نور العترة

الاستهجان…

بديهي أن مجرد استهجان أمرٍ من الأمور لا يصلح دائماً أساساً لردّه ، والحكم عليه بالبطلان ، إلا إذا نشأ هذا الاستهجان من آفة حقيقية يعاني منها النص في مدلوله ، توجب إثارة حالة من الشك والريب فيه .
أما إذا كان منشأ هذا الاستهجان هو عدم وجود تهيؤ نفسي وذهني لقبول أمر ما ، بسبب فقد الركائز والمنطلقات التي تساعد على توفر مناخ الوعي والاستيعاب للحقائق العالية ، والمعاني الدقيقة . . فان هذا الاستهجان لا يصلح أساساً لإيجاد ولو ذرّة من الشك ، والريب ، والتردد في صدقية النص ، أو في أي شيء مما يرتبط به .

ولنأخذ مثالاً على ذلك تلك الأمور التي ترتبط بمقامات الأولياء والأصفياء التي يحتاج وعيها وإدراك آثارها بعمق إلى سبق المعرفة اليقينية بمناشئها ومكوناتها .
وكذلك الحال فيما لو استند هذا الاستهجان الى افتراضات غير واقعية ، فيما يرتبط بالمؤثرات ، والبواعث والحوافز لنشوء حدث تاريخي مّا .
وفي كلتا هاتين الحالتين فان المطلوب هو الإعداد الصحيح ، والتشبث بالمعرفة اليقينية لكل العناصر المؤثرة في تكوين التصور السليم ، بعيداً عن أسر التصورات الارتجالية والخاطئة ، التي تدفع إلى الاستهجان غير المسؤول ، ثم إلى الرفض غير المنطقي ولا المقبول .
وإن الإعداد القوي والرصين لإنجاز عمل معرفي ، وتربية ايمانية ، وروحية ، وإعداد نفسي ، يهيّىء لتحقيق درجة من الانسجام بين المعارف الإيمانية ويقينياتها ، وبين ما ينشأ عنها من آثار وتجليات في حركة الواقع ، وفي الوعي الرسالي للأحداث نعم ، إن الإعداد لإنجاز هذا المهم يعتبر أمراً ضرورياً ولازماً ، وله مقام الأفضلية والتقدم بالقياس إلى ما عداه من مهام .
وبدون ذلك فإننا سنبقى نواجه حالة العجز عن التعبير الصادق والصريح عن تجليات الواقع ، واستجلاء آفاقه الرحبة .

الحقد و التآمر على عاشوراء

وإذا أردنا أن نقترب قليلاً من أحداث كربلاء الدامية . فإننا نشعر أنها مستهدفة من فئات شتى ، ولأهداف شريرة متنوعة ، بإثارتهم أجواء مسمومة حولها ، الأمر الذي يدعونا إلى المزيد من اليقظة والحذر ، ونحن نواجه هذه الموجة الحاقدة ، التي ترفع في أحيان كثيرة شعارات خادعة ، وعناوين طنّانة ورنّانة ، وتتخذ ـ أحياناَ ـ لبوس الإخلاص والغيرة ، للتستر على تآمرها القذر على هذا التراث الإيماني الزاخر بالعطاء الإلهي السني والمبارك .
ولكن . . ورغم كيد الخائنين ، ومكر أخدان الأبالسة والشياطين ، فان عاشوراء ستبقى الشوكة الجارحة التي تنغرس في أحداق عيونهم ، التي أعماها كيدهم اللئيم ، وطمسها حقدهم الخبيث الذميم .

لا بد من تحمّل المسؤولية

ونحن في نفس الوقت الذي نرفض فيه كل هذا المكر الشيطاني ، والحقد الإبليسي ، وكل هذا التجني على هذا الدين وأحكامه ، ورسومه وأعلامه ، فإننا نهيب بكل المخلصين من أبنائه أن يتحملوا مسؤولياتهم في الدفاع عنه بصدق وبوعي ، والعمل على قطع الطريق على كل أولئك الحاقدين والمتآمرين . وذلك عن طريق نشر المعارف الصحيحة ، وكشف زيف الشبهات التي يثيرونها ، بالأسلوب العلمي الهادئ والرصين ، وبالكلمة الرضيّة والمسؤولة .
وذلك يحتاج إلى التشمير عن ساعد الجدّ ، والعمل الدائب في مجالات البحث العلمي ، وتوفير وسائله وأدواته ، وإفساح المجال لأصحاب الأقلام الواعية والنزيهة ، والمخلصة للمشاركة في إنجاز هذا الواجب الذي هو في الحقيقة جهاد في سبيل الله سبحانه ، وما أشرفه وأجلّه من جهاد مبارك وميمون .

الحاقدون و هدم المنبر الحسيني

ولقد تفطّن أعداء عاشوراء في وقت مبكر جداً إلى أن أنجع الأساليب وأقواها فتكاً في محاربة عاشوراء الإمام الحسين عليه السلام ، هو : هدم المنبر الحسيني المبارك ، لأنهم أدركوا أن المنبر الحسيني هو الذي يربي الناس أخلاقياً ، وإيمانياً ، وسلوكياً ، وعاطفياً وعقائدياً ، وهو الذي يمدهم بالثقافات المتنوعة ، ويثير فيهم درجات من الوعي الرسالي ، ويعمق مبادئ عاشوراء في وجدانهم ، ويعيدهم إلى رحاب الفطرة الصافية ، وينشر فيهم أحكام الله ، ويربي وجدانهم وضميرهم الإنساني ، ويصقل مشاعرهم ، وينميّها ، ويغذيها بالمشاعر الجياشة ، والصادقة .
فإذا ما تم لهم تدمير المنبر الحسيني؛ فإنهم يكونون قد حرموا الناس من ذلك كله وسواه ، وكذلك حرموهم من ثواب إقامة هذه الشعيرة الإلهية ، وما أعظمه من ثواب ، واجلها من كرامة إلهية سنيّة .
وكان التشكيك بهذا المنبر الشريف ، وبما يقال فيه من أبسط وسائل التدمير ، وأقلها مؤونةً أعظمها أثراً ، وأشدها فتكاً .
ولقد كان الأنكى من ذلك كله ، والأدهى هو أن بعض من يفترض فيهم ان يكونوا حماة هذا الدين ، والذابين عن حريمه ، والمدافعين عن حياضه ، من العلماء ، الذين محضهم الناس حبهم ، وثقتهم ، واخلصوا لهم ، لا لأجل خصوصية مميزة في أشخاصهم ، وإنما حباً وإخلاصاً منهم لدينهم ومعتقداتهم ، التي يرون أنهم الأمناء عليها ، والحريصون على حفظها ونشرها .
إن هذا البعض قد أسهم عن غير عمد ـ وبعضهم عن عمد وقصد ـ في صنع هذه الكارثة ، التي من شأنها ان تأتي على كل شيء ، كالنار في الهشيم . فعملوا على إثارة شكوك الناس بخطباء هذا المنبر المقدس ، وفيما يقدمونه من ثقافة عاشورائية ، واتهموهم بالكذب ، وبالتحريف ، وبالافتعال المتعمد للأحداث ، كل ذلك ملفّع بأحكام عامة ، وبمطلقات غائمة ، وشعارات رنّانة ، يغدقونها بلا حساب إسهاماً منهم في زعزعة ثقة الناس بهذه المجالس ، الأمر الذي لا يمكن أن يصب إلا في خانة الخيانة للدين ، والاعتداء على عاشوراء ، وعلى الإمام الحسين عليه السلام في رسالته ، وفي أهدافه الجهادية والإيمانية الكبرى .
إن الطريقة التي توجه فيها التهم إلى قراء العزاء توحي للناس بأنهم ـ وحدهم ـ تجسيد للأمية والجهل ، ولقلة الدين ، ومثال حي لأناس يعانون من الخواء من الأخلاق النبيلة ، ومن الدين ، ومن الفضيلة ، ومن كل المعاني الإنسانية ، وان كل همهم يتجه إلى تزييف الحقائق ، وتزيين الخرافات ، والأباطيل ، واجتراح الأساطير للناس ، بلا كلل ولا ملل . .
ولنفترض وجود بعض الهنات فيما يقرؤونه ، ويقولونه ولسنا نجد من ذلك ما يستحق الذكر ، فان ذلك لا يبرر لنا اتهامهم بأنهم وراء وضع الأساطير والأباطيل ، لأنهم إنما ينقلون لنا ما وجدوه ، ويتلون علينا ما قرأوه ، فان كان ثمة من ذنب فإنما يقع على غيرهم دونهم .

حجم التزوير

وفي حين أننا لا ننكر وجود شاذ نادر حاول أن يزور ، أو يحرف أو يختلق أمراً ، أو أن ينسج من خياله تصويراً لمشهد بعينه ، لكننا نقول : إن هذا النوع من الناس في ندرته ، وفي قلته ، وفي حجم محاولاته ، وفي تأثيره أشبه بالشعرة البيضاء في الثور الأسود؛ فلا يمكن أن يبرر ذلك إطلاق تلك الأحكام العامة والشاملة الهادفة إلى نسف الثقة بكل شيء .
نقول هذا ، وكلنا شموخ واعتزاز لإدراكنا أن عاشوراء حدث هائل ، بدأت إرهاصاته منذ ولد ، وحتى قبل أن يولد الإمام الحسين عليه السلام ، واستمرت الارتجاجات التي أحدثها تتوالى عبر القرون والأحقاب ، ولسوف تبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
وقد اشتمل هذا الحدث نفسه بالإضافة إلى إرهاصاته ، وتردداته ، وآثاره ، على مئات الحوادث ، والتفصيلات ، والخصوصيات الصغيرة ، والكبيرة ، والمؤثرة على أكثر من صعيد ، وفي أكثر من مجال .
ولكن . . وبرغم هذا الاتساع والشمول ، فان أحداً لم يستطع ، ولن يستطيع ـ مهما بلغ به الجد ـ أن يثبت علمياً أياً من حالات التزوير أو الخرافة ، إلا الشاذ النادر الذي يكاد لا يشعر به أحد بالقياس إلى حجم ما هو صحيح وسليم ، رغم رغبة جهات مختلفة بالتلاعب بالحقيقة ، وبالتعتيم عليها ، وذلك لشدة حساسية هذا الحدث ، وتنوع مراميه ، وتشعب مجالاته ، واختلاف حالاته وتأثيراته .
وحتى ، الذين ينسب إليهم أنهم أسهموا في إثارة هذه الحملة الشعواء ، نجد أنهم يسجلون هذه الحقيقة بوضوح ، ويعتزون بها ، فيستشهد الكتاب المنسوب ( قد ألف هذا الكتاب بعد وفاته رحمه الله ، وجمع من كتابات ، ومتفرقات ، ومن أشرطة تسجيل كما سيأتي . . ) إلى الشهيد المطهري بكلام عن المرحوم الدكتور آيتي وهو : ” إن تأريخ أبي عبد الله الحسين عليه السلام يعتبر نسبة إلى كثير من التواريخ الأخرى تاريخاً محفوظاً من التحريف ، ومصاناً منه ” 1 .
وذلك إن دل على شيء فإنما يدل على أن الله سبحانه قد حفظ هذا الدم الزاكي ليكون هو الحافظ لهذا الدين ، وأراد له أن يبقى مصوناً صافياً نقياً إلى درجة ملفتة وظاهرة .
ويتجلى هذا اللطف الإلهيّ ، والعناية الربانية ، حين تفاجئنا الحقيقة المذهلة ، وهي انه حتى تلك الموارد النادرة جداً التي يدعيها هذا البعض لم تدخل في تاريخ كربلاء؛ لأنها قد جاءت مفضوحة إلى درجة أنها تضحك الثكلى ، وتدعو إلى الاشمئزاز والقرف .
وذلك من قبيل قولهم ـ كما سيأتي : أن عدد جيش يزيد في عاشوراء كان مليوناً وست مئة ألف مقاتل . وان الإمام الحسين عليه السلام قد قتل منهم بيده ثلاث مئة .ألف . وان طول رمح سنان بن أنس ، الذي يقال : انه احتز رأس الحسين عليه السلام كان ستين ذراعاً . وان الله قد بعثه إليه من الجنة . .
وظهر بذلك مصداق قول رسول الله صلى الله عليه وآله في الحسين عليه السلام : انه مصباح هدى ، وسفينة نجاة 2 .
فصدق الله ، وصدق رسوله ، وصدق أولياؤه الأبرار ، الطاهرون ، والأئمة المعصومون .

تمنيات

ويا ليت هذا الجهد الذي يصرفه ذلك البعض في سياق تشكيك الناس بالمنبر الحسيني قد صرفه و يصرفه باتجاه توطيد ثقة الناس بهذا المنبر ، ومضاعفة إقبالهم عليه ، ويا ليته يهتم أو يسهم ولو لمرة واحدة بعمل تحقيقي علمي ، يستند إلى الأرقام والدلائل والبراهين ، ويكف عن ممارسة النقد العشوائي ، والتجريح ، والقمع .
ويا ليته أيضاً ولو لمرة واحدة مارس عملياً تطوير أساليب المنبر الحسيني ، وعمل على رفع مستوى العطاء فيه ، وأسهم في تحاشيهم الوقوع في بعض السلبيات أو الأخطاء ، التي لم يزل يشنع بها على جميع أهل هذا المنبر ، والتي ربما تصدر عن قلّةٍ من خطبائه ، ممن لم تتوفر فيهم شروطه ولا بلغوا مستويات العطاء فيه . وإنما يلجأ الناس إليهم بسبب كثرة الحاجة ، وعدم توفر العدد الكافي لملء الفراغ في مئات المجالس ، خصوصا في أيام العشرة الأولى من شهر محرم .

لا يؤخذ البريء بالمسيء

وإن من أبده البديهيات أن المجرم هو الذي يعاقب ولا يؤخذ غيره بجرمه .
فلوا افترضنا أن أحداً من الخطباء قد أساء إلى هذا المنبر ، وارتكب من الأخطاء ما يفرض موقفاً بعينه ، فان المسؤولية الشرعية والإنسانية تقضي بحصر الأمر بخصوص ذلك الذي ارتكب هذا الأمر ، ولا يجوز بأي حال من الأحوال إطلاق الكلام بنحو يثير أية علامة استفهام على من عداه . .
فان كان ثمة من كَذَبَ وزوّر فليُذكَر لنا اسمه ، وان كان ثمة من اجترح الأساطير والخرافات فليُحدَّد للناس شخصه .

التهويل والإستنساب

وفي سياق آخر فقد نجد لدى أولئك الذين لا يمتلكون قدرة وجلداً على البحث ، والتحليل ، والتتبع ، والتمحيص توجهاً نحو أسلوب الاستنساب والمزاجية في اختيار النصوص ، ثم في عرض الأحداث وترصيفها ، وربط بعضها ببعض ، فضلاً عن تحديد مناشئها ، والتكهن بآثارها . .
يصاحب ذلك سعي للتحصن خلف الادعاءات العريضة والشعارات ، والتعميمات غير المسؤولة ، من خلال تنميق العبارات ، واختيار المصطلحات الباهرة والرنانة . .
وقد يستعملون إلى جانب ذلك أسلوب التهويل ، والتعظيم ، والتضخيم ، والتفخيم لأمور جزئية وصغيرة ، وربما تكون خارجة عن الموضوع الأساس .
ثم تكون النتيجة هي استبعاد كثير من النصوص الصريحة والصحيحة ، والتشكيك بأحداث أو بخصوصيات لم يكن من الأنصاف التشكيك فيها ، ثم استنساب نص بعينه هنا ، وعدم استنساب نص آخر هناك ، الأمر الذي ينتهي بجريمة ولا أعظم منها في حق دين الله ، وفي حق أصفيائه ، وأوليائه ، وبالتالي في حق عباده ، أياً كانوا ، وحيثما وجدوا . .
وبالنسبة لقضية كربلاء بالذات ، فان الجريمة ستكون اكثر فظاعة ، وهولاً ، حتى من جريمة يزيد ، لان يزيد لعنه الله إنما قتل الإمام الحسين عليه السلام ، وهؤلاء إنما يحاولون قتل إمامة الحسين عليه السلام ، والقضاء على كل نبضات الحياة في حركته الجهادية ، ليكونوا بذلك قد احرقوا سفينة النجاة ، وأطفأوا مصباح الهدى ، أو هكذا زيّن لهم .

علينا ان نخطط للبكاء في عاشوراء

أما بالنسبة للبكاء على الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام ، فما هو إلا للتعبير عن توفر حالة من الإثارة العاطفية ، التي تعني استجابة المشاعر والأحاسيس ليقظة وجدانية ، وحياة ضميرية ، أثارتها مأساة لا يجد أحد في فطرته ، ولا في عقله ، ولا في وجدانه أي مبرر لها .
إذن فحياة الوجدان ، ويقظة الضمير ، تجعل المنبر الحسيني قادراً على الإسهام الحقيقي في صنع المشاعر ، وفي صقلها ، وبلورتها ، باعتبارها الرافد الاساس للإيمان ، والحافظ له من ان يتأثر بالهزات ، أو أن ينهار أمام الكوارث والأزمات .
هذا الإيمان الذي يفترض فيه أن يكون مرتكزاً إلى الرؤية اليقينية ، والى الوضوح والواقعية؛ لان الفكر الذي لا يحتضنه القلب ، ولا ترفده المشاعر لن يتحول إلى إيمان راسخ ، ولن يكون قادراً على أن يفتح أمام هذا الإنسان آفاق التضحية والفداء ، والإيثار ، والجهاد ، وسائر المعاني والقيم الكبرى ، التي يريد الله للإنسان أن يقتحم آفاقها بقوة وعزيمة ، وبوعي وثبات .
وذلك يحتم علينا ـ إذا كنا نشعر بالمسؤولية أن نخطط لهذا البكاء الذي يحيي الضمير ويطلق الوجدان من أسر الهوى ، ومن عقال الغفلات ، ويبعده عن دائرة الهروب ، واللامبالاة . كما خطط الأئمة عليهم السلام لذلك حين أقاموا مجالس العزاء هذه ، بل لقد روي أن الإمام الرضا عليه السلام قد شارك دعبلاً ببيتين من الشعر يكون بهما تمام قصيدته ، بما لها من المضمون الحزين المثير للبكاء .
ولتكن قصة ذبح إبراهيم لإسماعيل ، وقصة حجر بن عدي الذي عمل على أن يقتل ولده قبله ، وكذلك الإمام الحسين وأصحابه وأهل بيته في كثير من مفردات كربلاء . ثم ما جرى على سيدة النساء ، وعلى أمير المؤمنين ، وعلى الإمام الحسن عليهم السلام وسائر مواقف الجهاد والتحدي ـ نعم ليكن ذلك كله وسواه هو تلك الوسائل والمفردات التي أراد الله لها أن تخدم ذلك الهدف السامي والنبيل .

الارتفاع إلى مستوى الخطاب الحسيني

وبعد . . فان علينا أن نرتفع بالناس إلى مستوى الخطاب الحسيني ، من خلال تبني مناهج تربوية وتثقيفية في مجالات العقيدة والإيمان ، تهتم بتعريف الناس على المعايير والضوابط المعرفية والإيمانية . وتقدم لهم ثقافة تجعلهم يطلون من خلالها على مختلف حقائق هذا الدين ، وعلى آفاقه الرحبة ، وليميزوا من خلال هذه الثقافة بالذات بين الأصيل والدخيل وبين الخالص والزائف في كل ما يعرض عليهم ، أو يواجههم ، في مختلف شؤون الدين والتاريخ والحياة .
وليخرجوا بذلك عن أسر هذا الذي ادخل في وعيهم عن طريق التلقين الذكي : إن الإسلام مجرد سياسة ، واقتصاد ، وعبادة ، وأخلاق ، وعلاقات اجتماعية . . فهو أشبه بالقانون منه بالدين الإلهي ، لان هذا الفهم يهيء لعملية فصل خطيرة للشريعة عن واقع المعارف الشاملة والمتنوعة ، التي ترفد ذلك كله وسواه ، وتشكل ـ بمجموعها ـ قاعدة إيمانية صلبة ، تفتح أمام هذا الإنسان آفاقاً يشتاق إلى اقتحامها ، وتعطيه مزيداً من الإحساس بالغيب ، والمزيد من الأهلية والقدرة على التعامل معه ، وإدخاله إلى الحياة ، ما دام أن الإنسان لن يسعد ولن يذوق طعم الحياة الحقيقية بدونه . .
وإن أبسط ما يفرضه علينا هذا الأمر ، هو أن لا نقدم الأئمة ( ع ) للناس على أنهم مجرد شخصيات تتميز بالذكاء الخارق ، والعبقرية النادرة . قد عاشت في التاريخ ، وكانت لها سياساتها ، وعباداتها ، وأخلاقها ، وعلاقاتها الاجتماعية . . ثم ما وراء عبادان قرية . .
بل علينا أن نعرفهم لهم بأنهم فوق ذلك كله ، إنهم أناس الهيون بكل ما لهذه الكلمة من معنى وأن نلخص لهم ـ وفق تلك البرامج التثقيفية والتربوية التي اشرنا إليها ـ كل المعارف التي وردت في كتاب الكافي الشريف ، وفي كتاب البحار على سبيل المثال ، ولو على سبيل الفهرسة الإجمالية للمضامين لتمر على مسامعهم أكثر من مرة ـ ، أن أمكن ، لان المعصومين عليهم السلام ما قالوا شيئاً ليبقى مغيباً في بطون الكتب والموسوعات ، بل أرادوا له أن يصل إلينا وان يدخل في حياتنا ويصبح جزءاً من وجودنا كله .
فلابد إذن من إعداد ذهنية الإنسان المسلم ، وروحه وعقله لتقبل هذه المعارف ، وللتعامل معها ، من خلال معاييرها ومنطلقاتها الإيمانية والعلمية الصحيحة .
كما أن ذلك يعطي الفرصة للإنسان المؤمن ليستمع أو يطلع على الكثير مما قاله قرآنه وأنبياؤه وأئمته المعصومون عن السماء والعالم ، وعن الخلق والتكوين ، وعن الآخرة والدنيا ، وعن كل شيء . نعم كل شيء .
ولسوف يجد في ذلك كله ما يحفزه للسؤال عن المزيد ، ويفتح أمام عينيه آفاقاً رحبة ، يجد نفسه ملزماً باستكناه كثير من جوانبها ، واكتشاف ما أمكنه اكتشافه من حقائقها .

أسلوب الانتقاء إدانة مبطنة

وغني عن القول : أن انتهاج أسلوب الانتقاء والاستنساب العشوائي ، الذي قد يكون خاضعاً لظرف سياسي ، أو نفسي ، أو لقصور في الوعي الديني ، أو لغير ذلك من أمور؛ إن انتهاج هذا الأسلوب من شأنه أن يعطي الانطباع السيء عن كثير من مفردات الثقافة الإيمانية الصحيحة ، من خلال ما يستبطنه من إدانة أو اتهام لكل نص لم يقع في دائرة الاستنساب هذه ، الأمر الذي ينتهي بحرمان الآخرين من فرصة التفكير المنطقي في شأن التراث ، بالاستناد إلى المبررات العلمية ، وإلتزام الضوابط والمعايير المقبولة والمعقولة ، بعيداً عن أي إيحاء يهيء لحالة نفرة غير منطقية من كثير من النصوص التي تواجهنا ونواجهها في سيرتنا الثقافية والإيمانية .
وكذلك بعيداً عن كل أساليب التهويل والتضخيم ، حتى ولو بالصوت الرنان ، والنبرات الحادة ، وعن تهويلات وإيحاءات اليد في إشاراتها وحركاتها ، والوجه في تقبضاته وتجهماته . . فضلاً عن اللسان ولذعاته ، وما إلى ذلك من أمور . فان ذلك لن يفيد شيئاً في تأكيد حقانية أمر ، وفرض الالتزام به ، ولا في استبعاد ما عداه ، والتنكر له . بل تبقى الكلمة الفصل للفكر الأصيل ، وللبحث الموضوعي ، وللدلائل والشواهد القوية والحاسمة 3 .

  • 1. الملحمة الحسينية ج 3 ص 236 عن كتاب : تحليل تاريخ عاشوراء ص 151 .
  • 2. فرائد السمطين ج 2 ص 155 و احقاق الحق ، قسم الملحقات ج 14 ص 62 و كمال الدين و تمام النعمة ج 1 ص 265 و عيون اخبار الرضا ج 1 ص 60 و البحار ج 36 ص 205 .
  • 3. كتاب : كربلاء فوق الشبهات للسيد جعفر مرتضى العاملي ، الفصل الأول ، الطبعة الثانية 1422 هـ . الموافق 2002 م .
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى