نور العترة

الترف العلمي…

كثيراً ما يُسأل العلماء وطلبة العلوم الدينية عن تفاصيل مرتبطة بالأمور الشخصية لصاحب الزمان عليه السلام ، فيُسألون : هل هو متزوج أو لا ؟ وهل عنده أبناء وبنات وأحفاد ، أو لا ؟ وأين يسكن ؟ وهل صحيح ما يقال : إنه يسكن في الجزيرة الخضراء التي يظن بعض الناس أنها تقع في مثلث برمودا ؟ ومن الذي سيتولى تجهيزه بعد موته ، والصلاة عليه ؟


أو يسألون عن حروبه سلام الله عليه ، وأنه هل سيحارب خصومه بالسيف والأسلحة القديمة ، أو سيحاربهم بالأسلحة الحديثة المتطورة ؟ وهل سيستفيد صاحب الزمان عليه السلام من التكنولوجيا الحديثة في الاتصالات وغيرها ؟ وهل عنده تكنولوجيا متطورة تفوق التكنولوجيا التي نعرفها ؟
وهذه الأسئلة وغيرها وإن كانت تنم عن حرص واهتمام بمعرفة كل التفاصيل المتعلقة بحياة الإمام المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف وشخصيته ، وهو أمر حسن ، إلا أن الأهم منه أن يتزود المؤمن بثقافة صحيحة وراسخة ومعرفة بالأمور المهمة المتعلقة بصاحب الزمان عليه السلام ، بحيث يستطيع إقامة الأدلة الصحيحة على ولادته ، وإثبات وجوده في هذا الزمان ، والتدليل على أنه عليه السلام إمام المسلمين وخليفتهم في هذا العصر ، ويتمكن من دحض شبهات الخصوم التي تحاك حول طول عمر الإمام عليه السلام ، وغيبته أكثر من ألف ومائة عام ، وتوليه مهام الإمامة وهو صبي صغير ، وغير ذلك مما ذكره خصوم الشيعة ، وأجاب عنه علماء الطائفة قديماً وحديثاً في كتبهم ومصنفاتهم ، وذلك لأنه لا يضر الجهل بالجوانب الشخصية في حياة الإمام صاحب الزمان عليه السلام ، بخلاف معرفة إمامته عليه السلام في هذا العصر ، فإنها واجبة لوجوب طاعته عليه السلام على كل واحد من المسلمين ، وطاعته لا تتحقق من دون معرفته .
ويذكرني طرح مثل هذه المسائل بشريحة من الناس الذين لديهم ولع شديد بطرح المسائل الغريبة ، أو المسائل التي يظنون أنها مبتكرة ، وأنها لا تخطر على أذهان عامة الناس ، مع أنها في حقيقتها لا تفيد في شيء ، ولا تترتب عليها أي منفعة في الوقت الحاضر ، ولا ينبغي إشغال النفس بالبحث فيها ، وتضييع وقت العالم بها .
وأذكر أنني قرأت في كتاب (الأزهار الفرجية) للعلامة الجليل الشيخ فرج العمران رحمه الله قصة حدثت في منطقتنا ، مفادها أن جماعة اختلفوا في أن الله تعالى هل خلق الدجاجة قبل البيضة ، أو البيضة قبل الدجاجة ؟ فاجتمع رأيهم على أن يسألوا عالم بلدهم ، وكان الوقت ليلاً ، فجاؤوا إليه وأزعجوه بطرق بابه في هذا الوقت المتأخر ، فلما أجابهم لم يقبلوا قوله .
وحدثني أحد طلبة العلم أن رجلاً جاء إلى مجلس مرجع الشيعة آية الله العظمى السيد الخوئي قدس سره ، فسأل السيد مرتضى الخلخالي رحمه الله عن الزواج بالجنية ، هل يجوز أو لا يجوز ؟ فقال له السيد : نحن إلى الآن لم نفرغ من مسائل الإنس ، وأنت تسأل عن مسائل الجن ؟
وسُئل أحد العلماء عن النثار الذي ألقي في زواج آدم وحواء عليهما السلام ، ما هو ؟ فأجاب بقوله : ذاك عرس ما حضرناه ، فلا علم لنا بنثاره!!
وروى شيخنا المفيد أعلى الله مقامه في كتاب الإرشاد ، ص 330 بسنده عن أبي الحكم قال : سمعت مشيختنا وعلماءنا يقولون : خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، فقال في خطبته : سلوني قبل أن تفقدوني ، فوالله لا تسألوني عن فئة تضل مائة وتهدي مائة إلا نبأتكم بناعقها وسائقها إلى يوم القيامة . فقام إليه رجل فقال : أخبرني كم في رأسي ولحيتي من طاقة شعر . فقام أمير المؤمنين عليه السلام وقال : والله لقد حدثني خليلي رسول الله صلى الله عليه وآله بما سألت عنه ، وإن على كل طاقة شعر في رأسك ملكاً يلعنك ، وعلى كل طاقة شعر في لحيتك شيطاناً يستفزك ، وإن في بيتك لسخلاً يقتل ابن رسول الله ، وآية ذلك مصداق ما خبرتك به ، ولولا أن الذي سألت عنه يعسر برهانه لأخبرتك به ، ولكن آية ذلك ما نبأت به عن لعنتك وسخلك الملعون .
ومن الواضح أن هذا الرجل كان يظن أن سؤاله لأمير المؤمنين عليه السلام كان سؤالاً محيِّراً ، وهذا نوع آخر من الناس الذين عندهم ولع بطرح المسائل التي يظن سائلها أنها مسائل (تعجيزية) ، وهي طريقة يحرص على ممارستها بعض أنصاف المثقفين ، ولا سيما عندما يلتقون بواحد من العلماء أو طلبة العلم ، فيحبون أن يسألوه المسائل التي لا يريدون بطرحها الفائدة العلمية ، أو مذاكرة العلم ، أو تصحيح المعلومات ، أو التأكد منها ، أو ما شاكل ذلك ، وإنما يريدون شيئاً آخر لا ينفعهم ، ولا ينفع غيرهم في شيء .
وكما أن العلم أمانة عظيمة يجب على العلماء باعتبارهم كفلاء أيتام آل محمد أن يؤدوها بصدق إلى عموم الشيعة الذين هم أيتام في زمان الغيبة ، فكذلك يجب على عوام الشيعة أن يسألوا العلماء تفقهاً ، وألا يسألوهم تعنتاً 1 .

  • 1. نشرت هذه المقالة في الموقع الرسمي لسماحة الشيخ علي آل محسن .
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى