطْ حَتَّى تَسْتُرَهُ عَمَّنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ . وَ يُحْسِبُكُمْ أَنْ تَقُولُوا مَا قُلْنَا وَ تَصْمُتُوا عَمَّا صَمَتْنَا فَإِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمْ مَا نَقُولُ وَ سَلَّمْتُمْ لَنَا فِيمَا سَكَتْنَا فَقَدْ آمَنْتُمْ بِمِثْلِ مَا آمَنَّا وَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ﴿ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ … ﴾ 14 .
قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليه السلام : حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ وَ لَا تُحَمِّلُوهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَ فَتَغُرُّونَهُمْ بِنَا ) 15 .
7 ـ اجترار المودة لأهل البيت .
يجب على الشيعي المخلص لأهل البيت عليهم السلام أن يتحرى الطرق التي تحبب أهل البيت إلى مخالفيهم و أن يستعمل الوسائل و الأعمال التي تؤدي بالمخالفين أن يودوا أهل البيت عليهم السلام فيجر مودة الناس إلى أهل البيت و ذلك بأن يدخلهم و يقربهم إلى المفاهيم التي حملها علي بن أبي طالب و أولاده الطاهرون عليهم السلام .
فقد جاء عَنْ مُدْرِكِ بْنِ زُهَيْرٍ قَالَ : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عليه السلام :
( يَا مُدْرِكُ …… ، أَقْرِأْ أَصْحَابَنَا السَّلَامَ وَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَ بَرَكَاتِهِ ، وَ قُلْ لَهُمْ رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً اجْتَرَّ مَوَدَّةَ النَّاسِ إِلَيْنَا فَحَدَّثَهُمْ بِمَا يَعْرِفُونَ وَ تَرْكَ مَا يُنْكِرُونَ ) 16 .
فمن أسباب اجترار المودة لأهل البيت عليهم السلام أن يحدث المخالفين لهم بما يعرفون كالأحاديث التي رواها في كتبهم و سلموا بها و لا ينبغي له أن يلزمهم بما رواه هو من طريقه و في كتب الخاصة خصوصاً إذا كان بدرجة يصطدم مع معتقدات المخالفين أو يؤدي بهم إلى النفرة عن أهل البيت عليهم السلام و البعد عنهم أو العداء لهم ، و المساحات المشتركة كبيرة جداً و قد عرضها الأئمة عليهم السلام في أحاديثهم ، كأحاديث الوحدة و الأخوة بين المسلمين و أداء الأمانة لهم و حضور جنائزهم و مواساتهم في نكباتهم .
8 ـ النظر إلى الوحدة الإسلامية
الأئمة عليهم السلام يهتمون بوحدة الكلمة بين مختلف أفراد المجتمع الإسلامي و يحرصون أن يكون أتباعهم في مقدمة الملتزمين بالدين و من المتمسكين بأعلى مكارم الأخلاق و قد أرشدوا أتباعهم إلى اجترار مودة المخالفين للأئمة عليهم السلام و لشيعتهم كما حذروا شيعتهم أن يقوموا بأعمال تؤدي إلى بغضهم لدى المخالفين لهم و بما أن الكثير من المسلمين لا يتجرأ على إعلان عدائه لأهل البيت عليهم السلام و إن كان مخالفا لهم و إنما يعلن عدائه لأتباعهم لهذا أكد الأئمة عليهم السلام على أتباعهم أن يكونوا حذرين و أن يفوتوا الفرصة على كل من يريد أن يصطاد في الماء العكر و يثير الفتن و يشعل نار الحرب الطائفية بين الطرفين سواء كان من السنة أو الشيعة و ما موضوع التقية و التأكيد عليها و أنها من لب الدين ( و أن التقية ديني و دين آبائي و أن من لا تقية له لا دين له ) كما جاء على لسان الإمام الصادق عليه السلام إلا دليل على ما نقول .
فكل ذلك يثبت اهتمام الأئمة عليهم السلام بوحدة الكلمة و رص صفوف الأمة الإسلامية و أمر أصحابه و أتباعه بالمدارات و أن يجتروا مودة المخالفين لأهل البيت و لشيعتهم أيضاَ كما في الرواية الآتية عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال : ( رحم الله عبدا اجتر مودة الناس إلينا وإلى نفسه )
9 ـ من هو أخطر على مذهب أهل البيت ؟
السؤال الذي يطرح نفسه من هو أشد ضرراً و أكبر خطرا على أهل البيت عليهم السلام ؟
من يعلن الحرب عليهم و يتجاهر بالعداء لهم ؟
أو من يتظاهر بالولاء و المشايعة لهم ثم يكشف أسرارهم و ينطق بما يكرهون ؟ و يعمل على خلاف ما أمر به الأئمة عليهم السلام .
الجواب يوضحه الإمام الصادق عليه السلام في الرواية التالية التي يؤكد فيها على اجترار مودة المخالفين لهم و لشيعتهم ، و أن الناصب لهم حرباً ليس بأشد عليهم مؤونة من الموالي لهم الناطق بما يكرهون بل إن الأخير أشد خطراً و أكثر ضرراً عليهم لأنه :
1 ـ محسوب عليهم . 2 ـ و لأنه يتكلم عن لسانهم . 3 ـ و لأنه يقول و يعمل على خلاف ما يريده أئمتهم سواء كان بالسب و الشتم لمن خالفهم أو بالتكفير لهم .
قال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام لرجل قدم عليه من الكوفة فسأله عن شيعته ، فأخبره بحالهم .
فقال أبو عبد الله عليه السلام : ( ليس اجتماع أمرنا بالتصديق و القبول فقط ، إن احتمال أمرنا ستره و صيانته عن غير أهله ، فأقرئهم السلام و قل لهم : رحم الله عبدا اجتر مودة الناس إلينا و إلى نفسه ، فحدثهم بما يعرفون و ستر عنهم ما ينكرون و يجهلون .
والله ، ما الناصب لنا حربا بأشد علينا مؤونة من الناطق علينا بما ذكر ، و لو كانوا يقولون عني ما أقول ما عبأت بقولهم و لكانوا أصحابي حقا ) 17 .
فهذه الرواية واضحة في الكشف عن حالة كانت موجودة في زمان الإمام الصادق عليه السلام من وجود عدد لا يستهان بهم كانوا محسوبين على الإمام و هم له مخالفون بل لا يمتثلون أوامره لذلك كان الإمام يتذمر منهم إلى أبعد حد .
10 ـ ما ينبغي للشيعة في مواجهة الناس .
قال الإمام الصادق عليه السلام : ( يا معشر الشيعة إنكم قد نسبتم إلينا ، كونوا لنا زينا ، و لا تكونوا علينا شينا ) 18 .
من أوضح النصوص التي وردت عن أهل البيت عليهم السلام على دعوة شيعتهم أن يكونوا زيناً لهم و مرآة صافية لأخلاق أهل البيت و أن لا يكونوا عليهم شيناً .
هذا النص الذي خاطب شيعته و أوضح الإمام عليه السلام فيه أنكم منسوبون إلينا بأي شكل من الأشكال فلا بد أن تكونوا بمستوى المسؤولية و أن تنظروا إلى أئمتكم ما ذا يقولون فارووا عنهم محاسن كلامهم و أن تفعلوا مثل ما يفعلون .
مما يوجب المحبة و ذلك ؟
11 ـ التخلق بأخلاق أهل البيت عليهم السلام و العمل بها عند الخاص و العام .
12 ـ التحبب إلى الناس و معاملتهم بما يحب أن يعامله غيره به ففي الصحيح عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الباقر عليه السلام قَالَ : ( إِنَّ أَعْرَابِيّاً مِنْ بَنِي تَمِيمٍ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله فَقَالَ لَهُ أَوْصِنِي فَكَانَ مِمَّا أَوْصَاهُ تَحَبَّبْ إِلَى النَّاسِ يُحِبُّوكَ ) 19 .
13 ـ الإحسان إلى الآخرين حتى و إن كانوا من المخالفين له ففي الصحيح عَنْ حَرِيزٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ : قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : ( مَنْ خَالَطْتَ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ يَدُكَ الْعُلْيَا عَلَيْهِمْ فَافْعَلْ ) 20 .
14 ـ حفظ اللسان عن فضول الكلام فعن عبد الواحد بن المختار عن أبي جعفر عليه السلام قال : ( لو أن لألسنتكم أو كية لحدثت كل امرئ بما له ) 21 .
15 ـ تعلم علومهم بصورة صحيحة و تعليمها مخالفيهم حتى يتسنى لهم الإطلاع على علوم أهل البيت و يعرفوا ما عندهم .
16 ـ التحرز في نقل روايات أهل البيت عليهم السلام و أن تكون بصورة صحيحة . و قد دل على ذلك عدد من الروايات .
17 ـ غربلة تلك الأحاديث و تمييز الغث من السمين و يؤخذ بالذي عليه شاهد من القرآن و يترك ما خالفه . كما في كثير من الروايات .
18 ـ كتم أسرار أهل البيت التي لا يناسب بثها و قد دلت على ذلك مجموعة كبيرة من الروايات .
19 ـ التوقف عند الشبهات فيما ينسب إلى علومهم و أحاديثهم .
كما عن جابر قال دخلنا على أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام و نحن جماعة بعد ما قضينا نسكنا فودعناه و قلنا له أوصنا يا ابن رسول الله.
فقال : ( ليعن قويكم ضعيفكم و ليعطف غنيكم على فقيركم و لينصح الرجل أخاه النصيحة لنفسه و اكتموا أسرارنا .
و لا تحملوا الناس على أعناقنا و انظروا أمرنا و ما جاءكم عنا فإن وجدتموه للقرآن موافقا فخذوا به و إن لم تجدوه موافقا فردوه و إن اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده و ردوه إلينا حتى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا و إذا كنتم كما أوصيناكم لم تعدوا إلى غيره فمات منكم قبل أن يخرج قائمنا كان شهيدا و من أدرك منكم قائمنا فقتل معه كان له أجر شهيدين و من قتل بين يديه عدوا لنا كان له أجر عشرين شهيدا ) 22 .
وفي رواية الكليني مع اختلاف يسير قال : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ دَخَلْنَا عَلَيْهِ جَمَاعَةً فَقُلْنَا : يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ إِنَّا نُرِيدُ الْعِرَاقَ فَأَوْصِنَا .
فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : ( لِيُقَوِّ شَدِيدُكُمْ ضَعِيفَكُمْ وَ لْيَعُدْ غَنِيُّكُمْ عَلَى فَقِيرِكُمْ وَ لَا تَبُثُّوا سِرَّنَا وَ لَا تُذِيعُوا أَمْرَنَا وَ إِذَا جَاءَكُمْ عَنَّا حَدِيثٌ فَوَجَدْتُمْ عَلَيْهِ شَاهِداً أَوْ شَاهِدَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَخُذُوا بِهِ وَ إِلَّا فَقِفُوا عِنْدَهُ ثُمَّ رُدُّوهُ إِلَيْنَا حَتَّى يَسْتَبِينَ لَكُمْ وَ اعْلَمُوا أَنَّ الْمُنْتَظِرَ لِهَذَا الْأَمْرِ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ وَ مَنْ أَدْرَكَ قَائِمَنَا فَخَرَجَ مَعَهُ فَقَتَلَ عَدُوَّنَا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ عِشْرِينَ شَهِيداً وَ مَنْ قُتِلَ مَعَ قَائِمِنَا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسَةٍ وَ عِشْرِينَ شَهِيداً ) 23 .
وَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ ( عليه السلام ) أَنَّهُ أَوْصَى رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ أَنْفَذَهُ إِلَى قَوْمٍ مِنْ شِيعَتِهِ فَقَالَ لَهُ : ( بَلِّغْ شِيعَتَنَا السَّلَامَ وَ أَوْصِهِمْ بِتَقْوَى اللَّهِ الْعَظِيمِ وَ بِأَنْ يَعُودَ غَنِيُّهُمْ عَلَى فَقِيرِهِمْ وَ يَعُودَ صَحِيحُهُمْ عَلِيلَهُمْ وَ يَحْضُرَ حَيُّهُمْ جَنَازَةَ مَيِّتِهِمْ وَ يَتَلَاقَوْا فِي بُيُوتِهِمْ فَإِنَّ لِقَاءَ بَعْضِهِمْ بَعْضاً حَيَاةٌ لِأَمْرِنَا رَحِمَ اللَّهُ امْرِأً أَحْيَا أَمْرَنَا وَ عَمِلَ بِأَحْسَنِهِ .
قُلْ لَهُمْ إِنَّا لَا نُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِلَّا بِعَمَلٍ صَالِحٍ وَ لَنْ تَنَالُوا وَلَايَتَنَا إِلَّا بِالْوَرَعِ وَ إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمَنْ وَصَفَ عَمَلا ثُمَّ خَالَفَ إِلَى غَيْرِهِ ) 24 .
القاعدة الثانية : المداراة للمخالفين
في الصحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه و آله ) : ( أَمَرَنِي رَبِّي بِمُدَارَاةِ النَّاسِ كَمَا أَمَرَنِي بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ ) 25 .
إن مفهوم المدارات أخذ حيزاً كبيراً في أحاديث النبي صلى الله عليه و آله و أهل بيته الطاهرين في حث جميع الفئات و الأطراف على استعمالها و التزامها و في مقام ترجيح المدارات على المكاشفة جاء عَنِ الإمام الْبَاقِرِ عليه السلام أنه : سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ خَبِيثٍ قَدْ لَقِيَ مِنْهُ جُهْداً هَلْ تَرَى مُكَاشَفَتَهُ أَمْ مُدَارَاتَهُ فَكَتَبَ إِلَيْهِ : ( الْمُدَارَاةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْمُكَاشَفَةِ وَ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ) 26 .
إدخال السرور على الإمام الصادق
هل تريد إدخال السرور على الإمام الصادق عليه السلام ؟
و في معرض الإجابة : لا بد من تلمس الجواب من كلام الإمام نفسه و هو الصادق المصدق و يوجد هنا طائفة من الروايات فيها الصحاح و غيرها تتحدث عما يدخل السرور على قلب الإمام الصادق عليه السلام .
الصحيحة الأولى : صحيحة زيد الشحام التي صرحت بمفهوم إدخال السرور على الإمام عليه السلام و مما يتكون هذا المفهوم .
فقد جاء في الحديث الصحيح عَنْ أَبِي أُسَامَةَ زَيْدٍ الشَّحَّامِ قَالَ : قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ( يعني الإمام الصادق ) عليه السلام :
( اقْرَأْ عَلَى مَنْ تَرَى أَنَّهُ يُطِيعُنِي مِنْهُمْ وَ يَأْخُذُ بِقَوْلِيَ السَّلَامَ ، وَ أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ ، وَ الْوَرَعِ فِي دِينِكُمْ ، وَ الِاجْتِهَادِ لِلَّهِ ، وَ صِدْقِ الْحَدِيثِ ، وَ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ ، وَ طُولِ السُّجُودِ ، وَ حُسْنِ الْجِوَارِ ؛ فَبِهَذَا جَاءَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه و آله .
أَدُّوا الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكُمْ عَلَيْهَا بَرّاً أَوْ فَاجِراً ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه و آله كَانَ يَأْمُرُ بِأَدَاءِ الْخَيْطِ وَ الْمِخْيَطِ .
صِلُوا عَشَائِرَكُمْ ، وَ اشْهَدُوا جَنَائِزَهُمْ ، وَ عُودُوا مَرْضَاهُمْ ، وَ أَدُّوا حُقُوقَهُمْ ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ إِذَا وَرِعَ فِي دِينِهِ ، وَ صَدَقَ الْحَدِيثَ ، وَ أَدَّى الْأَمَانَةَ ، وَ حَسُنَ خُلُقُهُ مَعَ النَّاسِ ، قِيلَ هَذَا جَعْفَرِيٌّ ، فَيَسُرُّنِي ذَلِكَ وَ يَدْخُلُ عَلَيَّ مِنْهُ السُّرُورُ ، وَ قِيلَ هَذَا أَدَبُ جَعْفَرٍ .
وَ إِذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ دَخَلَ عَلَيَّ بَلَاؤُهُ ، وَ عَارُهُ ، وَ قِيلَ هَذَا أَدَبُ جَعْفَرٍ .
فَوَاللَّهِ لَحَدَّثَنِي أَبِي عليه السلام : أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَكُونُ فِي الْقَبِيلَةِ مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ عليه السلام فَيَكُونُ زَيْنَهَا آدَاهُمْ لِلْأَمَانَةِ ، وَ أَقْضَاهُمْ لِلْحُقُوقِ ، وَ أَصْدَقَهُمْ لِلْحَدِيثِ ، إِلَيْهِ وَصَايَاهُمْ ، وَ وَدَائِعُهُمْ ، تُسْأَلُ الْعَشِيرَةُ عَنْهُ فَتَقُولُ : مَنْ مِثْلُ فُلَانٍ إِنَّهُ لآَدَانَا لِلْأَمَانَةِ وَ أَصْدَقُنَا لِلْحَدِيثِ ) 27 .
هذه الصحيحة تتحدث عن ثلاثة أمور مهمة بمجموعها تحقق إدخال السرور على قلب الإمام الصادق عليه السلام :
الأمر الأول : إطاعة الإمام و الاستجابة له
و هذا من الأمور الضرورية التي لا يمكن أن تقطف أي ثمرة من توجيهات الإمام و نصائحه إلا بإطاعته و امتثال أوامره ؛ و يمكن أن يقسم أصحابه إلى قسمين :
القسم الأول :
المطيعين لأوامره و المنتهين بنواهيه و يحققون رغباته ، و إلى هؤلاء أشار لهم بالحديث و أنهم يدخلون السرور على قلبه . كما أنهم هم الموصفون بالإيمان في الحديث الصحيح الذي جاء عَنِ ابْنِ رِئَابٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ : ( إِنَّا لَا نَعُدُّ الرَّجُلَ مُؤْمِناً حَتَّى يَكُونَ لِجَمِيعِ أَمْرِنَا مُتَّبِعاً مُرِيداً ) .
القسم الثاني :
العاصين لأوامره و لا يسمعون كلامه و إنما ينتسبون إليه بمجرد الاسم و هؤلاء يجلبون إليه الحزن و الألم و يجرون عليه عارهم ـ كما عبر عليه السلام ـ و هذان القسمان لا يفرق بينهم سواء كان الإمام على قيد الحياة أم بعد وفاته .
الأمر الثاني : مفهوم التشيع عند الإمام الصادق عليه السلام
و يمكن لنا أن نقسم هذه الأحاديث إلى قسمين :
الأول : الأحاديث التي تحدث بها الإمام عن مفهوم التشيع و يربطها بالمنهج السلوكي لشيعته مع مخالفيه و أن هذا السلوك هو جزء من مفهوم التشيع .
الثاني : الأحاديث التي تحدث بها الإمام عن التشيع في نفسه ولم يتحدث فيها عن المنهج السلوكي لشيعته مع مخالفيهم .
أما القسم الأول : فهو يحتوي على أعداد كثيرة من الروايات الصحيحة و غيرها ، و فيها يتحدث الإمام عليه السلام عن تحقيق هذا المفهوم على الصعيد العملي ، و في هذا المضمار يوصي شيعته ، بعدة أمور و عناصر بمجموعها تشكل هذا المفهوم و تحققه على المستوى الخارجي و السلوكي للأمة ، و قد تحدثنا عن مفهوم التشيع عند الإمام الباقر عليه السلام بشكل مفصل ـ عند الحديث عن منهجه في التعامل مع مخالفيه ـ و الروايات عن الإمام الصادق عليه السلام حول هذا الموضوع متطابقة مع روايات أبيه مع الاختلافات في بعض التفصيلات و سوف نشير إلى بعضها .
و في ما يرجع إلى هذه الصحيحة أشارت إلى ما يلي :
1 ـ تقوى الله .
2 ـ الورع في الدين.
3 ـ الاجتهاد لله .
4 ـ صدق الحديث .
5 ـ أداء الأمانة للبر و الفاجر .
6 ـ طول السجود .
7 ـ حسن الجوار .
الأمر الثالث : منهج الشيعة و سلوكهم مع مخالفيهم
و في هذا الجانب عرض الإمام عليه السلام عدة عناصر بمجموعها تشكل منهجاً واضحا في سلوك الشيعة مع مخالفيهم سواء كان في هذه الصحيحة أو بقية الصحاح والأخبار الأخرى ، كما سوف نشير إلى ذلك .
من هذه العناصر التي أشار لها الإمام في هذه الصحيحة ما يلي :
1 ـ صلة عشائرهم .
2 ـ شهادة جنائزهم .
3 ـ عيادة مرضاهم .
4 ـ أداء حقوقهم بشكل عام .
5 ـ أداء أماناتهم .
6 ـ حسن أخلاق الشيعة معهم .
المفهوم الصحيح للتشيع و الربط بين الأمرين الأخيرين :
ثم ربط الإمام عليه السلام في هذه الصحيحة بين بعض عناصر مفهوم التشيع القائم على الورع و التقوى و الاجتهاد لله و بين المنهج الذي طرحه لشيعته مع مخالفيهم ولزوم العمل به وأنهما يشكلان معا المفهوم الصحيح للتشيع و ذلك :
1 ـ إعطاء صورة حسنة للمنتسبين إلى جعفر بن محمد عليه السلام فيقال هذا جعفري .
2 ـ إعطاء صورة حسنة للإمام الصادق عليه السلام في نظر من لا يعرفه و من يخالفه فقها و فكراً و أخلاقاً .
3 ـ عدم تشويه سمعة أهل البيت .
إن المنتسبين إلى الإمام الصادق عليه السلام إذا لم يكونوا على مستوى المسئولية ولم يتصفوا بصفات الشيعة التي يريدها الإمام ولم ينهجوا النهج الذي رسمه لهم في سلوكهم مع مخالفيهم فسوف يجرون البلاء و العار على الإمام أمام مخالفيه و من لا يعرفه ، و تلك التصرفات الخاطئة و المشينة من أصحابه و المنتسبين إليه تنسب إلى الإمام عليه السلام ولو في نظر من لا يعرفه فيقال هذا ( أدب جعفر )
كل ذلك بسبب بعض التصرفات من بعض الشيعة الذين يحملون هذا الاسم بدون استحقاق .
4 ـ بمجموع ما تقدم يحصل إدخال السرور على قلب الإمام الصادق عليه السلام و تحقيق أعظم المكاسب للأمة الإسلامية بصورة عامة و لأهل البيت عليهم السلام و مذهبهم بصورة خاصة و ذلك بتحبيب الإمام الصادق عليه السلام لمخالفيه و تعريف مذهبه لهم .
بقية الأدلة
و حول هذا الترابط بين مفهوم التشيع الصحيح عند الإمام الصادق عليه السلام و بين المنهج الذي يجب على الشيعة أن يسيروا عليه مع مخالفيهم يوجد روايات متعددة تتطابق مع هذه الصحيحة و منها : الدليل الثاني صحيحة ابن رئاب :
تحدثت هذه الصحيحة عن عنوان من هو المؤمن ؟
فقد جاء في الحديث الصحيح عَنِ ابْنِ رِئَابٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ : ( إِنَّا لَا نَعُدُّ الرَّجُلَ مُؤْمِناً حَتَّى يَكُونَ لِجَمِيعِ أَمْرِنَا مُتَّبِعاً مُرِيداً أَلَا وَ إِنَّ مِنِ إتِّبَاعِ أَمْرِنَا وَ إِرَادَتِهِ الْوَرَعَ فَتَزَيَّنُوا بِهِ يَرْحَمْكُمُ اللَّهُ وَ كَبِّدُوا [و كيدوا خ ل ] أَعْدَاءَنَا بِهِ يَنْعَشْكُمُ اللَّهُ ) 28 .
هذه الصحيحة : تقول أن الشيعي المؤمن لا يكون مؤمناً حقاً إلا إذا كان متصفاً بالورع و هذا أحد العناوين المتقدمة في مفهوم التشيع ثم ربط الإمام بين الورع الذي هو زينة لمن اتصف به و أكد على الشيعة أن يتصفوا به و بين منهج الشيعة مع مخالفيهم و في هذه الصحيحة ذكر أمرين :
الأمر الأول : أشار الإمام عليه السلام بأنه يجب أن تكونوا أعلى و أحسن من مخالفينا و ذلك بالتحلي بالورع و أشار إلى ذلك بكلمة ( كيدوا ) أو ( كبدّوا ) على حسب اختلاف النسخ :
أما على النسخة الأولى و هي التي رجحها المجلسي .
فقال عليه السلام : [و كيدوا ] أَعْدَاءَنَا بِهِ . قال العلامة المجلسي : في أكثر النسخ بالياء المثناة أي حاربوهم بالورع لتغلبوا ، أو ادفعوا به كيدهم سمي كيداً مجازاً أي الورع يصير سبباً لكف ألسنتهم عنكم و ترك ذمهم لكم ، أو احتالوا بالورع ليرغبوا في دينكم كما مر في قوله عليه السلام : ( كونوا دعاة ) إلخ ، و كأنه أظهر .
النسخة الثاني : ( وَ كَبِّدُوا أَعْدَاءَنَا بِهِ ) قال المجلسي : و في بعض النسخ بالباء الموحدة المشددة من الكبد بمعنى الشدة و المشقة أي أوقعوهم في الألم و المشقة لأنه يصعب عليهم ورعكم و الأول أكثر و أظهر 29 .
الأمر الثاني : قوله ( يَنْعَشْكُمُ اللَّهُ ) أي يرفعكم في الدنيا و الآخرة لأن أنعشه الله أي رفعه .
و الخلاصة أن الإمام في هذه الصحيحة كالصحيحة السابقة ربط بين مفهوم التشيع و بين منهج الشيعة مع المخالفين الذي يجب أن يتصفوا به و هو الورع ، و نتيجة ذلك هو أن الله سينعشهم في الدنيا و الآخرة .
الدليل الثالث : صحيحة ابن أبي يعفور
ففي الحديث الصحيح عَنِ ابْنِ أَبِي يَعْفُورٍ قَالَ : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام :
( كُونُوا دُعَاةً لِلنَّاسِ بِغَيْرِ أَلْسِنَتِكُمْ لِيَرَوْا مِنْكُمُ الْوَرَعَ وَ الِاجْتِهَادَ وَ الصَّلَاةَ وَ الْخَيْرَ فَإِنَّ ذَلِكَ دَاعِيَةٌ ) 28 .
محل الاستشهاد في هذه الصحيحة بقوله ( كُونُوا دُعَاةً لِلنَّاسِ بِغَيْرِ أَلْسِنَتِكُمْ ) ففيها حمَّل الإمام شيعته الدعوة إليهم بحسن السلوك و الاتصاف بالمواصفات المتقدمة التي تشكل مفهوم التشيع و أن هذه المواصفات هي في حد ذاتها داعية إلى أهل البيت عليهم السلام أي تعرف بقية المسلمين عليهم .
الدليل الرابع : صحيحة زيد الشحام
ففي الحديث الصحيح عَنْ أَبِي أُسَامَةَ [ زيد الشحام ] قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام يَقُولُ :
( عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ ، وَ الْوَرَعِ ، وَ الِاجْتِهَادِ ، وَ صِدْقِ الْحَدِيثِ ، وَ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ ، وَ حُسْنِ الْخُلُقِ ، وَ حُسْنِ الْجِوَارِ ، وَ كُونُوا دُعَاةً إِلَى أَنْفُسِكُمْ بِغَيْرِ أَلْسِنَتِكُمْ ، وَ كُونُوا زَيْناً وَ لَا تَكُونُوا شَيْناً ، وَ عَلَيْكُمْ بِطُولِ الرُّكُوعِ ، وَ السُّجُودِ ؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَطَالَ الرُّكُوعَ وَ السُّجُودَ هَتَفَ إِبْلِيسُ مِنْ خَلْفِهِ وَ قَالَ يَا وَيْلَهُ أَطَاعَ وَ عَصَيْتُ وَ سَجَدَ وَ أَبَيْتُ ) 30 .
قوله عليه السلام ( كُونُوا زَيْناً وَ لَا تَكُونُوا شَيْناً )
هذا العنوان من العناوين المهمة و العظيمة التي أكد عليها الأئمة في كلماتهم مع شيعتهم و ناشدوهم أن يتصفوا بكل حسن و يبتعدوا عن كل قبيح يشوه سمعتهم ، و هذا يكشف لنا عمق الترابط بين الشيعة و أئمتهم و أن سلوكيات الشيعة تنعكس على أئمتهم سلباً أو إيجابا .
فهذه الصحيحة تشبه الروايات الصحيحة المتقدمة إلى حد كبير من طرح مفهوم التشيع الذي يريده الإمام الصادق عليه السلام في ضمن مواصفات ذكرها و ربط بينها و بين منهج الشيعة مع مخالفيهم و أنهما يكونان عنصراً مهما .
قال العلامة المجلسي : ( وَ كُونُوا دُعَاةً ) أي كونوا داعين للناس إلى طريقتكم المثلى و مذهبكم الحق بمحاسن أعمالكم ، و مكارم أخلاقكم ؛ لأن الناس إذا رأوكم على سيرة حسنة و هدى جميل نازعتهم أنفسهم إلى الدخول فيما ذهبتم إليه من التشيع و تصويبكم فيما تقلدتم من طاعة أئمتكم عليهم السلام .
( وَكُونُوا زَيْناً ) أي زينة لنا ( وَ لَا تَكُونُوا شَيْناً ) أي عيباً و عاراً علينا 31 .
و يؤيد الأخبار الصحيحة المتقدمة حول الترابط بين التشيع الصحيح و بين سلوك و منهج الشيعة مع مخالفيهم أخبار أخر لا مجال لذكرها الآن .
و الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على محمد و آله الطيبين الطاهرين .
- 1. الكافي ج 8 ص 229 حديث 293 رواه ثقة الإسلام الكليني عن حميد بن زياد ، و ثقه النجاشي و الشيخ الطوسي و غيرهما ، عن الحسن بن محمد ، و المراد به ابن سماعة ، و ثقه النجاشي صريحاً ، عن وهيب بن حفص ، و ثقه النجاشي و الشيخ الطوسي ، عن أبي بصير و هو ثقة سواء كان يحيى بن القاسم أو ليث بن البختري فكـلاهما ثقة .
- 2. a. b. ـ شرح الأخبار ـ القاضي النعمان المغربي ج 3 ص 506 .
- 3. القران الكريم : سورة آل عمران ( 3 ) ، الآية : 159 ، الصفحة : 71 .
- 4. القران الكريم : سورة طه ( 20 ) ، الآية : 2 ، الصفحة : 312 .
- 5. القران الكريم : سورة القصص ( 28 ) ، الآية : 56 ، الصفحة : 392 .
- 6. الأربعون حديثاً ص 385 .
- 7. مستدرك الوسائل ج : 8 ص 316ح9537 .
- 8. وسائلالشيعة ج : 12 ص : 6 .
- 9. وسائلالشيعة ج : 7 ص : 84 حديث 8792 عن الكافي ج 2 ص 354 حديث 1 و قرب الإسناد ص 171 مثله .
- 10. القران الكريم : سورة هود ( 11 ) ، الآية : 74 ، الصفحة : 230 .
- 11. القران الكريم : سورة هود ( 11 ) ، الآية : 75 ، الصفحة : 230 .
- 12. القران الكريم : سورة الممتحنة ( 60 ) ، الآية : 8 ، الصفحة : 550 .
- 13. إقبال الأعمال ص : 213 .
- 14. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 137 ، الصفحة : 21 .
- 15. مستدركالوسائل ج : 12 ص : 277 .
- 16. مستدركالوسائل ج : 12 ص : 278 حديث 14091 .
- 17. ـ شرح الأخبار ـ القاضي النعمان المغربي ج 3 ص 507 ح1456 .
- 18. مشكاة الأنوار : 67 .
- 19. وسائلالشيعة ج : 12 ص : 52 ح15518 .
- 20. وسائلالشيعة ج : 12 ص 9 .
- 21. بحار الأنوار ج : 2 ص : 75 .
- 22. بشارة المصطفى ص : 113 .
- 23. الكافي ج : 2 ص 222 .
- 24. مستدرك الوسائل ج : 8 ص311ح9523 .
- 25. الكافي ج : 2 ص 117 .
- 26. مستدركالوسائل ج : 9 ص : 35 ح 10135 .
- 27. الكافي ج : 2 ص : 636 .
- 28. a. b. الكافي ج : 2 ص : 78 .
- 29. مرآة العقول ج 8 ص 64 .
- 30. الكافي ج : 2 ص : 77 .
- 31. مرآة العقول ج 8 ص 61 .