لقد ظهرت في العالم العربي والإسلامي ثلاث مقولات متمايزة في الدلالات والإشارات والرموز، مثلت منظورات الرؤية للخطابات الثقافية والسياسية في هذه المنطقة، منظوراتها إلى الواقع الموضوعي فيما هو كائن وما ينبغي أن يكون. هذه المقولات هي (الثورة والنهضة والإصلاح)، وقد تقاسمت تلك الخطابات من حيث العموم الأغلب هذه المقولات، وعرفت بها في أزمنة، وتغيرت الصورة معها في أزمنة أخرى، ووصلت اليوم إلى مآلات أخرى مغايرة عما كانت عليه في السابق. فالخطاب القومي العربي بعد ثورة يوليو1952م في مصر، تبنى مقولة الثورة وعرف بها، وظل يروج لها، ويبشر بها، وتكثف حضورها في أدبياته وكتاباته وإعلامياته، في المقابل عرف الخطاب الليبرالي بمقولة النهضة التي تبناها وظل يمايز نفسه بها، ومجادلاً بها مقولة الثورة ناقداً لها ومشككاً فيها، وداعياً إلى الاستلهام من عصر النهضة في أوروبا، ومحاولة اقتفاء أثر ذلك العصر الذي اكتسب منه هذه المقولة وتعلقه بها، وظل يبشر أو يحلم بعصر للنهضة في العالم العربي. كما عرف الخطاب الإسلامي بمقولة الإصلاح باعتبارها المقولة التي وردت وتواترت في النص الديني، كقوله تعالى﴿ … إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ … ﴾ هذا من حيث العموم الأغلب كما أشرت إلى ذلك، ومن حيث التفاضل أيضاً، لأن هناك تداولا لتلك المقولات في معظم الخطابات على اختلاف مرجعياتها ومسلكياتها.
وكل واحدة من هذه المقولات لها منطقها الداخلي في طريقة التعاطي مع الواقع الموضوعي العام، فالثورة لها منطق المواجهة والصدام والتغيير الكلي، في حين أن منطق النهضة هو المواكبة والتحديث والتغيير الهادئ، أما الإصلاح فمنطقه التقويم والتهذيب والتغيير التدريجي. كما تختلف هذه المقولات من حيث طبيعتها السيكولوجية فالثورة تعرف بمزاجها العاطفي والحاد، والنهضة تعرف بمزاجها الذهني والبارد، ويعرف الإصلاح بمزاجه الأخلاقي والهادئ، إلى غير ذلك من مفارقات ذهنية ونظرية. أما على مستوى الواقع والتطبيق فهناك ما يشبه العبور والانتقال بين هذه المقولات، فهناك عبور وانتقال من مقولة الثورة إلى مقولة النهضة في مرحلة، وعبور وانتقال إلى مقولة الإصلاح في مرحلة أخرى. فبعد أن كانت الثورة هي المقولة التي لا تنازع والمهيمنة بشدة على الخطاب القومي العربي خصوصاً مع صعود المد القومي، بحيث أن المنظرين لهذا الخطاب كما يصفهم الدكتور محمد عابد الجابري وصلوا إلى درجة جعلتهم يقصون من قاموسهم كلمة نهضة باعتبار أن العصر هو عصر الثورة، وليس عصر النهضة أو الإصلاح، هذا إلى ما قبل هزيمة 1967م، لكنه بعد هذه الهزيمة ومع بداية السبعينيات من القرن الماضي تحول الشعار من مقولة الثورة إلى مقولة النهضة، ويعتبر الجابري هذا التحول هو تحول من حلم الثورة إلى حلم النهضة، و أن الثغرة والنقص التي كانت في زمن شعار الثورة بقيت في زمن شعار النهضة.
أم التحول الآخر فهو العبور والانتقال من مقولة النهضة إلى مقولة الإصلاح، وهذا التحول ندركه من جهتين، من جهة الإحساس بتراجع وانكسار مشروع النهضة كالذي عبر عنه غالي شكري في كتابه (النهضة والسقوط) في أواخر السبعينيات، وعبر عنه جورج طرابيشي في كتابه (من النهضة إلى الردة) في أواخر التسعينيات من القرن الماضي، وعبر عنه العديد من الكتاب والمثقفين العرب، وهكذا من جهة تقدم وصعود مقولة الإصلاح التي تشهد تفوقاً من هذه الناحية على مقولة النهضة، أو حتى غيرها من المقولات الأخرى. وأكثر ما يلفت النظر في مقولة الإصلاح أنها باتت تمثل حالة التقاء بين مختلف الخطابات الثقافية والسياسية على اختلاف مرجعياتها ومكوناتها، واختلاف منظوراتها واستشرافاتها، فهي المقولة التي يكاد الجميع يتحدث عنها وكأنها مقولة الجميع، فهي الأكثر حضوراً وتداولاً وتأكيداً في الأحاديث والنقاشات والكتابات، والذين افترقوا سابقاً في اختيار مقولاتهم ووصفوا أنفسهم على أساس تباين تلك المقولات، فانهم بعد ذلك الافتراق الذي نظروا وأصلوا له، يلتقون اليوم على مقولة مشتركة هي مقولة الإصلاح، بغض النظر عن تعدد وتباين تفسيراتهم وتحليلاتهم ومرئياتهم لهذه المقولة وما يريدون منها.
هذا العبور أو الانتقال من و إلى بين هذه المقولات يمثل ظاهرة فكرية وسياسية، من نوع الظواهر الناضجة أو هكذا يمكن وصفها لأهمية وقيمة الحاجة لتكوين المعرفة بها أولاً، ولتحليلها ودراستها ثانياً، هي ظاهرة فكرية لأنها تعبر عن تحولات في نظام الأفكار، وظاهرة سياسية لأنها تعبر عن تحولات في قراءة الواقع الموضوعي. والمحصلة النهائية أن الجميع وجدوا أنفسهم أمام معركة مشتركة هي معركة الإصلاح1.
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الأربعاء 19 نوفمبر 2003م، العدد 13598.