مقالات

خمس الأرباح…

وصلنا في الجزء الأول من هذا البحث إلى أن قوله تعالى﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ … ﴾ 1 ليس فيه ظهور مستقل لعموم الغنيمة الشامل لغنيمة دار الحرب ومطلق الأرباح والفوائد، إذ لو خلينا والآية فقط لكان من الصعب الجزم بدلالة الآية على المعنى العام للغنيمة، ومع ذلك فهي لها ظهور في المعنى العام ولكن بمعونة الأخبار، ولهذا لزم صرف النظر لمناقشة هذا الإدعاء من خلال التأمل في الأخبار.

وحتى تكون تغطيتنا للبحث في الأخبار تامة ينبغي تقسيمه إلى قسمين:
1- الأخبار المتعلقة بدلالة الآية على عموم الفائدة اثباتًا ونفيًا.
2- الأخبار التي تدلل على وجوب خمس الأرباح بغض النظر عن الآية.

القسم الأول:
ينحل القسم الأول إلى فرعين:
أ- الروايات الظاهرة في المعنى الأعم.
ب- الروايات الظاهرة في المعنى الخاص.

الفرع الأول

يتضمن هذا الفرع روايات أربع تم الاستدلال فيها بالآية المباركة في سياق التأكيد على المعنى الأعم للغنيمة وأنها تعني مطلق الفائدة.
الرواية الأولى: وهي أهم الروايات في المقام خصوصاً مع صحة سندها، فقد رواها الشيخ الطوسي بإسناده عن محمد بن الحسن الصفار، فالصفار ثقة وطريق الشيخ إليه صحيح، عن أحمد بن محمد وعبد الله بن محمد، وهما ابنا عيسى الاشعري القمي وكل منهما ثقة، جميعًا عن علي بن مهزيار الثقة الجليل، قال: “كتب إليه أبو جعفر : وقرأت أنا كتابه إليه في طريق مكة قال: إن الذي أوجبت في سنتي هذه وهذه سنة عشرين ومأتين فقط لمعنى من المعاني أكره تفسير المعنى كله خوفًا من الانتشار، وسأفسر لك بعضه إن شاء الله: إن موالي أسأل الله صلاحهم أو بعضهم قصروا فيما يجب عليهم؛ فعلمت ذلك فأحببت أن أُطهرهم وأزكيهم بما فعلت من أمر الخمس في عامي هذا، قال الله تعالى:﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ 2 ولم أوجب عليهم ذلك في كل عام ولا أوجب عليهم إلا الزكاة التي فرضها الله عليهم، وإنما أوجبت عليهم الخمس في سنتي هذه في الذهب والفضة التي قد حال عليهما الحول، ولم أوجب ذلك عليهم في متاع ولا آنية ولا دواب ولا خدم ولا ربح ربحه في تجارة لا ضيعة إلا في ضيعة سأفسر لك أمرها تخفيفًا مني عن موالي ومنّاً مني عليهم لما يغتال السلطان من أموالهم ولما ينوبهم في ذاتهم، فأما الغنائم والفوايد فهي واجبة عليهم في كل عام قال الله تعالى:﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ 1 فالغنايم والفوايد يرحمك الله فهي الغنيمة يغنمها المرء، والفائدة يفيدها، والجائزة من الإنسان للإنسان التي لها خطر، والميراث الذي لا يحتسب من غير أب ولا ابن، ومثل عدو يصطلم فيؤخذ ماله، ومثل مال يؤخذ ولا يعرف له صاحب، وما صار إلى موالي من أموال الخرمية الفسقة فقد علمت أن أموالاً عظاماً صارت إلى قوم من موالي، فمن كان عنده شيء من ذلك فليوصله إلى وكيلي، ومن كان نائياً بعيد الشقة فليتعمد لإيصاله ولو بعد حين، فإن نية المؤمن خير من عمله، فأما الذي أوجب من الضياع والغلات في كل عام فهو نصف السدس ممن كانت ضيعته تقوم بمؤنته، ومن كانت ضيعته لا تقوم بمؤنته فليس عليه نصف سدس ولا غير ذلك3.
ووجه الاستدلال بها ما جاء فيها من الاستشهاد بالآية المباركة على وجوب الخمس في عموم الفائدة، وذلك عند قوله (فأما الغنائم والفوايد فهي واجبة عليهم في كل عام قال الله تعالى:﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ … ﴾ 1. فالغنائم والفوايد يرحمك الله فهي الغنيمة يغنمها المرء والفائدة يفيدها…). فالإمام  عرّف الغنيمة في الآية بما هو أعم من غنيمة دار الحرب الشامل للفوائد والجائزة والميراث غير المحتسب ومجهول المالك وغير ذلك، ولهذا تكون الرواية دالة على إرادة عموم الأرباح والفوائد من قوله سبحانه (غنمتم).
إلا أن جمعًا من المحققين من متأخري المتأخرين اشكلوا على العمل بهذه الرواية بعدة إشكالات بالرغم من صحة سندها، فقد استشكل الشيخ حسن صاحب المعالم في منتقى الجمان بأربعة اشكالات وأجاب عليها، بينما أشكل ابن عمته السيد محمد العاملي صاحب المدارك بثلاثة اشكالات التقى فيها مع الأول في اشكالين وانفرد في واحد، ولم يجب عليها إنما اعتبر الرواية بسببها متروكة.
ولا بد من استعراض هذه الاشكالات والنظر فيها، لأنها لو تمت فلن يسعنا الاستدلال بهذه الرواية في المقام، أما لو أمكن الإجابة عليها فسيكون الاستدلال بها في محلّه.

إشكالات صاحب المدارك

قال صاحب المدارك في تعليقه على الرواية: “وأما رواية علي بن مهزيار فهي معتبرة السند لكنها متروكة الظاهر من حيث اقتضائها وجوب الخمس فيما حال عليه الحول من الذهب والفضة ومع ذلك فمقتضاها اندراج الجائزة الخطيرة والميراث ممن لا يحتسب والمال الذي لا يعرف صاحبه وما يحل تناوله من مال العدو في اسم الغنائم، فيكون مصرف الخمس فيها مصرف خمس الغنائم وأما مصرف السهم المذكور في آخر الرواية، وهو نصف السدس في الضياع والغلات فغير مذكور صريحا، مع أنا لا نعلم بوجوب ذلك على الخصوص قائلاً”4.

اشكالات صاحب المنتقى

ذكر صاحب منتقى الجمان أربعة اشكالات وأجاب عليها حيث قال: “على ظاهر هذا الحديث عدة إشكالات ارتاب منها فيه بعض الواقفين عليه ونحن نذكرها مفصلة ثم نحلها بما يزيل عنه الارتياب بعون الله سبحانه ومشيئته.
الإشكال الأول: إن المعهود والمعروف من أحوال الأئمة  أنهم خزنة العلم وحفظة الشرع يحكمون فيه بما استودعهم الرسول  واطلعهم عليه وأنهم لا يغيرون الأحكام بعد انقطاع الوحي وانسداد باب النسخ فكيف يستقيم وله في هذا الحديث: (أوجبت في سنتي ولم أوجب ذلك عليهم في كل عام) إلى غير ذلك من العبارات الدالة على أنه عليه السلام يحكم في هذا الحق بما شاء واختار؟
الثاني: إن قوله: (ولا أوجب عليهم إلا الزكاة التي فرضها الله عليهم) ينافيه قوله بعد ذلك: (فأما الغنائم والفوائد فهي واجبة عليهم في كل عام).
الثالث: إن قوله: (وإنما أوجب عليهم الخمس في سنتي هذه من الذهب والفضة التي قد حال عليها الحول) خلاف المعهود إذ الحول يعتبر في وجوب الزكاة في الذهب والفضة لا الخمس وكذا قوله: (ولم أوجب ذلك عليهم في متاع ولا آنية ولا دواب ولا خدم) فإن تعلق الخمس بهذه الأشياء غير معروف.
الرابع: إن الوجه في الاقتصار على نصف السدس غير ظاهر بعدما علم من وجوب الخمس في الضياع التي يحصل منها المؤونة كما يستفاد من الخبر الذي قبل هذا وغيره مما سيأتي.
إذا تقرر هذا فاعلم أن الاشكال الأول مبني على ما اتفقت فيه كلمة المتأخرين من استواء جميع أنواع الخمس في الصرف ونحن نطالبهم بدليله ونضايقهم في بيان مأخذ هذه التسوية، كيف وفي الأخبار التي بها تمسكهم وعليها اعتمادهم ما يؤذن بخلافها بل ينادي بالاختلاف كالخبر السابق عن أبي علي بن راشد ويعزى إلى جماعة من القدماء في هذا الباب ما يليق أن يكون ناظرا إلى ذلك، وفي خبر لا يخلو من جهالة في الطريق تصريح به أيضا فهو عاضد للصحيح. والخبر يرويه الشيخ، بإسناده عن سعد بن عبدالله، عن أحمد بن محمد، عن علي بن مهزيار قال: حدثني محمد بن علي بن شجاع النيسابوري أنه سأل أبا الحسن الثالث  عن رجل أصاب من ضيعته مائة كر فأخذ منه العشر عشرة أكرار وذهب منه بسبب عمارة الضيعة ثلاثون كرا وبقي في يده ستون كرا ماذا الذي يجب لك من ذلك؟ وهل يجب لأصحابه من ذلك عليه شيء؟ فوقع : لي منه الخمس مما يفضل من مؤونته. وإذا قام احتمال الاختلاف فضلا عن اتضاح سبيله باختصاص بعض الأنواع بالإمام  فهذا الحديث مخرج عليه وشاهد به. إشكال نسبه الايجاب فيه بالاثبات والنفي إلى نفسه  مرتفع معه فإن له التصرف في ماله بأي وجه شاء أخذا وتركا.
وبهذا ينحل الاشكال الرابع أيضا فأنه في معنى الأول، وإنما يتوجه السؤال عن وجه الاقتصار على نصف السدس بتقدير عدم استحقاقه  للكل، فأما مع كون الجميع له فتعيين مقدار ما يأخذ ويدع راجع إلى مشيته وما يراه من المصلحة، فلا مجال للسؤال عن وجهه.
وأما الاشكال الثاني فمنشؤه نوع إجمال في الكلام اقتضاه تعلقه بأمر معهود بين المخاطب وبينه  كما يدل عليه قوله: (بما فعلت في عامي هذا) وسوق الكلام يشير إلى البيان وينبه على أن الحصر في الزكاة إضافي مختص بنحو الغلات ومنه يعلم أن قوله: (والفوائد) ليس على عمومه بحيث يتناول الغلات ونحوها بل هو مقصور على ما سواها ويقرب أن يكون قوله: (والجائزة) وما عطف عليه إلى آخر هذا الكلام، تفسيرا للفائدة أو تنبيها على نوعها ولا ريب في مغايرته لنحو الغلات التي هي متعلق الحصر هناك. ثم إن في هذه التفرقة بمعونة ملاحظة الاستشهاد بالآية وقوله بعد ذلك: (فليتعمد لإيصاله ولو بعد حين) دلالة واضحة على ما قلنا من اختلاف حال أنواع الخمس وأن خمس الغنائم ونحوها مما يستحقه أهل الآية ليس للإمام  أن يرفع فيه ويضع على حد ماله في خمس نحو الغلات وما ذاك إلا للاختصاص هناك والاشتراك هنا.
وبقي الكلام على الاشكال الثالث ومحصله أن الأشياء التي عددها  في إيجابه للخمس ونفيه أراد بها ما يكون محصلا مما يجب له فيه الخمس، فاقتصر في الأخذ على ما حال عليه الحول من الذهب والفضة لأن ذلك أمارة الإستغناء عنه فليس في الأخذ منه ثقل على من هو بيده وترك التعرض لهم في بقية الأشياء المعدودة طالبا للتخفيف كما صرح  به”5.

مناقشة الإشكال الأول للمنتقى

وقد أجيب على الإشكال الأول المذكور في منتقى الجمان من قبل المستشكل نفسه وهو الشيخ حسن ابن الشهيد الثاني كما هو مدوّن في نص عبارته المذكورة سلفًا، وملخصه اختصاص الإمام  بخمس الارباح دون بقية موارد الخمس، بمعنى أن خمس ارباح المكاسب حق للإمام  فقط ولا يشاركه فيها بقية المذكورين في الآية كاليتيم والمسكين وابن السبيل، وبالتالي فله الحق في الأخذ أو الاسقاط، وكان مستنده في ذلك روايتي أبي علي بن راشد والنيسابوري.
وقد اعترض عليه صاحب الحدائق6كما اعترض على صاحب المدارك7لتوقفه في المسألة نظرًا لاختلاف الروايات، وهي تنقسم إلى طائفتين:

الطائفة الأولى: الظاهرة في الاختصاص وأهمها

1- رواية محمد بن علي بن شجاع النيسابوري المتقدمة.
2- رواية ابي علي بن راشد، قلت له: أمرتني بالقيام بأمرك وأخذ حقك فأعلمت مواليك ذلك، فقال لي بعضهم وأي شيء حقه فلم أدر ما أجيبه، فقال: يجب عليهم الخمس، فقلت: ففي أي شيء؟ فقال: في أمتعتهم وضياعهم، قال: التاجر عليه والصانع بيده، فقال: ذلك إذا أمكنهم بعد مؤونتهم8.
بتقريب ان قول الإمام  في رواية النيسابوري (لي منه الخمس مما يفضل من مؤونته) صريح في الاختصاص، فالفاضل بعد المؤونة متعلق بخمس الارباح كما هو معلوم، وقوله (لي) تعني انه له خاصة.
وهو أيضًا ظاهر قوله في رواية بن راشد (يجب عليهم الخمس) الذي يعتبر تقريرًا لصحة ما جاء في كلام الراوي من أن الخمس حق للإمام ، إضافة لذكر الموارد المتعلقة بخمس الأرباح لا بغيرها وهي الامتعة والضياع وأرباح التاجر والصانع بعد المؤونة.

الطائفة الثانية: الظاهرة في عدم الاختصاص وأهمها

1- رواية احمد بن محمد قال: حدثنا بعض أصحابنا رفع الحديث قال: الخمس من خمسة أشياء – إلى ان قال – فأما الخمس فيقسم على ستة أسهم سهم لله وسهم للرسول وسهم لذي القربى وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لأبناء السبيل، فالذي لله ولرسول الله  فرسول الله أحق به فهو له خاصة، والذي للرسول هو لذي القربى والحجة في زمانه فالنصف له خاصة، والنصف لليتامى والمساكين وأبناء السبيل من آل محمد  الذين لا تحل لهم الصدقة ولا الزكاة..9.
2- مرسلة حماد بن عيسى10، بالمضمون نفسه الوارد في رواية احمد بن محمد.
3- ما رواه السيد المرتضى في رسالة المحكم والمتشابه من تفسير النعماني بإسناده عن علي11بالمضمون نفسه أيضًا.
وتقريبه ان الإمام  إنما اختص بنصف الخمس فقط في كل ما يجب فيه الخمس كما هو صريح الروايات الثلاث.
وقد وقع الاختلاف في كيفية التوفيق بينها، فاستظهر البعض كما قد يفهم من كلمات صاحب المدارك12وصاحب منتقى الجمان13، ان الطائفة الثانية خارجة تخصصًا أو تخصيصًا عن أرباح المكاسب وذلك بحمل المجمل على المفصَّل فيها بالنسبة للغنائم، فمرسلة حماد وإن ورد فيها ذكر (الغنائم) من غير الاشارة إلى غنائم دار الحرب، إلا أن رواية أحمد بن محمد ورواية تفسير النعماني صرّحتا بذلك، فقد جاء في الأولى (المغنم الذي يقاتل عليه)، وفي الثانية (الغنائم التي يصيبها المسلمون من المشركين)، وبالتالي فالمراد من الغنائم في الطائفة الثانية غنائم دار الحرب لا مطلق الغنائم والفوائد. وقد صرّحت هذه الطائفة بأن الإمام  له حق النصف فقط ولشركائه في الآية النصف الآخر، هذا بالنسبة للموارد الخمسة التي يجب فيها الخمس المذكورة في هذه الطائفة وهي الغنائم والغوص والكنوز والمعادن والملاحة.
وأما الطائفة الأولى فهي أيضًا خارجة تخصصًا أو تخصيصًا عن الموارد الخمسة المذكورة في الطائفة الثانية، لأنها متعلقة فقط بأرباح المكاسب كما مرّ البيان.
وبالجمع بين الطائفتين يتضح ان الإمام  يختص بأرباح المكاسب ولا يشاركه غيره فيها، بينما يشاركه غيره في بقية موارد الخمس.
لكن هناك من قال بخلاف ذلك حاملاً لفظ الغنيمة في الروايات على المعنى الأعم الشامل لأرباح المكاسب وغيرها، كما صرّح به صاحب الحدائق14، وذكرُ خصوص غنائم دار الحرب في بعض الروايات لا يعني صرف معنى الغنيمة إليها بادعاء حمل المجمل على المفصَّل، وإنما هي مجرد أفراد ومصاديق للمعنى العام الذي ثبت دلالة الآية والروايات عليه، وبالتالي لا فرق بين غنيمة دار الحرب وأرباح المكاسب وغيرهما في اشتراك الإمام  مع غيره فيها.
والظاهر أن الرأي الثاني هو الأصح، وورود ما ظاهره الاختصاص في الطائفة الاولى كقوله  في رواية النيسابوري (لي) وقول الراوي في رواية بن راشد (حقك) وتقرير الإمام  له، لا يفيد الاختصاص بمعنى انه حق للإمام  فقط دون غيره، وإنما لأن له حقاً فيه وهو النصف لا أنه حقه كاملاً، هذا من جهة ومن جهة أخرى لأنه القائم عليه بأجمعه بصفته إمامًا وحاكمًا.
ثم إن صاحب المدارك قوّى توقفه بادعاء ضعف روايات الطائفة الثانية لإرسالها15، واعترض عليه الحدائق بأن مرسلة حماد مجبورة بعمل الأصحاب16، وأن صاحب المدارك يرفض الضعيف حينًا ويعمل به حينًا آخر فيما إذا كان مجبورًا بعمل الأصحاب17.
وفي الحقيقة فان روايات الطائفتين بأجمعها يمكن أن ترمى بالضعف، فالرواية الأولى من الطائفة الأولى يمكن تضعيفها بعدم توثيق محمد بن علي بن شجاع النيسابوري، وكذلك الرواية الثانية فان أبا علي بن راشد لم تثبت وثاقته، هذا بالإضافة إلى إضمارها، وهكذا الرواية الأولى من الطائفة الثانية فهي مرسلة لعدم معرفة من روى عنه أحمد بن محمد كما أنها مرفوعة ومضمرة، والرواية الثانية مرسلة أيضًا لعدم معرفة من روى عنه حماد، وأما الثالثة ففيها من لم يوثق كأحمد بن يوسف بن يعقوب الجعفي وفيها من صُرِّح بكذبه كالحسن بن علي بن أبي حمزة البطائني.
ومع ذلك يمكن القول بامكانية تجاوز الاشكال السندي أما للشهرة العملية أو لورود بعض الرواة في تفسير علي بن إبراهيم القمي أو رواية بعض الأجلاء عن بعضهم أو لوجود بعض المعاني الواردة في روايات الطائفتين في بعض الروايات الصحيحة الأخرى.
بناء على ذلك يمكن غض النظر عن السند والقبول بالطائفتين، مع عدم الحاجة إلى التوقف في الدلالة كما أدّعى صاحب المدارك حيث قال (والمسألة قوية الأشكال)15، بل يمكن الجمع بين الطائفتين بما سبق بيانه.
بالتالي فان إجابة صاحب منتقى الجمان على الاشكال بهذه الكيفية الخاصة غير تامة، ولهذا قدّم بعض العلماء إجابات أخرى، أبرزها:
1- التفويض، وهو مذهب صاحب الحدائق، بمعنى أن الله سبحانه فوض إليهم كما فوّض إلى رسول الله ، واستدل له ببعض الأخبار18، ومفاد هذا الكلام ان الإمام  تصرّف في موارد الخمس باعتبار كونه مفوَّضًا من قبل الله سبحانه بإضافة بعض التشريعات وحذف أخرى.
2- الولاية، كما هو ظاهر عبارة السيد الخوئي19وبعض المعاصرين كالشيخ السبحاني20، بتقريب ان منصب الإمامة يتضمن ولاية على الأموال، وبمقتضاها يحق للإمام  التصرف في الموارد المالية كالأخماس طبقًا لما كان يفعله رسول الله  عند توزيعه للغنائم في بعض الغزوات خصوصًا بدر وحنين، فقد كان يفضّل البعض في العطاء على الآخر نظرًا لبعض المصالح.
لكن الإجابة الأولى لا ترد هنا لأن ما نحن فيه ليس تشريعًا جديدًا حتى نبنيه على أساس التفويض بغض النظر عن مناقشة أصل المبنى، وإنما هو تصرّف في تطبيق التشريع، بمعنى أن الإمام  لم يأت بتشريع جديد يوجب الخمس فيما لا يجب فيه، وإنما أبقى موارد الخمس على ما هي ثم خفف على المكلفين في بعضها في زمن خاص رعاية لبعض المصالح التي أشار إليها ولم يذكرها صريحاً، وهذا المستوى من التصرف من صلاحيات منصب الإمامة كما تشهد له روايات كثيرة، وفعل النبي  في الغزوات من بينها. وبهذا يندفع الإشكال الأول.

مناقشة الإشكال الثاني للمنتقى

أجاب صاحب المنتقى نفسه على الاشكال كما هو واضح في عبارته السابقة بأن إيجاب الزكاة إنما هو في الغلات فقط، وأما ايجاب الخمس فهو فيما عدا الغلات، ورفع الوجوب عن الغلات من قبل الإمام  لأنه المختص بالحق في خمس الأرباح كما سبق بيانه.
لكنه يضعّف أولاً بعدم الاختصاص كما بينّاه في مناقشة الاشكال الأول، وثانيًا بعدم وجود قرينة أو شاهد على حصر الزكاة في الغلات ولا على استثناء الغلات من الخمس، بل قول الإمام  في شأن إيجاب الزكاة (إلا الزكاة التي فرضها الله عليهم) فيه إشارة إلى جميع ما فرض فيه الزكاة لا خصوص الغلات ولا دليل على الحصر، وبناء على ذلك فإن تخريجة صاحب المنتقى مجرد جمع تبرعي لم يلق قبولاً عند كثيرين، ولذلك قدِّمتْ إجابات أخرى منها:
1- الحصر في الزكاة خاص بسنة وفاته فقط، وأما ايجاب الخمس بعد ذلك فلا يراد منه الوجوب في خصوص تلك السنة حتى يلزم التهافت، وإنما يراد منه بيان قاعدة كلية، وأما في السنة المذكورة فقد أسقط حقه في بعض ما يتعلق به الخمس21.
ولعل هذه الإجابة هي الأوفق، لأن الإمام  بعد أن صرّح بإيجاب الزكاة فقط، استثنى مباشرة ايجاب الخمس في الذهب والفضة في السنة نفسها، فقد جاء في كلامه  (وإنما أوجبت عليهم الخمس في سنتي هذه في الذهب والفضة) ولا تهافت أو محذور في ذلك، ثم عندما تكلم عن آية الخمس بيّن مفادها لتأسيس قاعدة كلية، لكن هذه القاعدة لا تطبق كاملة في السنة المذكورة تخفيفاً منه  بمقتضى ولايته.
فهذا الجمع هو الجمع الأوفق، فعندما يقول الإمام  بأن مفاد الآية وجوب الخمس في أشياء كثيرة، وقبل ذلك يقول انه في تلك السنة لا يوجبه إلا في الذهب والفضة بالإَضافة إلى ايجاب الزكاة، فإن مفاد ذلك في المحاورات العرفية ان البيان الأول تأسيس لقاعدة كلية مستفادة من الآية، بينما البيان الثاني مجرد تطبيق خاص بتلك السنة رعاية لمصالح خاصة.
2- إن ايجاب الزكاة فقط دون غيرها الوارد في صدر الرواية إنما هو بلحاظ أصل التشريع، أما ايجاب الخمس بعد ذلك مباشرة في الذهب والفضة فهو بلحاظ ولايته العامة لا أصل التشريع، كما ان هذا الخمس لا يراد منه الخمس المصطلح وإنما هو من سنخ الصدقة، والدليل على ذلك تناسب هذا النوع من الخمس والضريبة المالية مع العلة المذكورة قبل ذلك وهي للتطهير والتزكية، كما يدل عليه الاستشهاد بآية﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا … ﴾ 22، وأيضًا نفي الإمام  الايجاب في السنة المذكورة في غير الزكاة، وهو يعني النفي في الخمس المصطلح.
فالخمس المشار إليه بعد الزكاة انما هو من سنخ الصدقة وليس الخمس المصطلح حتى يلزم منه نوع تهافت في الكلام. نعم الإمام  عندما استشهد بعد ذلك بآية الخمس تكلم عن الخمس المصطلح بلحاظ أصل التشريع لكن من دون التأكيد على وجوب اخراجه في تلك السنة أيضًا حتى نقول بالتهافت بين الصدر والذيل23.
ويمكن أن يورد على هذه الإجابة بأمور:
1- لم يُعْهَد عن أهل البيت  التعبير عن الصدقة بالخمس، كما لم يُعْهَد عنهم أخذ ضرائب إضافية غير الزكاة والخمس، بل المعهود عنهم التخفيف حتى في الخمس المصطلح رعاية لظروف عامة الناس، ولذلك فان صرف لفظ الخمس الوارد في صدر الرواية إلى الصدقة والضريبة المالية الخارجة عن الزكاة والخمس المصطلح غير دقيق.
2- ان الاستشهاد بالآية ليس بلحاظ كون المأخوذ صدقة، حتى نقول بأن ذلك يتناسب مع قوله سبحانه﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً … ﴾ 22، وإنما بلحاظ أصل العطاء المالي لأنه يورث التطهير والتزكية بغض النظر عن ماهيته، فسواء كان زكاة أو خمسًا أو صدقة فهو يحقق الطهارة، ولهذا فإن الاستشهاد بالآية لا يعد قرينة تدل على أن المراد بالخمس خصوص الصدقة.
بل يفهم من الأخبار ان الصدقة المذكورة في الآية يراد منها على نحو الخصوص الزكاة الواجبة وإن كان المورد الذي نزلت فيه ربما تعلق بالصدقة بالمعنى الاخص، فقد ورد في صحيحة عبدالله بن سنان قال : قال أبو عبدالله : لما نزلت آية الزكاة﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا … ﴾ 22 وأنزلت في شهر رمضان، فأمر رسول الله  مناديه في الناس : “إن الله فرض عليكم الزكاة كما فرض عليكم الصلاة”24.
فهذه الصحيحة وبمعناها أخبار أخرى صريحة في أن المقصود بالصدقة في الآية الزكاة على نحو الخصوص، ولا يتعارض ذلك مع نزولها في مورد خاص وهو المتعلق بأبي لبابة كما في تفسير علي بن إبراهيم25ومجمع البيان26 أو المتعلق بالثلاثة الذين خلفوا كما في عوالي اللآلي26، وربما تكرر النزول، وذلك ان الصدقة التي أخذت منهم لتطهيرهم هي الزكاة الواجبة على جميع المسلمين، فقد جاء في عوالي اللآلي: فأخذ منهم الزكاة المقررة شرعًا27والظاهر أن هذا هو المراد من إذن النبي  لأبي لبابة بأن يدفع ثلث ماله ليتطهرَّ28، وقد يحمل فعل أبي لبابة على التبرع الزائد على الزكاة كما قد يفهم من الثلث لأن الزكاة أقل، والتبرع الزائد انما هو لخصوصية لأبي لبابة، فتكون الآية بذلك قد نزلت في مورد خاص يتعلق بتطهّر أشخاص معينين من ذنوبهم بعطاء مالي، لكن هذا العطاء المالي تمثل في الزكاة المفروضة نفسها، وقد اتخذ هذا المورد مناسبة لتشريع الزكاة ووجوبها على كافة المسلمين.
لهذا فاستشهاد الإمام الجواد  بالآية في صحيحة بن مهزيار لا يفهم منه أن المراد بالخمس في الصدر ليس الخمس المصطلح وإنما الصدقة، لأن الصدقة في الآية تعني الزكاة المفروضة، كما أن العلة وهي التطهير والتزكية تجري لا في خصوص الصدقة وإنما في كل عطاء مالي، فيصح الاستدلال بالآية في مجال الصدقة والخمس والزكاة وما إلى ذلك.
وأما نفي الإمام  غير الزكاة في تلك السنة فلا يلزم منه نفي الخمس المصطلح فقط، وإنما إذا قلنا بالعموم لزم نفي جميع الضرائب المالية حتى الصدقة، ولكننا لا نقول به كما أسلفنا وإنما نقول بصحة الاستثناء، وهو يفيد أن الإمام  لم يأخذ ضريبة كاملة من الضرائب المفروضة إلا الزكاة، وأما الخمس فقد أخذ منه بعضه تخفيفًا على المؤمنين نظرًا لوجود مصالح خاصة.

مناقشة الإشكال الثالث للمنتقى والأول للمدارك

وقد أجاب عنه صاحب المنتقى بأن خمس الأرباح حق للإمام  وقد أسقطه في أمور وأبقاه في خصوص الذهب والفضة، وبذلك يرتفع الإشكال.
إلا أن هذا الجواب محل نظر مبناءً لما سبق بيانه من عدم اختصاص الإمام  بخمس الأرباح وإنما يشاركه بقية شركائه المذكورين في الآية. نعم للإمام  حق الولاية بمقتضى منصب الإمامة، ولهذا فإجابة المنتقى محل إشكال بلحاظ الاختصاص وعدمه، لكنها صحيحة بلحاظ حق الولاية، وبناء على ذلك قدّم بعض الفقهاء أجوبة أخرى لرفع الإشكال أهمها ما ذهب إليه السيد الخوئي19وتبعًا له الشيخ السبحاني29من أن الذهب والفضة قد يراد منه ما يكون بنفسه موردًا للخمس كما لو وقع ربحًا في تجارة، وبالتالي يكون مستثنى من الأرباح التي أسقط الإمام الخمس فيها، والظاهر هذا هو الصحيح بدليل تعداد ما سقط فيه الخمس من الأرباح كالمتاع والآنية وأرباح التجارة والضياع إلا نوعًا واحدًا من الضياع، فتعداد الموارد التي سقط فيها الخمس يفهم منه عدم السقوط في موارد أخرى ومنها كما صرح الإمام  الذهب والفضة.
وقد يراد من الذهب والفضة بما هو ولم يكن موردًا للخمس كما لو كان إرثاً، فإن الإمام  له صلاحية جعل الخمس في الذهب والفضة في مقابل اسقاطه عما يجب فيه الخمس لمصلحة خاصة. والوجه الأول أصح وبه يرتفع الإشكال.

مناقشة الإشكال الثاني للمدارك

لعل ما أجاب به بعض المعاصرين كالسيد محمد سعيد الحكيم30والشيخ السبحاني31تبعًا للسيد الخوئي32أصح ما يقال، فإن الجائزة والميراث ممن لا يحتسب من مصاديق الغنائم بالمعنى العام الذي قرره أهل اللغة، ولا أقل من أنها مصاديق للفوائد المعطوفة في كلام الإمام  على الغنائم حيث قال  (فالغنائم والفوائد).
وأما ما قاله الإمام  (ومثل مال يؤخذ ولا يعرف له صاحب) حيث أُشكِل عليه بأن المراد منه مجهول المالك وهو لا يعد غنيمة ولا فائدة لوجوب التصدق به وعدم جواز تملكه، فقد يراد به المباحات الأصلية بتقريب ان مجهول المالك لا يقال عنه (لا يعرف له صاحب) وإنما يقال (لا يعرف صاحبه)، وإذا كان كذلك فهو من الغنائم والفوائد بلا إشكال17.
لكن هذا التقريب وإن كان محتملاً إلا أنه يبقى مجرد احتمال، والظاهر إرادة مجهول المالك منه، وآنئذ يمكن التوقف عن العمل بهذا المقطع فقط دون غيره مما ورد في الرواية كما احتمله صاحب مصباح المنهاج30، فتبقى الصحيحة على ما هي عليه من الحجية وهذا المقطع يرد علمه إلى أهله.

مناقشة الإشكال الرابع للمنتقى والثالث للمدارك

أجاب عنه صاحب المنتقى بما أجاب عن الإشكال الأول والثالث القاضي باختصاص الإمام  بخمس الأرباح وله حق المطالبة والاسقاط والتخفيف، لكنه يجاب بأن هذا الحق ليس راجعًا للاختصاص وإنما للولاية التي يقتضيها منصب الإمامة كما مرّ بيانه.
بمعنى أن الإمام  تخفيفًا منه على المكلفين اكتفى بأخذ نصف السدس من الضياع والغلات إذا كانت تقوم بمؤونتهم.
وبالتالي فإذا كان ما يؤخذ منها إنما هو من الخمس ولكن مع التخفيف فلا معنى لإشكال صاحب المدارك بأن مصرف نصف السدس غير معلوم، إذ أن مصرفه هو مصرف الخمس.
كما أن إشكاله بعدم وجود قائل بوجوب نصف السدس في الضياع والغلات لا محل له، إذا لم يدع أحد بأن هذا الحكم تشريع دائمي حتى يقول به أحد أو يقع فيه الاختلاف، بل هو إجراء وقتي تخفيفًا من الإمام  ويعود لمصلحة خاصة، ولذلك لا يمكن أن يجد له قائلاً.
طبعًا هذه الإجابة لا يُشكل عليها بعدم انسياقها مع ما جاء في كلام الإمام(في كل عام)عند تعرضه لإيجاب نصف السدس في الضياع والغلات، باعتبار أنه يوحي بكون هذا التشريع دائميًا وليس وقتيًا بهدف التخفيف.
فهذا الاشكال غير تام، لأن المراد من كل عام في كلامه  خصوص أعوام حياته، أي انه إجراء وقتي خاص بعصر إمامته فقط، ثم يعود الأمر فيه إلى الإمام التالي، ويفهم ذلك من صحيحة علي بن مهزيار الأخرى قال: (كتب إليه إبراهيم بن محمد الهمداني: أقرأني عليٌّ كتاب أبيك فيما أوجبه على أصحاب الضياع أنه أوجب عليهم نصف السدس بعد المؤنة، وأنه ليس على من لم يقم ضعيته بمؤنته نصف السدس ولا غير ذلك، فاختلف من قبلنا في ذلك، فقالوا: يجب على الضياع الخمس بعد المؤنة مؤنة الضيعة وخراجها لا مؤنة الرجل وعياله. فكتب – وقرأه علي بن مهزيار – عليه الخمس بعد مؤنته ومؤنة عياله وبعد خراج السلطان).
فالإضمار في الرواية يشار به إلى الإمام الهادي  بدلالة قول السائل (كتاب أبيك) ثم ذكر إيجاب نصف السدس الذي أخبره به علي بن مهزيار الوارد في صحيحته الأولى، لذلك فان مقصود السائل كتاب أبيك الجواد .
بالتالي فإن هذه الصحيحة تدلل على أن إيجاب نصف السدس إنما هو متعلق بعصر الإمام الجواد ، وبعده يؤول الأمر في الضياع والغلات إلى الإمام الذي يأتي من بعده، وبناء عليه أوجب الإمام الهادي  الخمس كاملاً.
هكذا أجاب على الإشكال جمع من المعاصرين مع اختلاف في بعض التفاصيل، كالسيد الخوئي33والسيد محمد سعيد الحكيم34والشيخ السبحاني35تبعاً للفقيه الهمداني في مصباح الفقيه36. وهي إجابة وافية وبها يندفع الإشكال.

إشكال الهمداني ومناقشته

استظهر الفقيه الهمداني من الرواية عدم اندراج الأرباح في الغنائم، ولو تم هذا الاستظهار لما أمكن الاستدلال بهذه الرواية على ما نحن فيه من دلالة الآية على كون الغنيمة تعني مطلق الأرباح والفوائد بمعونة الأخبار، ولذلك ينبغي النظر في هذا المدّعى.
جاء في عبارة الهمداني (ظاهر الرواية عدم اندراج أرباح التجارات والزراعات في الغنائم التي أوجب الله تعالى فيها الخمس في كتابه وأن خمس الغنائم ثابت في كل عام، فمن هنا يستشعر اختصاص هذا الخمس بالإمام  وأنه هو السبب في تصرفه فيه رفعًا وتخفيفًا، ولكنه لا يلتفت إلى هذا الظاهر بعد ورود التصريح في بعض الأخبار الآتية بأنه منها، فلعل جعله قسيمًا لها في هذه الرواية لخروجه عن منصرفها عرفًا لا لعدم كونه مرادًا بها في الواقع)37.
وتقريب هذا الاستظهار كما جاء في بيان صاحب مصباح المنهاج38أن الإمام الجواد ، في صدر الرواية أسقط الخمس عن خصوص الأرباح كما هو صريح قوله  (ولم أوجب عليهم في متاع ولا آنية ولا دواب ولا خدم ولا ربح ربحه في تجارة)، ثم في ذيل الرواية أثبته في الغنائم بقوله (وأما الغنائم والفوائد فهي واجبة عليهم في كل عام)، وذلك يشعر بأن أرباح التجارات ليست من الغنائم بدليل وجوب الخمس في الثانية دون الأولى، ولو كانت الأرباح من الغنائم لوجب الخمس فيها بوجوبه في الغنائم.
وأورد عليه السيد الخوئي بأن استظهاره يتم لو اقتصر الإمام  على ذكر الغنائم فقط، لكن إضافة الفوائد إليها قرينة قطعية على أن المراد معنى عام يشمل مطلق الأرباح وغيرها، بمعنى أن الفوائد هي تفسير الغنائم في قوله  (وأما الغنائم والفوائد)، ولاشك في شمول الفوائد للأرباح، وبالتالي فالأرباح هي من الغنائم والفوائد، وبهذا البيان يكون مفاد ما جاء في الصدر والذيل ان الخمس واجب في الغنائم والفوائد خرج منها بالتخصيص في السنة المذكورة بعض الأفراد كأرباح التجارات لمصلحة خاصة39.
وهذا الايراد مع معقوليته وإمكان التوفيق بين صدر الرواية وذيلها به، إلا أن الأنسب ما تم تقويته سلفًا من عدم وجود معارضة بدوية بين الصدر والذيل حتى نتفصّى منها بالتخصيص، وإنما الصدر عبارة عن اجراء ضريبي وقتي وليس حكمًا شرعيًا دائميًا، بينما الذيل تأسيس لقاعدة كلية وحكم شرعي دائمي بغض النظر عن تطبيقه وعدم تطبيقه، فالحكم في الأصل هو ما جاء في الذيل، لكن الإمام  وبمقتضى إمامته وولايته أجرى تخفيفًا على المؤمنين في تلك السنة نظرًا لمصالح خاصة وهو ما نطق به الصدر، وبالتالي فالأرباح الساقط وجوب تخميسها هي من الغنائم والفوائد الواجب تخميسها، غاية الأمر أن السقوط حصل لمصلحة خاصة لا أن الأرباح ليست من الغنائم كما استظهره الهمداني.
وبهذا لا داعي لما تكلفه صاحب مصباح المنهاج في إجابته على الهمداني من تفسير الخمس المذكور في الصدر بالصدقة، والمذكور في الذيل بالخمس المصطلح وبالتالي فالاختلاف في الحكم بسبب الاختلاف في الموضوع38، فقد سبق الايراد على هذه الإجابة عند مناقشة الإشكال الثاني لصاحب منتقى الجمان، وقلنا حينها بعدم الاختلاف في الموضوع وأن الاختلاف في الحكم مرجعه إلى الاختلاف بين القاعدة الكلية والاجراء الوقتي.
وبهذا نفسه يجاب على إشكال الفاضل اللنكراني، فهو صورة أخرى من إشكال الهمداني مع اختلاف اللحاظ، فالهمداني اعتبر الاثبات في الذيل والنفي في الصدر راجعًا إلى كون الأرباح ليست من الغنائم، بينما اللنكراني توقف عند الاثبات والنفي لكن من دون أن يخرج الارباح من الغنائم، بل اشكاله راجع إلى ان الأرباح هي من الغنائم ولذلك قال بعدم التناسب بين الصدر والذيل، إذ استشهاد الإمام  في الذيل بالآية الدالة على حكم كلي إلهي ثابت في جميع الاعصار لا يتناسب مع عدم ايجاب الخمس في الأرباح المذكور في الذيل خصوصًا مع عطف الفوائد على الغنائم وكون الأرباح من أظهر مصاديق الفوائد، وبالتالي لا مجال للتمسك بالعموم القاضي بوجوب خمس جميع الفوائد والأرباح في مورد التخصيص الذي يفيد بعدم وجوب خمس الأرباح40، بمعنى أن العلاقة بين العموم والتخصيص هنا لا تعني وجوب الخمس في الأرباح ماعدا البعض منها، إذ في هذه الحالة يمكن التمسك بالعموم، وإنما العلاقة بينهما تعني في الطرف الأول وجوب الخمس في الأرباح جميعها، لأنها من مصاديق الفوائد، وفي الطرف الثاني عدم وجوب الخمس في الأرباح، فالصدر يقول بعدم ثبوتها والذيل يقول بثبوتها.
فهذا الإشكال يرتفع بما سبق تقريره من أن الذيل ضرب لقاعدة كلية بينما الصدر إجراء وقتي ناظر لمصلحة عامة.
وبهذا تُحل سائر الإشكالات التي أقيمت على الرواية، ما يعني إمكانية العمل بها والاستدلال بها على المطلب. بل حتى لو بقيت بعض التساؤلات وشيء من الغموض حول بعض ما جاء في الرواية فإنه لا يسقطها عن الحجية، إذ في هذه الحالة يُرَدُّ علمُ ذلك إلى أهله ويُحتَجَّ بالباقي في مقام العمل.
إذاً يمكننا الاستدلال بصحيحة علي بن مهزيار على أن المراد بالغنيمة في قوله سبحانه﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ … ﴾ 1عموم الأرباح والفوائد لا خصوص غنيمة دار الحرب 41.

  • 1. a. b. c. d. القران الكريم: سورة الأنفال (8)، الآية: 41، الصفحة: 182.
  • 2. القران الكريم: سورة التوبة (9)، الآيات: 103 – 105، الصفحة: 203.
  • 3. تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي، ج4 ص141، دار الكتب الإسلامية- طهران، الطبعة الرابعة 1365هـ.ش.
  • 4. مدارك الأحكام، السيد محمد العاملي، ج5 ص383، مؤسسة آل البيت لأحياء التراث – قم، الطبعة الأولى 1410هـ.
  • 5. منتقى الجمعان، الشيخ حسن صاحب المعالم، ج2، ص439، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين – قم، 1406هـ.
  • 6. الحدائق الناضرة، الشيخ يوسف البحراني، ج12 ص359، دار الأضواء- بيروت، الطبعة الثانية 1405هـ.
  • 7. المصدر نفسه ص378.
  • 8. تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي، ج4 ص123، دار الكتب الإسلامية – طهران.
  • 9. المصدر نفسه، ج4 ص126.
  • 10. الكافي، محمد بن يعقوب الكليني، ج1 ص539، دار الكتب الإسلامية – طهران.
  • 11. وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج9 ص516، مؤسسة آل البيت لاحياء التراث – قم.
  • 12. مدارك الأحكام، مصدر سابق، ج5 ص399.
  • 13. منتقى الجمان، مصدر سابق، ج2 ص439.
  • 14. الحدائق الناضرة، مصدر سابق، ج12 ص378.
  • 15. a. b. مدارك الأحكام، ج5 ص399.
  • 16. الحدائق الناضرة، ج12، ص378.
  • 17. a. b. المصدر نفسه.
  • 18. الحدائق الناضرة، ج12 ص357.
  • 19. a. b. موسوعة الإمام الخوئي، مصدر سابق، ج25 ص204.
  • 20. الخمس في الشريعة الإسلامية الغراء، ص281.
  • 21. المصدر نفسه ص282.
  • 22. a. b. c. القران الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 103، الصفحة: 203.
  • 23. مصباح المنهاج، كتاب الخمس، السيد محمد سعيد الحكيم، ص176، مؤسسة الحكمة للثقافة الإسلامية.
  • 24. تفسير نور الثقلين، الحويزي، ج3 ص163، مؤسسة التاريخ العربي.
  • 25. المصدر نفسه، ص160.
  • 26. a. b. المصدر نفسه، ص161.
  • 27. المصدر نفسه ص162.
  • 28. المصدر نفسه ص161.
  • 29. الخمس في الشريعة الإسلامية الغراء، مصدر سابق، ص282.
  • 30. a. b. مصباح المنهاج، مصدر سابق، ص177.
  • 31. الخمس في الشريعة الاسلامية الغراء، ص262.
  • 32. موسوعة الإمام الخوئي، مصدر سابق، ص205.
  • 33. مصباح المنهاج، مصدر سابق ص178.
  • 34. الخمس في الشريعة الإسلامية الغراء، ص283.
  • 35. موسوعة الإمام الخوئي، مصدر سابق ص206.
  • 36. مصباح الفقيه، آقا رضا الهمداني، ج3 ص125، الطبعة القديمة.
  • 37. المصدر نفسه ص125.
  • 38. a. b. مصباح المنهاج، مصدر سابق، ص178.
  • 39. موسوعة الإمام الخوئي، مصدر سابق، ص207.
  • 40. تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، الخمس والانفال، ص117، مركز فقه الأئمة الأطهار.
  • 41. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ فيصل العوامي حفظه الله.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى