البَاحِث: سَلَام مَكِّيّ خُضَيّر الطَّائِيّ:
الحمد لله ربّ العالمين والصَّلَاة والسَّلَام على أشرف الخلق أجمعين مُحمَّد بن عبد الله وآله الطَّييبين الطَّاهرين الذين أذهب الله تعالى عنهم الرّجس وطهَّرهم تطهيرا، واللعن الدَّائم على أعدائهم إلى قيام يوم الدِّين.
وبعد:
إنَّ المتتبع لتاريخ الصَّحَابة الذين صحِبوا الرَّسُول (صلَّى الله عليه وآله) وأطاعوه، أو الذين صحبوا الإمام عَلِيّ (عليه السَّلَام)، يجد الكثير منهم قد استمرت بهم الحياة إلى أن أدركوا إمامة أبنائهم (عليهم السَّلَام)، فوالوهم أيضاً وأطاعوهم وامتثلوا لأوامرهم واعتقدوا بإمامتهم وكانوا لهم أعوانَاً وانصاراً على الباطل، وذلك انطلاقاً من قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾[1]، والترام بعضهم بوصية الرَّسول الأعظم مُحَمَّد (صلَّى الله عليه وآله) حين نصب أمير المؤمنين (عليه السلام) حين قال: (فمن كنت مولاه فعَلِيّ مولاه، اللَّهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله)[2]، ومن الأمثلة على هؤلاء الصَّحَابة ومن الذين نصروا الإمام الحُسَين (عليه السَّلَام) في يوم الطَّف: هو الصَّحَابي الجليل أنس بن الحارث الكاهليّ.
اسمه ونسبه:
أنس بن الحارث بن نبيه بن كاهل بن عمرو بن صعب بن خزيمة الأسدي الكاهلي وكان صحابيَّا كبيراً ممَّن رأى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)[3]، وسمع حديثه، وكان فيما سمع منه وحدَّث به ما رواه جمّ غفير من العامَّة والخاصَّة عنه، أنَّه قال: سمعت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يقول، والحُسين بن عَلِيّ في حجره: (إن ابني هذا يقتل بأرض من أرض العراق ألا فمن شهده فلينصره)[4]، وكذلك كان من الصَّحابةِ الموالين للإمام عَلِيّ وللإمامين الحَسَن والحُسَين (عليهم السَّلَام)، وكان بطلاً شجاعاً، وتكمن شجاعته في نصرته للإمام الحُسَين (عليه السَّلَام) في يوم الطَّف[5]، وإنَّه كان أيضاً من حواريّ الإمام الحُسَين (عليه السَّلَام)[6].
دوره في معركة الطَّف:
لا شكَّ في أنَّ لهذا الصَّحابي الجليل أنس بن الحارث (رضوان الله تعالى عليه) دوراً بارزاً في معركة طف كربلاء في نصرة الإمام الحُسَين (عليه السَّلَام)، وتقلَّد بعض الأدوار في تلك المعركة من قبل الإمام (عليه السَّلَام)، وذلك لشجاعته وقوة عقيدته وصلابة إيمانه وحبّه وولائه للبيت النَّبوي، ومن الأدوار التي أُوكلت إليه:
إرساله من قبل الإمام الحُسَين (عليه السَّلَام) لوعظ عمر بن سعد:
بعد أن وعظ الإمام الحُسَين (علَيه السَّلَام) أعدائه، فرآهم (عليه السَّلَام) لا ينفع بهم الوعظ، وإن الشيطان أغرَّهم بالدّنيا الدَّنية الزَّائلة، ورآهم (عليه السَّلَام) مصرِّين على مقاتلته، فرجع (عليه السَّلَام) إلى أصحابه وقال لهم: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾[7].
فأمر الصَّحابيّ أنس الكاهليّ أن يذهب إلى القوم ويعظهم مرة أخرى، عسى أَنْ يرجعوا، وقال: (أنا أعلم أَنَّهم لا يرجعوا ولكن تكون حجة عليهم)[8]، فانطلق أنس فدخل على ابن سعد -لعنه الله تعالى- ولم يُسلّم عليه، فقال ابن سعد له: لِمَ لم تُسلِّم عليَّ ألست مسلما؟ فردَّ عليه أنس الكاهليّ (رضوان الله تعالى عليه)، فقال له: والله لستَ أنت مُسلم، لأنَّك تريد أَن تقتل ابن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، فكان هذا ردَّاً قوياً جعل من ابن سعد اللَّعين ينكِّس رأسه إذلالاً، ويقول: والله إنّي لأعلم أَنَّ قاتله في النَّار ولكن لا بد من إنفاذ حكم عبيد الله بن زياد، فرجع أنس (رضوان الله تعالى عليه)، إلى الإمام الحُسَين (عليه السَّلَام) وأخبره بذلك[9].
ب- استئذانه الإمام الحُسَين (عليه السَّلَام) للقتال في معركة الطَّف:
عندما نوى الإمام الحُسَين (عليه السَّلَام) الرَّحيل إلى العراق، كان هذا الصَّحابي الجليل ملازماً له، ومن أنصاره في الطَّف مع من أدركته السَّعادة، وكان شيخاً كبيراً طَاعِناً في السّن وقوراً شجاعاً، وعندما وَصَلُوا طف كربلاء وعند ملاقاة القوم لهم، طلب من الإمام (عليه السَّلَام) أن يأذن له في القتال وأن يجاهد بين يديه، فأذن له (عليه السَّلَام)، فبرز (رضوان الله عليه) وشدّ وسطه بعمامَة، ثم دعا بعصابة عصب بها حاجبيه ورفعهما عن عينيه[10]، وعند بروزه كان يقول:
قد علمت كاهلنا وذودان * والخندفيون وقيس غيلان.
بأن قومي آفة للأقران * يا قوم كونوا كأسود خفان.
واستقبلوا القوم بضرب الآن * آل علي شيعة الرحمن.
وآل حرب شيعة الشيطان [11].
ويروى أنَّ الإمام الحُسين (عليه السَّلَام) ينظر إليه ويبكي ويقول: (شكر الله لك يا شيخ)[12]، وهو يقاتل – على كبر سنّه – قتال الأبطال لا يرهبه جيش بني أميَّة –لعنهم الله تعالى- وأبلا بلاءً حسناً، فقد روي أَنَّه قتل منهم ثمانية عشر رجلاً[13]، ثُمَّ نال شرف الشهادة (رضوان الله عليه) مع الإمام الحُسَين (عليه السَّلَام) ومع من أُستشهد في معركة طف كربلاء، وسمت روحه الطَّاهرة إلى الرَّفيق الأعلى مع النّبيين والصّدِيقِين والشّهداء[14]، ﴿وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾[15].
وقد قال فيه الكُميت بن زيد الأسديّ شعرًا يرثيّه وحبيب (رضوان الله عليهما):
سوى عصبة فيهم حبيب معفر * قضى نحبه والكاهلي مرمَّل[16].
فهنا يصوِّر لنا الشَّاعر حال هذين الرجلين الجليلين بأنَّ الأول كان معفراً والآخر مرملاً.
وفي الختام نسأل الله تعالى الذي أنعم علينا بنعمة الإسلام المُحَمَّديّ، أن يديم هذه النّعمة، وأن يغفر لنا زلَّاتنا وذنوبنا، ويجعل هذا العمل في خدمة آل بيت النَّبيّ (صلَّى الله عليه وآله)، صدقةً جاريةً إلى يوم يبعثون، أنَّه سميع مجيب.
الهوامش:
[1] من قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾، سورة النّساء، الآية (59).
[2] المقنعة، الشيخ المفيد:203-204 .
[3] إبصار العين في أنصار الحُسين (عليه السَّلَام)، الشيخ محمد بن طاهر السماوي: 99.
[4] مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب:1/122.
[5] ينظر: أعيان الشيعة للسَّيِّد مُحسِن الأمين:3/499، من أخلاق الإمام الحُسَين (عليه السَّلَام) لعبد العظيم المهتدي البحراني:230.
[6] ينظر: شعب المقال في درجات الرّجال للميرزا أبو القاسم النراقي:244.
[7] سورة المجادلة، الآية (19).
[8] ينابيع المودَّة للقندوزي:3/69.
[9] ينظر: ينابيع المودَّة للقندوزي:3/69.
[10] ينظر: إبصار العين في أنصار الحُسين (عليه السَّلَام)، الشيخ محمد بن طاهر السماوي: 99-100، من أخلاق الإمام الحُسَين (عليه السَّلَام) لعبد العظيم المهتدي البحراني:230.
[11] مثير الأحزان لابن نما الحلّيِّ: 47.
[12] أعيان الشِّيعة، للسَّيِّد مُحسن الأمين: 3/500.
[13] ينظر: من أخلاق الإمام الحُسَين (عليه السَّلَام) لعبد العظيم المهتدي البحراني:230.
[14] ينظر: رجال الشَّيخ الطُّوسيّ:21، مستدركات علم رجال الحديث، للشيخ علي النمازي الشاهرودي: 6/329، ومن أخلاق الإمام الحُسَين (عليه السَّلَام) لعبد العظيم المهتدي البحراني:230.
[15] من قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾، سورة النّسَاء، الآية (69).
[16] أبصار العين في أنصار الحُسَين (عليه السَّلَام) للشَّيخ مُحمَّد السّماويّ:99.
المصدر: http://inahj.org