بسم الله الرحمن الرحيم
بقلم: زكريَّا بركات
محرم 1444 هـ/
أغسطس 2022م
تمهيد:
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ…) النساء: 59 ، وقال تبارك وتعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً) النساء: 83 .
من الواضح ـ بأدنى تدبُّر ـ أنَّ المقصود بأولي الأمر في كلتا الآيتين هو معنًى واحد، ونتناول ـ أوَّلاً ـ فوائد مستقاة من الآيتين الكريمتين في سبيل فهم المعنى المقصود من أولي الأمر وتحديد مصاديقه بالاستناد إلى الكتاب والسنَّة.
الفوائد المستقاة من الآيتين الكريمتين:
الفائدة الأولى (عظمةُ أولي الأمر وسموُّ مكانتهم عند الله تعالى) :
يُستفاد من الآيتين الكريمتين أنَّ أولي الأمر بمستوى سامٍ جدًّا من العظمة روحيًّا ومعنويًّا، بحيث يضاهئون أو يُدانون ـ في منزلتهم ومكانتهم ـ منزلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم.. والوجهُ في استفادة ذلك أنَّ الآية 59 من السورة جعلتهم مقترنين بالله تعالى وبرسول الله (ص) في فرض الطاعة، كما إنَّ الآية 83 جعلتهم مقترنين برسول الله (ص) في لزوم الردِّ إليهم بوصفهم المرجعيَّة للأمَّة الإسلاميَّة. وعظمة الله تعالى غنيَّة عن التوضيح، فمن يقترن بالله تعالى في فرض الطاعة فلا ريب في عظمته وسموِّ منزلته، كما إنَّ تدبُّر مقام رسول الله (ص) في القرآن الكريم يوضِّح لنا مقام المقترنين به في فرض الطاعة والمرجعيَّة، فرسول الله (ص) هو المُخرج للنَّاس من الظُّلمات إلى النُّور: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) [إبراهيم: 1] ، وطاعته علامة طاعة الله تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ) [النساء: 80] ، والهدايةُ تتوقَّف على طاعته: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) [النور: 54] ، وهو الأولى بالمؤمنين من أنفسهم: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [الأحزاب: 6] ، ومن لم يتَّبعه كان منقلباً على عقبيه: (لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) [البقرة: 143] .
الفائدة الثانية (الدلالة على أنَّ أولي الأمر علماءُ ربَّانيُّون) :
إنَّ الدين عبارة عن منظومة متكاملة من التعاليم التي تتكفَّل تحقيقَ سعادة البشريَّة لو أنَّها التزمت بها، وحين يفرض الله تعالى طاعة أولي الأمر بصورة مطلقة بالاقتران مع فرض طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا يستلزم القول بأنَّ أولي الأمر علماء ربَّانيون، لأنَّ من لا يكون كذلك فلا وجه لفرض طاعته بصورة مطلقة بالاقتران مع طاعة الله وطاعة رسوله، إذ إنَّ الهدف المنشود من الكتاب السنَّة ـ بما يشتملان عليه من تعاليم ـ هو تعليم الناس وتزكيتهم والارتقاء بهم في سُلَّم العبوديَّة والقرب من الله تبارك وتعالى، فيلزم أن تكون الطاعةُ المجعولة لأولي الأمر بعد المفروغيَّة من إحاطتهم العلميَّة الكاملة ـ ومن دون أدنى خلل ـ بالكتاب والسنَّة اللَّذين يُعبِّران عن منظومة الدين كلِّه، وإلَّا لكانت طاعة أولي الأمر ثغرةً توجب الإخلال بالتزام العباد بمنظومة الدين؛ نظراً إلى أنَّ الجاهل أو العالم الذي يشتمل علمُه على خلل أو نقص، كثيراً ما تصدر منه أوامرُ غير موافقة لمضمون التعاليم التي تتضمَّنها منظومةُ الدين كتاباً وسنَّةً.. فإيجاب طاعة أولي الأمر بصورة مطلقة مع الاقتران بإيجاب طاعة الله والرسول دليل واضح على أنَّ أولي الأمر علماء ربَّانيون يحيطون علماً بمنظومة الدين كتاباً وسنَّةً إحاطةً كاملةً لا يشوبها خللٌ أو نقصٌ.
ونقصد بوصف الربَّانيين: كونهم أمناءَ ذوي استقامة سامية جدًّا، لأنَّ العالم ـ مهما كانت إحاطته ـ لا يكون مُحقِّقاً لهدفيَّة الهداية ـ حقًّا ـ إلَّا إذا كان عاملاً بعلمه، مؤدِّياً ما عليه بغير أدنى خلل، وحينئذ يصلح إيجاب طاعته بصورة مطلقة بالمقارنة مع إيجاب طاعة الله والرسول. هذا كله بالاستناد إلى الآية 59 من سورة النساء.
وبالإستناد إلى الآية 83 من السورة نفسها، وسواء قلنا إنَّ المستنبطين هم أولو الأمر أنفسهم كما اختاره جماعة من المفسِّرين، أو قلنا إنَّ المستنبطين هم المحصِّلون للعلم عن طريق الردِّ إلى أولي الأمر كما اختاره آخرون، فعلى كلِّ حالٍ يكون أولو الأمر مصدراً لتحصيل العلم وتحقُّقه بدلالة (لَعَلِمَهُ الَّذينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) ، ونظراً إلى فرض مرجعيَّتهم في الردِّ بالاقتران مع رسول الله (ص) يتَّضح أنَّ أولي الأمر في مستوى علمي وروحيٍّ سامٍ جدًّا بحيث ناسب ذكر مرجعيَّتهم والردِّ إليهم بالاقتران مع رسول الله (ص) .
نكتفي بهذا القدر لهذه الحلقة، وتليها حلقة ثانية إن شاء الله تعالى.
والحمد لله ربِّ العالمين.