مقالات

آية إكمال الدين…

نص الشبهة: 

قال الله تعالى : ﴿ … يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ .

هل نزلت الآية في وسط أحكام اللحوم ؟!
أول ما يفاجؤك غرابة مكان الآية ! فقد رووا أنها نزلت في حجة الوداع آية مستقلة لا جزء آية ، وها هي في القرآن جزء من آية اللحوم وكأنها حشرت حشراً فيها ، بحيث لو رفعتها لما نقص من معنى الآية شئ ، بل اتصل السياق !
ثم كيف نفسر هذا التناقض حيث قال سبحانه : ﴿ … الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ … ﴾ ، أي تمَّت الأحكام ، ثم يقول بعدها : ﴿ … فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ … ﴾  . ثم يواصل تنزيل أحكام اللحوم ، والصيد ، وطعام أهل الكتاب ، وأحكام الزواج والنساء ! فكيف أكمل دينه ، ولم يكمله ؟!

قال في الدر المنثور : 2 / 257 و59 : ( عن ابن عباس . . فلما كان واقفاً بعرفات نزل عليه جبريل وهو رافع يده والمسلمون يدعون الله : ﴿ … الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ … ﴾ ، يقول حلالكم وحرامكم فلم ينزل بعد هذا حلالٌ ولا حرامٌ . . عن السدي في قوله : ﴿ … الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ … ﴾  ، قال : هذا نزل يوم عرفة فلم ينزل بعدها حرامٌ ولا حلالٌ ) . فهل السياق بأمر النبي صلى الله عليه و آله ؟ أم أن الآية وضعت هنا في وسط آية ، باجتهاد بعض الصحابة ؟!

باختصار : حيث لا توجد قرينة داخلية أو خارجية على اتصال السياق هنا ، فلا يمكن ربط الآية بما قبلها أو بعدها .

الجواب: 

الأقوال الثلاثة في تفسير آية إكمال الدين

1 ـ قول أهل البيت عليهم السلام

أنها نزلت يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجة ، في رجوع النبي صلى الله عليه و آله من حجة الوداع ، عندما أمره الله تعالى أن يوقف المسلمين في غدير خم ويبلغهم ولاية علي عليه السلام ، فأوقفهم وبلغهم ما أمره به ربه . وهذه نماذج من أحاديثهم عليهم السلام :
ما تقدم من الكافي : 1 / 289 ، عن الإمام الباقر عليه السلام قال : ” وكانت الفريضة تنزل بعد الفريضة الأخرى ، وكانت الولاية آخر الفرائض ، فأنزل الله عز وجل : ﴿ … الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي … ﴾ 1″ ، قال أبو جعفر عليه السلام : ” يقول الله عز وجل : لا أنزل عليكم بعد هذه فريضة ، قد أكملت لكم الفرائض ” . وفي الكافي : 1 / 198 : ( عن عبد العزيز بن مسلم قال : كنا مع الرضا عليه السلام بمرو ، فاجتمعنا في الجامع يوم الجمعة في بدء مقدمنا ، فأداروا أمر الإمامة وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها ، فدخلت على سيدي عليه السلام فأعلمته خوض الناس فيه ، فتبسم عليه السلام ثم قال : ” يا عبد العزيز جهل القوم وخدعوا عن آرائهم ، إن الله عز وجل لم يقبض نبيه صلى الله عليه و آله حتى أكمل له الدين ، وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كل شئ ، بين فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام ، وجميع ما يحتاج إليه الناس كملاً فقال عز وجل : ﴿ … مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ … ﴾ 2، وأنزل في حجة الوداع وهي آخر عمره صلى الله عليه و آله : ﴿ … الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا … ﴾ 1، وأمر الإمامة من تمام الدين ، ولم يمض صلى الله عليه و آله حتى بين لأمته معالم دينهم وأوضح لهم سبيلهم وتركهم على قصد سبيل الحق ، وأقام لهم علياً عليه السلام عَلَماً وإماماً ، وما ترك شيئاً تحتاج إليه الأمة إلا بينه ، فمن زعم أن الله عز وجل لم يكمل دينه فقد رد كتاب الله ، ومن رد كتاب الله فهو كافر به ! هل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأمة ، فيجوز فيها اختيارهم ؟! إن الإمامة أجل قدراً وأعظم شأناً وأعلى مكاناً وأمنع جانباً وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بعقولهم أو ينالوها بآرائهم أو يقيموا إماماً باختيارهم . . . إن الإمامة خصَّ الله عز وجل بها إبراهيم الخليل عليه السلام بعد النبوة والخلة مرتبةً ثالثة وفضيلة شرفه بها وأشاد بها ذكره فقال : ﴿ … إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا … ﴾ 3، فقال الخليل عليه السلام سروراً بها : ﴿ … وَمِنْ ذُرِّيَّتِي … ﴾ 3؟ قال الله تبارك وتعالى : ﴿ … لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ 3، فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة ، وصارت في الصفوة عليهم السلام . .” ) .

2 ـ قول السنيين الموافق لأهل البيت عليهم السلام

وقد رووا حديث الغدير بعشرات الروايات وفيها صحاح من الدرجة الأولى ، جمعها بعض علمائهم كالطبري المؤرخ في كتابه ( الولاية ) فبلغت طرقها ونصوصها مجلدين ، وابن عقدة وابن عساكر وغيرهم . وتنص على أن النبي صلى الله عليه و آله دعا علياً وأصعده معه على المنبر ورفع يده حتى بان بياض إبطيهما وبلَّغَ الأمة ما أمره الله تعالى فيه ، وأمر المسلمين أن يهنؤوه ويبايعوه ، وقال له عمر : بخ بخ لك يابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة ! . . .إلخ . ونص بعضها على أن آية إكمال الدين نزلت يومها بعد خطبة النبي صلى الله عليه و آله . لكن أن أكثر علمائهم لم يقبلوا أحاديث نزولها يوم الغدير ، مع أنهم صححوا أحاديث الغدير ، والسبب أنهم أخذوا بقول عمر ومعاوية ، أنها نزلت يوم عرفة ! فحديث الغدير عندهم محل إجماع ونزول آية إكمال الدين فيه محل خلاف .
أما علماؤنا فجمع عدد منهم أحاديث الغدير وآياته ، ومن أشهرهم : النقوي الهندي في عبقات الأنوار ، والسيد المرعشي في شرح إحقاق الحق ، والسيد الميلاني في نفحات الأزهار ، والشيخ الأميني في كتابه الغدير ، وقد أورد عدداً من روايات السنيين في نزول الآية يوم الغدير وهذه خلاصة ما ذكره رحمه الله : ( ومن الآيات النازلة يوم الغدير في أمير المؤمنين عليه السلام قوله تعالى : ﴿ … الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا … ﴾ 1. ثم أورد عدداً من المصادر التي روتها ، منها :
1 ـ الحافظ أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في كتاب ( الولاية ) بإسناده عن زيد بن أرقم نزول الآية الكريمة يوم غدير خم في أمير المؤمنين عليه السلام . . .
2 ـ الحافظ ابن مردويه الأصفهاني ، من طريق أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري . . .ثم رواه عن أبي هريرة .
3 ـ الحافظ أبو نعيم الأصبهاني ، في كتابه ( ما نزل من القرآن في علي ) . . .عن أبي سعيد الخدري : أن النبي ( ص ) دعا الناس إلى علي في غدير خم ، وأمر بما تحت الشجرة من الشوك فقمَّ ، وذلك يوم الخميس فدعا علياً فأخذ بضبعيه فرفعهما ، حتى نظر الناس إلى بياض إبطي رسول الله ، ثم لم يتفرقوا حتى نزلت هذه الآية : ﴿ … الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ … ﴾ 1. الآية . إلخ .

4 ـ الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في تاريخه : 8 / 290 ، عن أبي هريرة عن النبي ( ص ) : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فقال عمر بن الخطاب : بخٍ بخ ٍيا بن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مسلم ، فأنزل الله : ﴿ … الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ … ﴾ 1. الآية .

5 ـ الحافظ أبو سعيد السجستاني ، في كتاب الولاية ، عن أبي سعيد الخدري . . .
6 ـ أبو الحسن ابن المغازلي الشافعي ، في مناقبه عن أبي هريرة . . .
7 ـ الحافظ الحاكم الحسكاني ، عن أبي سعيد الخدري : إن رسول الله صلى الله عليه و آله لما نزلت هذه الآية : ﴿ … الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ … ﴾ 1، قال : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة و رضى الرب برسالتي وولاية علي بن أبي طالب من بعدي .

8 ـ الحافظ ابن عساكر الشافعي الدمشقي ، بطريق ابن مردويه ، عن أبي سعيد وأبي هريرة 4 .
9 ـ أخطب الخطباء الخوارزمي ، في المناقب / 80 . . . عن أبي سعيد الخدري أنه قال : إن النبي صلى الله عليه و آله يوم دعا الناس إلى غدير خم أمر بما كان تحت الشجرة من الشوك فقمَّ ، وذلك يوم الخميس ثم دعا الناس إلى علي ، فأخذ بضبعه فرفعها حتى نظر الناس إلى إبطيه ، حتى نزلت هذه الآية : ﴿ … الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ … ﴾ 1. الآية . . . 5 .

10 ـ أبو الفتح النطنزي روى في كتابه الخصايص العلوية ، عن أبي سعيد الخدري وجابر الأنصاري . . .
11 ـ أبو حامد سعد الدين الصالحاني ، عن مجاهد قال : نزلت هذه الآية : ﴿ … الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ … ﴾ 1بغدير خم ، فقال رسول الله : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي والولاية لعلي . رواه الصالحاني .

12 ـ شيخ الإسلام الحمويني الحنفي ، روى في فرايد السمطين في الباب الثاني عشر ، قال . . ) 6 .

3 ـ قول عمر ومعاوية أنها نزلت يوم عرفة

وهو القول المشهور عند السنيين ، رواه بخاري في صحيحه : 1 / 16 : أن رجلاً من اليهود قال لعمر : ( يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً ! قال : أيَّةُ آية ؟ قال : ﴿ … الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا … ﴾ 1. قال عمر : قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي ( ص ) وهو قائم بعرفة ، يوم جمعة ) . ونحوه في : 5 / 127 ، وفيه : ( وهو واقف في عرفة . . . قالت اليهود لعمر : إنكم تقرؤون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً ! فقال عمر : إني لأعلم حيث أنزلت وأين أنزلت ، وأين رسول الله ( ص ) حين أنزلت ، يوم عرفة وأنا والله بعرفة . قال سفيان : وأشك كان يوم الجمعة ، أم لا ) . وفي بعضها أن اليهودي كعب الأحبار .

وقلدت مصادر السنيين الرسمية رواية بخاري هذه ، وتعصب لها علماؤهم ، ولم يَصْغَوْا لرد النسائي وسفيان الثوري وغيرهما أن يكون يوم عرفة في حجة الوداع يوم جمعة ! ولا لرواياتهم الصحيحة المتقدمة المؤيدة لرأي أهل البيت عليهم السلام ! فيكفي عندهم أن يقول عمر إنها لم تنزل يوم الغدير ، بل في عرفات قبل الغدير بتسعة أيام ، فهو مقدم على كل اعتبار !
قال السيوطي في الإتقان : 1 / 75 ، في الآيات التي نزلت في السفر : ( منها : ﴿ … الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ … ﴾ 1. في الصحيح عن عمر أنها نزلت عشية عرفة يوم الجمعة عام حجة الوداع ، وله طرقٌ كثيرة لكن أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري : أنها نزلت يوم غدير خم . وأخرج مثله من حديث أبي هريرة ، وفيه أنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة مرجعه من حجة الوداع . وكلاهما لايصح ) 7 .

أما لماذا لا يصح فلأنه عمر قال غيره ! وهذا هو الموقف العام لمذاهب الخلافة ، فهم يقولون بصحة حديث الغدير ، لكن الآية نزلت قبله ولم تنزل فيه ، حتى لو خالفه الحساب والتاريخ والجغرافيا !
ومن المتعصبين لرأي عمر في الآية : ابن كثير ، وخلاصة كلامه في تفسيره : 2 / 14 : ( عن السدي : نزلت هذه الآية يوم عرفة ، ولم ينزل بعدها حلالٌ ولا حرامٌ . وقال ابن جرير وغير واحد : مات رسول الله ( ص ) بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوماً ، رواهما ابن جرير ) .
ثم ذكر ابن كثير رواية مسلم وأحمد والنسائي والترمذي المتقدمة وقال : ( قال سفيان : وأشك كان يوم الجمعة أم لا . وشك سفيان رحمه الله إن كان في الرواية فهو تورُّعٌ حيث شك هل أخبره شيخه بذلك أم لا ، وإن كان شكاً في كون الوقوف في حجة الوداع كان يوم جمعة فهذا ما أخاله يصدر عن الثوري فإن هذا أمر معلومٌ مقطوعٌ به لم يختلف فيه أحدٌ من أصحاب المغازي والسير ولا من الفقهاء ، وقد وردت في ذلك أحاديث متواترة لا يشك في صحتها والله أعلم . وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن عمر . وقال ابن جرير . . عن قبيصة يعني ابن أبي ذئب قال : قال كعب : لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيداً يجتمعون فيه ! فقال عمر : أيُّ آيةٍ يا كعب ؟ فقال : ﴿ … الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ … ﴾ 1، فقال عمر : قد علمت اليوم الذي أنزلت والمكان الذي أنزلت فيه نزلت في يوم الجمعة ويوم عرفة وكلاهما بحمد الله لنا عيدٌ . . . وقال ابن جرير . . حدثنا عمرو بن قيس السكوني أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر ينتزع بهذه الآية : ﴿ … الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ … ﴾ 1، حتى ختمها فقال : نزلت في يوم عرفة ، في يوم جمعة . . وقال ابن جرير : وقد قيل ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس ! ثم روى من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : ﴿ … الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ … ﴾ 1، يقول ليس بيوم معلوم عند الناس . قال : وقد قيل إنها نزلت على رسول الله ( ص ) في مسيره إلى حجة الوداع ) . ثم قال ابن كثير : ( قلت : وقد روى ابن مردويه من طريق أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري أنها نزلت على رسول الله ( ص ) يوم غدير خم حين قال لعلي : من كنت مولاه فعلي مولاه . ثم رواه عن أبي هريرة ، وفيه أنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة يعني مرجعه ( ص ) من حجة الوداع . ولا يصح لا هذا ولا هذا بل الصواب الذي لاشك فيه ولا مرية أنها أنزلت يوم عرفة وكان يوم جمعة كما روى ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وأول ملوك الإسلام معاوية بن أبي سفيان ، وترجمان القرآن عبد الله بن عباس ، وسمرة بن جندب ، وأرسله الشعبي ، وقتادة بن دعامة ، وشهر بن حوشب ، وغير واحد من الأئمة والعلماء ، واختاره ابن جرير ) . انتهى .

وتلاحظ أن ابن كثير لا يريد الإعتراف بوجود تشكيكٍ في أن يوم عرفة كان يوم جمعة لأن ذلك يخالف قول عمر ، ولذلك التفَّ على نفي سفيان الثوري معتذراً بأنه تقوى واحتياط من الثوري ! ولم يذكر ما رواه النسائي ، والطبري في تفسيره : 4 / 111 ، قال : ( ثنا داود قال قلت لعامر : إن اليهود تقول : كيف لم تحفظ العرب هذا اليوم الذي أكمل الله لها دينها فيه ؟ فقال عامر : أوَما حفظته ؟ قلت له : فأي يوم ؟قال : يوم عرفة أنزل الله في يوم عرفة ! وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية أعني قوله : ﴿ … الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ … ﴾ 1، يوم الإثنين وقالوا : أنزلت سورة المائدة بالمدينة . ذكر من قال ذلك . . .عن ابن عباس . . . وأنزلت سورة المائدة يوم الإثنين : ﴿ … الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ … ﴾ 1.).

آية إكمال الدين نزلت يوم الغدير وليس في عرفات !

نشكر الله أن المحدثين رووا كثيراً عن الوداع الرسولي المهيب ، الذي تم بإعلانٍ ربانيٍّ مسبق ، وإعدادٍ نبوي واسع ، وإن كانوا ضيعوا في أحاديثه هوية الأئمة الإثني عشر ، وكثيراً مما يتعلق بالعترة عليهم السلام .
وقد سجلوا حركة النبي صلى الله عليه و آله من المدينة ، والأماكن التي مر بها أو توقف فيها ، ومتى دخل مكة وأدى المناسك ، ثم حركة رجوعه صلى الله عليه و آله حتى دخل إلى المدينة , وعاش فيها نحو شهرين هي بقية عمره الشريف صلى الله عليه و آله . وكله يؤكد قول أهل البيت عليهم السلام ، ونجمل ذلك في نقاط :
أولاً : إن التعارض بين ما دلَّ على سبب نزول الآية ، ليس بين حديثين أحدهما أصح سنداً وأكثر طرقاً ، كما صور أو تصور ابن كثير والسيوطي والطبري وغيرهم ، بل تعارضٌ بين حديث نبوي رواه أهل البيت عليهم السلام وعدد من الصحابة ، وبين قولٍ لعمر ومعاوية رواه عنه بخاري وغيره ولم يسندوه إلى النبي صلى الله عليه و آله !
ولو تنزلنا وقلنا إن أحاديث أهل البيت أقوال لهم عليهم السلام يكون التعارض بين قول صحابي وقول أئمة أهل البيت عليهم السلام ، ولا شك في أن قولهم مقدم بحكم وصية النبي صلى الله عليه و آله بهم وأنهم عِدْلُ القرآن وأحد الثقلين ، بالحديث الصحيح المتواتر ، كالذي رواه أحمد : 3 / 14 : ( عن أبي سعيد قال رسول الله ( ص ) : إني تاركٌ فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله حبلٌ ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ) 8 .
ثانياًً : إن جواب عمر لليهودي غير مقنعٍ لليهودي ولا للمسلم !
لأنه إن قصد أن نزولها صادف يوم جمعة ويوم عرفة ! فيقول له اليهودي : إن كان ربكم لا يعلم أنه يوم عيد فيا ويلكم من عبادته ! وإن يعلم فكيف أنزل عيد إكمال الدين على عيد أو اثنين ، وهو يعلم أنهما سيأكلانه ؟! فلماذا خرَّب عليكم ربكم هذا العيد ؟!
وإن قصد عمر أن عيد إكمال الدين أدغم وصار مشتركاً في يوم واحد مع عيد عرفة والجمعة ، فأين هو إلا عند الشيعة ؟!
وأسوأ من ذلك أن يكون قصده أنه تعالى تعمد تذويب عيد إكمال الدين ، أو نسي فأنزله في يوم عيد ، فتدارك المسلمون الأمر بالدمج والإدغام أو التنصيف ! فمن الذي اتخذ قرار الإدغام ؟ ومن يحق له أن يدغم عيداً إلهياً في عيد آخر ، أو يطعم عيداً ربانياً لعيد آخر ؟!
وما بال الأمة الإسلامية لم يكن عندها خبر بحادثة اصطدام الأعياد في عرفات حتى جاء هذا اليهودي في خلافة عمر ونبههم ، فأخبره عمر بأنه يوافقه على كل ما يقوله ، وأخبر المسلمين بقصة تصادم الأعياد في عرفات ، وأن الحكم الشرعي فيه الإدغام لمصلحة العيد السابق ، أو إطعام العيد اللاحق للسابق !
وهل هذه الأحكام للأعياد أحكامٌ إسلامية ربانية ، أم عمرية اعتباطية شبيهاً بقانون تصادم الأعياد الوطنية والدينية ، أو تصادم السيارات ؟!
لقد اعترف عمر بالمشكلة التي طرحها اليهودي ، لكنه لم يحلها !
ثم رتب عليها أحكاماً من عنده لم يقل إنه سمعها من النبي صلى الله عليه و آله !
وأصل مشكلته أنه اعترف بأن يوم نزول الآية يوم عظيمٌ ومهمٌّ في دين الإسلام ، لأنه يوم أكمل الله فيه تنزيل الإسلام وأتمَّ فيه النعمة على أمته ، وأنه يستحق أن يكون عيداً شرعياً للأمة تحتفل فيه وتجتمع فيه كبقية أعيادها الشرعية الثلاث : الفطر والأضحى والجمعة ، بل ادعى أنه عيد فعلاً ! ووافق كعباً على أنه لو كان عند أمة أخرى لأعلنته عيداً ربانياً شرعياً . وعليه يجب أن يكون عيد إكمال الدين شرعياً في فقه السنيين ، يضاف إلى عيدي الفطر والأضحى وعيد الجمعة ، فأين هو ؟!
ثالثاً : إن قول عمر في الآية مردود لأنه متناقض ! فقد فهم هذا اليهودي من الآية أن الله أكمل تنزيل الإسلام وختمه يوم نزول الآية وقبل عمر منه هذا التفسير ، ومعناه أن نزولها بعد نزول جميع الفرائض والأحكام ، فصح عنده ما قاله أهل البيت عليهم السلام وما قاله السدي وابن عباس وغيرهما من أنه لم تنزل بعدها فريضةٌ ولا حكم .
ثم قال عمر وبسند صحيح : لكن نزل بعدها آيات الكلالة وأحكام الإرث وغيرها ،كما يأتي في بحث آخر ما نزل من القرآن ، فوجب أن يقول لليهودي : ليست الآية آخر ما نزل ليكون يومها عيداً !
ومن ناحية ثانية ، فتح عمر على نفسه وأتباعه فقهاء المذاهب المطالبة بعيد الآية ! الذي لا عين له ولا أثر ولا إسم ولا رسم عندهم !
ومن ناحية ثالثة ، نقض عمر إجماع المسلمين على أن الأعياد الإسلامية توقيفية ، ولا يجوز لأحد أن يشرع عيداً من نفسه ؟!
فحجة الشيعة في جعل يوم الغدير عيداً أنهم رووا عن النبي صلى الله عليه و آله أن يوم الآية عيدٌ شرعي ، وأن جبرئيل أخبره بأن الأنبياء عليهم السلام كانوا يأمرون أممهم أن تتخذ يوم نصب الوصي عيداً . فما هي حجة عمرفي تأييد كلام اليهودي وموافقته على أن ذلك اليوم يستحق أن يكون عيداً شرعياً للأمة ! ثم أخذ يعتذر له بمصادفة نزولها في يوم عيد . .الخ .!
فإن كان حَكَمَ بذلك من عند نفسه فهو تشريع وبدعة ! وإن كان سمعه من النبي صلى الله عليه و آله فلماذا لم يروه ولا رواه غيره ، إلا الشيعة ؟!
والواقع أن عمر تورط في ( آية علي بن أبي طالب ) من نواح عديدة ولم يخرج من ورطتها ، ولا أتباعه ، الى يومنا هذا !
رابعاًً : الرواية عن عمر متعارضة ، وهذا يوجب سقوطها ، فقد رووا عنه بسند صحيح أن يوم عرفة كان يوم خميس ! ( قال يهودي لعمر : لو علينا نزلت هذه الآية لاتخذناه عيداً : ﴿ … الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ … ﴾ 1! قال عمر : قد علمت اليوم الذي أنزلت فيه والليلة التي أنزلت ، ليلة الجمعة ونحن مع رسول الله بعرفات ) ! 9 .

خامساًً : جزم سفيان الثوري جازماً أن يوم عرفة في حجة الوداع لم يكن يوم جمعة ! قال بخاري في روايته : ( قال سفيان وأشك كان يوم الجمعة أم لا ) . وإنما قال ( وأشك ) مداراة لجماعة عمر الذين رتبوا كل أحداث حجة الوداع وأحداث التاريخ الإسلامي على أن يوم عرفات كان يوم جمعة ! وستأتي رواية النسائي في ذلك وتوافقها روايات نصت على أن الآية نزلت يوم الإثنين ، ففي دلائل البيهقي : 7 / 233 : ( عن ابن عباس قال : ولد نبيكم صلى الله عليه و آله يوم الإثنين ، ونبئ يوم الإثنين ، وخرج من مكة يوم الإثنين ، وفتح مكة يوم الإثنين ، ونزلت سورة المائدة يوم الإثنين : ﴿ … الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ … ﴾ 1، وتوفي يوم الإثنين ) .

قال في الزوائد : 1 / 196 : ( رواه أحمد والطبراني في الكبير وزاد فيه : وفتح بدراً يوم الإثنين ، ونزلت سورة المائدة يوم الإثنين : ﴿ … الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ … ﴾ 1، وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف ،وبقية رجاله ثقات من أهل الصحيح ) .

وعلة الحديث عندهم مخالفته لعمر ، وليس ابن لهيعة الذي وثقه عدد منهم ، وللحديث طرقٌ بدون ابن لهيعة ، وقد صرح بذلك السيوطي وابن كثير ! قال في سيرته : 1 / 198 : ( تفرد به أحمد ورواه عمرو بن بكير عن ابن لهيعة ، وزاد : نزلت سورة المائدة يوم الإثنين : ﴿ … الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ … ﴾ 1، وهكذا رواه بعضهم عن موسى بن داود به ، وزاد أيضاً : وكانت وقعة بدر يوم الإثنين . وممن قال هذا يزيد بن حبيب ، وهذا منكرٌ جداً ! قال ابن عساكر : والمحفوظ أن بدراً ونزول : ﴿ … الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ … ﴾ 1، يوم الجمعة ، وصدق ابن عساكر ) . ومعنى ( منكر ) أنه مخالف لعمر ، ومعنى ( المحفوظ ) أي الرسمي الذي يُدَرِّسونه لرواتهم !

واخيراً ، إن إشكالنا عليهم بأحاديث نزول الآية يوم الإثنين ، إلزامٌ لهم بما صححوه ، وإلا فالمعتمد عندنا أنها نزلت يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجة وأن وفاته صلى الله عليه و آله كانت في الثامن والعشرين من صفر ، فتكون الفاصلة بينهما نحو سبعين يوماً . وعندنا أن بعثته صلى الله عليه و آله كانت يوم الإثنين وصلى عليٌّ عليه السلام معه يوم الثلاثاء ، ووفاته صلى الله عليه و آله يوم الإثنين ، وقد تكون سورة المائدة نزلت يوم الإثنين أي أكثرها ، ثم بقيتها ومنها آيتا التبليغ وإكمال الدين .
سادساً : أن عيد المسلمين يوم الأضحى وليس عرفة ، لكن عمر جعله يوم عرفة ، وهو بميزان الوهابية بدعة ! فعلى رواية النسائي أن الآية نزلت ليلة عرفة ، لا يبقى عيد حتى يصطدم به العيد النازل ، ولا يحتاج الأمر إلى إدغام الأعياد أو تنصيفها ، كما ادعى عمر !
سابعاً : لو كان يوم عرفة يوم جمعة كما صححوا عن عمر ، لصلى النبي صلى الله عليه و آله بالمسلمين صلاة الجمعة ، بينما لم يروِ أحدٌ أنه صلاها في عرفات ، وأجمعوا على أنه صلى الظهر والعصر كالنسائي وغيره ! وقد وضع في سننه : 1 / 290 ، عنواناً بإسم ( الجمع بين الظهر والعصر بعرفة ) روى فيه عن جابر بن عبد الله قال : ( سار رسول الله ( ص ) حتى أتى عرفة . . . ثم أذن بلال ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئاً ) ! وفي رواية أبي داود : 1 / 429 : ( فجمع بين الظهر والعصر ) . .
فلو كان عرفة يوم جمعة ولم يصلها النبي صلى الله عليه و آله لذكر ذلك ألوف المسلمين الذين حضروا حجة الوداع !
ثامناً : تورط علماء الجرح والتعديل السنيون في حديث أبي هريرة الذي رواه الخطيب والحسكاني وابن عساكر وابن المغازلي وابن كثير والخوارزمي بأسانيد عن أبي هريرة ، في أن آية إكمال الدين نزلت يوم غدير خم بعد خطبة النبي صلى الله عليه و آله ووصيته الأمة بالقرآن والعترة ، وبعد أن رفع يد علي عليه السلام وأعلنه خليفة من بعده ! فقد روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه و آله أمرهم أن يصوموا ذلك اليوم شكراً لله تعالى ، قال : ( من صام يوم ثماني عشرة من ذي الحجة كتب له صيام ستين شهراً ، وهو يوم غدير خم لما أخذ النبي ( ص ) بيد علي بن أبي طالب فقال : ألست ولي المؤمنين ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : من كنت مولاه فعلي مولاه . فقال عمر بن الخطاب بخٍ بخٍ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مسلم ! فأنزل الله عز وجل : ﴿ … الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا … ﴾ 110 .

وسبب تحيرهم أنهم لا يمكنهم الطعن في سند الحديث ، لأن رجاله موثقون من رجال الصحاح ! ولا يمكنهم قبوله لأن عمر أنكر أن تكون الآية نزلت في يوم الغدير وقال نزلت قبله بأيام ! بينما أبو هريرة ينسف كل ذلك وينسف السقيفة ويقول : نزلت ولاية علي من الله تعالى وبلغها النبي صلى الله عليه و آله فنزلت آية إكمال الدين ، وهنأه عمر وبخبخ له !
وعادة المتعصبين لعمر عندما يقعون في مأزق أن يفقدوا توازنهم ويردوا الحديث النبوي المخالف لقول عمر حتى ( دفعاً بالصدر ) وهو مصطلح لمن رد حديثاً بلا حجة تشبيهاً له بمن يدفع أحداً في صدره ! ويصفون الحديث بأنه منكر أو مكذوب لأنه يخالف قول عمر ، كما فعل الذهبي وابن كثير ! قال السيد حامد النقوي في خلاصة عبقات الأنوار : 7 / 246 : ( رويّ حديث صوم يوم الغدير بطريق صحيح رجاله كلهم ثقات ، فقد أخرج الحافظ الخطيب ، عن عبد الله بن علي بن محمد بن بشران ، عن علي بن عمر الدار قطني ، عن أبي نصر حبشون الخلال ، عن علي بن سعيد الرملي ، عن ضمرة بن ربيعة ، عن عبد الله بن شوذب ، عن مطر الوراق عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال : من صام يوم ثمان عشر من ذي الحجة كتب له صيام ستين شهراً ، وهو يوم غدير خم . .الخ . ) . وعدَّد الأميني رحمه الله في الغدير : 1 / 236 ، ستة عشر من علماء السنة رووا الحديث ، وقال : ( رواية أبي هريرة صحيحة الإسناد عند أساتذة الفن ، منصوص على رجالها بالتوثيق . . . وحديث أبي سعيد له طرق كثيرة كما مر في كلام الحمويني في فرائده ، على أن الرواية لم تختص بأبي سعيد وأبي هريرة فقد عرفت أنها رواها جابر بن عبد الله ، والمفسر التابعي مجاهد المكي ، والإمامان الباقر والصادق صلوات الله عليهما ، وأسند إليهم العلماء مخبتين إليها . . . وقد سمعت عن السيوطي نفسه في دره المنثور رواية الخطيب وابن عساكر وعرفت أن هناك جمعاً آخرين أخرجوها بأسانيدهم مثل الحاكم النيسابوري ، والحافظ البيهقي ، والحافظ ابن أبي شيبة ، والحافظ الدارقطني ، والحافظ الديلمي ، والحافظ الحداد وغيرهم ، كل ذلك من دون غمز فيها من أي منهم ) .انتهى . فكلام ابن كثير وشيخه الذهبي غير صحيح ، أما العجلوني 11 فكان أكثر إنصافاً منهما فنقل تكذيب الذهبي للحديث بدليل واه ولم يؤيده ولا ذكر أسانيده الصحيحة !
أما من طرقنا فروته مصادرنا المعتبرة ، كأمالي الصدوق / 50 ، والكافي : 4 / 148 ، ونحوه الفقيه : 2 / 90 ، وتهذيب الأحكام : 4 / 305 ، وثواب الأعمال / 74 .
تاسعاً : قالت بعض رواياتهم إن النبي صلى الله عليه و آله عاش بعد نزول الآية إحدى وثمانين ليلةً ، وهذا ينفي أن يكون يوم عرفة يوم جمعة ! فوفاة النبي صلى الله عليه و آله عندهم في الثاني عشر من ربيع الأول ، فيكون من 9 ذي الحجة إلى 12 ربيع الأول أكثر من تسعين يوماً ! فإما أن يوافقونا على رواية وفاته قبل ذلك وأنها في28 صفر ، أو يوافقونا على نزول الآية يوم الغدير 18 ذي الحجة ! قال في الدر المنثور : 2 / 259 : ( عن ابن جريج قال : مكث النبي ( ص ) بعد ما نزلت هذه الآية إحدى وثمانين ليلة ، قوله : ﴿ … الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ … ﴾ 1) 12 .

عاشراً : القول بأن يوم عرفة كان يوم جمعة ، تنفيه الروايات التي سجلت حركة النبي صلى الله عليه و آله من المدينة وأنها كانت الخميس لأربعٍ بقين من ذي القعدة . وهو المشهور عن أهل البيت عليهم السلام وهو منسجم مع تاريخ نزول الآية في يوم الغدير الثامن عشر من ذي الحجة . فسفر النبي صلى الله عليه و آله كان يوم الخميس السابع والعشرين من ذي القعدة ، لأربع بقين من ذي القعدة هي : الخميس والجمعة والسبت والأحد . . فيكون أول ذي الحجة الإثنين ، ووصول النبي صلى الله عليه و آله إلى مكة عصر الخميس سلخ الرابع من ذي الحجة كما نصت رواية الكافي : 4 / 245 ، ويوم عرفة الثلاثاء ، والغدير الخميس الثامن عشر من ذي الحجة . ففي الوسائل : 9 / 318 : ( خرج رسول الله صلى الله عليه و آله لأربعٍ بقين من ذي القعدة ، ودخل مكة لأربعٍ مضين من ذي الحجة ، دخل من أعلى مكة من عقبة المدنيين ، وخرج من أسفلها ) .
وفي الكافي : 4 / 245 : ( عن أبي عبد الله عليه السلام قال : حج رسول الله صلى الله عليه و آله عشرين حجة . . .إن رسول الله أقام بالمدينة عشر سنين لم يحج ثم أنزل الله عز وجل عليه : ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ 13، فأمر المؤذنين أن يؤذنوا بأعلى أصواتهم بأن رسول الله صلى الله عليه و آله يحج في عامه هذا ، فعلم به من حضر المدينة وأهل العوالي والأعراب . . .فخرج رسول الله صلى الله عليه و آله في أربع بقين من ذي القعدة فلما انتهى إلى ذي الحليفة زالت الشمس فاغتسل . . .حتى انتهى إلى مكة في سلخ أربع من ذي الحجة فطاف بالبيت سبعة أشواط ) . وفي المسترشد / 119 : ( عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه و آله دعا الناس إلى علي عليه السلام بغدير خم وأمر بما كان تحت الشجرة من الشوك فَقُمَّ ، وذلك يوم الخميس ، ثم دعا الناس وأخذ بضبعيه ورفعه حتى نظر الناس إلى بياض إبطيه ، ثم لم يتفرقوا حتى نزلت هذه الآية : ﴿ … الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا … ﴾ 1، فقال رسول الله صلى الله عليه و آله : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ، ورضى الرب برسالتي وبالولاية لعلي من بعدي ) . انتهى .

ويؤيد قول أهل البيت عليهم السلام رواية عيون الأثر : 2 / 341 ، أن سفر النبي صلى الله عليه و آله كان الخميس ، وما روته مصادر الفريقين من أنه صلى الله عليه و آله كان لا يبدأ سفره إلا يوم خميس ، أو قلما يبدؤه في غيره 14 .
ويؤيده روايتهم عن جابر أن حركته صلى الله عليه و آله كانت لأربعٍ بقين من ذي القعدة كما في سيرة ابن كثير . وأن بخاري وأكثر الصحاح رووا أن سفره صلى الله عليه و آله كان لخمسٍ بقين من ذي القعدة بدون تحديد يوم 15 .
ويؤيده أن مدة سيره صلى الله عليه و آله من المدينة إلى مكة لاتزيد على ثمانية أيامٍ وذلك بملاحظة الطريق الذي سلكه ، وهو في حدود400كيلومتراً وملاحظة سرعة السير حتى أن بعض الناس شكوا له تعب أرجلهم فعلمهم النبي صلى الله عليه و آله أن يشدوها ! وأن أحداً لم يرو توقفه في طريق مكة أبداً . وبذلك تسقط رواية خروجه من المدينة لستٍّ بقين من ذي الحجة ، كما في عمدة القاري ، وإرشاد الساري ، وهامش الحلبية : 3 / 257 لأنها تستلزم أن تكون مدة السير إلى مكة عشرة أيام !
وبهذا يتضح تكلف المخالفين حيث اعتمدوا رواية ( خمس بقين من ذي القعدة ) وحاولوا تطبيقها على يوم السبت ليجعلوا أول ذي الحجة الخميس ، ويجعلوا يوم عرفة يوم الجمعة تصديقاً لقول عمر ! بل كانوا ملكيين أكثر من الملك لأنه روي عنه أنه الخميس 16 .
والنتيجة : أن القول بنزول آية إكمال الدين في يوم عرفة ، ترد عليه إشكالاتٌ عديدةٌ ، في منطقه وتاريخه وتوقيته ، وكلها تستوجب تركه وعدم الأخذ به ، فيكون رأي أهل البيت عليهم السلام ومن وافقهم في سبب نزولها بدون معارض معتد به ، لأن المعارض الذي لايستطيع النهوض كعدمه ، والمتن الكسيح لا ينهضه السند الصحيح !

عيد الغدير عيدٌ سنيٌّ أيضاً

ختاماً : إن المجمع عليه عند المسلمين أن يوم نزول الآية عيدٌ إلهيٌّ عظيم ( عيد إكمال الدين وإتمام النعمة ) . بل ورد عن أهل البيت عليهم السلام أنه أعظم الأعياد الإسلامية على الإطلاق ، ودليله المنطقي أن العيد الأسبوعي للمسلمين مرتبط بصلاة الجمعة ، وعيد الفطر بعبادة الصوم ، وعيد الأضحى بعبادة الحج . أما هذا العيد فهو مرتبطٌ بإتمام الله تعالى نعمة الإسلام كله على الأمة ، وقد تحقق في رأي السنيين بتنزيل أحكام الدين وإكمالها بدون تعيين رباني لقيادة الأمة . وتحقق برأينا بإكمال تنزيل الأحكام وحل مشكلة القيادة وإرساء نظام الإمامة في عترة خاتم النبيين صلى الله عليه و آله إلى يوم القيامة . فالكل المسلمين متفقون على أنه عيدٌ شرعي ، فلماذا تخسر الأمة أعظم أعيادها ، ولا يكون له ذكر في مناسبته ولا مراسم تناسب شرعيته وقداسته ؟! ولماذا لا يحييه أتباع المذاهب السنية بالشكل الذي ينسجم مع عقيدتهم وفقه مذاهبهم ؟! 17 .

  • 1. a. b. c. d. e. f. g. h. i. j. k. l. m. n. o. p. q. r. s. t. u. v. w. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 3، الصفحة: 107.
  • 2. القران الكريم: سورة الأنعام (6)، الآية: 38، الصفحة: 132.
  • 3. a. b. c. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 124، الصفحة: 19.
  • 4. الدر المنثور : 2 / 259 .
  • 5. وروى في المناقب / 94 .
  • 6. الغدير : 1 / 230 .
  • 7. ونحوه الدر المنثور : 2 / 259 .
  • 8. ورواه أيضاً في : 3 / 17 و 26 و 59 ، و 4 / 366 ، و 371 ، والدارمي : 2 / 431 ، ومسلم 7 / 122 ، والحاكم على شرط الشيخين ، و : 3 / 109 و148 ، وغيرهم .
  • 9. رواه النسائي : 5 / 251 ، وروى في : 8 / 114 ، أنها نزلت في عرفات يوم جمعة !
  • 10. تاريخ دمشق : 42 / 233 ، وغيره .
  • 11. كشف الخفاء : 2 / 258 .
  • 12. ونحوه البيهقي في شعب الإيمان : 2 / 257 . وفي تلخيص الحبير بهامش مجموع النووي : 7 / 3 : عن ابن جريح أنه ( ص ) لم يبق بعد نزول قوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم ، إلا إحدى وثمانين ليلة . والطبراني في الكبير برقم 12984 ، وتفسير الطبري : 4 / 106 ، عن ابن جريح قال : مكث النبي صلى الله عليه و آله بعد ما نزلت هذه الآية إحدى وثمانين ليلة . وراجع الغدير : 1 / 230 .
  • 13. القران الكريم: سورة الحج (22)، الآية: 27، الصفحة: 335.
  • 14. بخاري : 4 / 6 ، وأبو داود : 1 / 586 .
  • 15. راجع صحيح بخاري : 2 / 146 و184 و187 و4 / 7 وفيه : وقدم مكة لأربع ليال خلون من ذي الحجة ، والنسائي : 1 / 154 و208 و5 / 121 ، ومسلم : 4 / 32 ، وابن ماجة : 2 / 993 ، والبيهقي : 5 / 33 ، وغيرها .
  • 16. لاحظ ابن سعد في الطبقات : 2 / 124 ، والواقدي في المغازي : 2 / 1089 ، وتاريخ الطبري : 3 / 148 ، وتاريخ الذهبي : 2 / 701 ، وهامش السيرة الحلبية : 3 / 3 ، وغيرهم . وقد حاول ابن كثير الدفاع عن هذا القول الحكومي ، وارتكب التكلف والمصادرة ، راجع سيرته : 4 / 217 .
  • 17. تفسير آيات الغدير الثلاث ، الشيخ علي الكوراني العاملي ، مركز المصطفى للدراسات الإسلامية برعاية المرجع الديني الأعلى السيد السيستاني ، الناشر : دار الهدى ـ قم ، الطبعة الأولى ، سنة 1427 ، ص 39 ـ 61 .
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى