خُطَى الخزاعي
خلقني الله تعالى لكي أُشاطر آلام النفوس، وأُطبب بانحداري على الوجنات شيئًا من أوجاع الصدور، فكان ومازال لي مع كل مأساة حضور أوثق به حال المثكول، وأُرفَقُ شاهدًا إلى شهود سَتُستَنطَقُ يومًا ما فتروي حكايته، وإلى يوم روايتها فهي في مستودع حيث أرشيف ذاكرتي، الذي ما فتئت أرُفُهُ في استقبال الجديد منها، فرواياتي صورُ ملامحٍ، رَسَمتُها بنزولي تفاصيلًا آخرى، وأصواتُ تأوهٍ أضفتْ عليها مزامنتي أصداءً أشجى.
سأستل حكاية مريرة من خزانة الذكريات، ترويني دمعة ساخنة مختلفة، هناك حيث أزقة الكوفة، في فجر مصيبة من شهر معظم، بعد ندبة سماوية مفجعة، إذ أُستنفرت بأقصى طاقتي من محاجر صغيرة، فرحت أنزل صيِّبًا بلا هوادة على غير هدىً، مشتتةً ما بين نصيب نزل على الوجنات، وما بين ما استقر على أكف صغار وهي تحاول كفكفتي، وآخر أخذتُّ وجهتيَ اللامقصودة فيه حيث الصدور التي نائت بحمل قلوب صغار هرمت بزمن ركضتها اليسير، وبالركضة تلك تناثر بعض مني في الهواء، وسقط بعض آخر على آنية من لبن، لم أشهد يومًا أنَّي تَشتَّتُ كيوم الأيتام هذا، رافقني شعور أنَّني لم أكن ذات طائل من تخفيف ألم أو مداواة جرح، فعلى كثرة ما نزل مني، إلّا أنَّ لهيب القلوب في تصاعد وازدياد يستدعيان انهماري من جديد في كل مرة أُشارف فيها على الانتهاء، ولا أدري لِمَ لم أنفد آنذاك مع وصولي في كل مرة إلى حدِّ النفاد، ربَّما أُستبقيتُ لأُوثق بقية من تلك المشاعر البريئة، فقد كنت ثالثة ثلاثة مع كل صغير، منضمةً إلى قلب مفجوع متوسل، وإناءٍ من لبن، اصطف جيش الأيتام مستندًا بوقفته إلى الجدار، إذ أعيته الفجيعة، وراح يتضرع ملتمسًا السلامة والنجاة للأب الحاني، وماهي إلّا لحظات، ويفتح الباب، ويؤذن للصغار بالدخول، وإذا بالأرجل الحافية تتسابق، والأبدان الصغيرة تتلاطم بعد أن لملمتْ بقايا قوة، فتلاقت ممتزجةً من أعين شتى، أبعاض من قطراتي الساخنة متوسلة علها تشفع في مداواة الجرح الغائر، وتطبيب قلوب الأيتام، وصل الصغار حيث سرير الأب العطوف، فتثاقلت خطواتهم، وخارت من جديد قواهم، فجثوا على الركب، ينزلوني عبرات متواصلة، وراحوا يزحفون صوب اليدين المرتجفتين وهما تدعوانهم إلى الدنو، فاقترب الصغار، وتعالت صرخاتهم وا أبتاه… وا سيداه، من لنا بعدك ياعلي؟… نرجوك انهض… لا قيمة للحياة من بعدك، فيبتسم الأب الحاني رافعًا إياي حيث أعالي العُلا إذ أنزلني من محجريه الطاهرين عَبرةً ساكبةً، وشرَّفني بتوثيق مواساته لأيتامه المفجوعين، وراحت أيدي الصغار تتنافس على استلام اليدين الكريمتين، وتحاول ضمهما والتزود منهما، وتنافس بعض آخر على أن يضعوا رؤوسهم على صدره الشريف، فيتزودوا بالطمأنينة للمرة الأخيرة، وأحاطت مجموعة بالرأس الشريف تقبله على هون لئلا تنكأَ الجرح فَيُزاد في ألم المولى، وأُخرى قد رفعت آنيتها إلى فمه المبارك علها تنهي بشربة من لبنها فصل المأساة هذا… خرج الصغار بمشية الكهول، إذ استوعبت تلك الفجيعة أعمارهم فشاخت سنيهم، بعد أن استودعوا بقية مني على يدين رحيمتين، وصدر حانٍ، وعصبة صفراء، مُحمِّلين إياي شهادة أُدلي بها عند أول قضية إلهية تنظر، إذ سيجثو إمامهم بين يدي الله بالظلامة الأولى.
المصدر: http://inahj.org