نص الشبهة:
قال البغدادي: «ان من الغرابة بمكان ان يكون الطريق الوحيد هو ان يختار النبي بأمر الله شخصا / هو علي / يعده قياديا ورساليا ومع ذلك لم يجد أغلبية تؤيده من الجيل الطليعي للامة».
الجواب:
أقول: لم يكن الصحابة معصومين وقد تورطوا في اكثر من مرة بمخالفة النص الصريح وقصة متعة الحج من اكبر الشواهد.
الرد على الشبهة
أقول: تزول هذه الغرابة إذا عرفنا ان أغلبية الصحابة كانوا قد خالفوا في تشريعات عبادية فضلا عن غيرها ولعل افضل حادثة تصور لنا هذه الحقيقة بكل وضوح هي مسألة حج التمتع وقد وردت أخبارها في كل كتب الحديث والى القارئ الكريم خلاصة عنها:
العمرة والحج في الإسلام
هناك ثلاثة أنواع من الحج في الإسلام:
الأول حج التمتع: وهو فرض من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، ويتألف من عمرة التمتع وحج التمتع، وصورة عمرة التمتع هي، ان يحرم من الميقات في اشهر الحج ثم يأتي مكة ويطوف بها سبعا، ثم يصلي ركعتي الطواف، ثم يسعى بين الصفا والمروة سبعا، ثم يقصر، فيحل من جميع ما حرم عليه بالإحرام، ويقيم بمكة محلا إلى يوم التروية أي اليوم الثامن من ذي الحجة فينشئ إحراما لحج التمتع من الحرم، ثم يخرج إلى عرفات، ثم يفيض عنها بعد غروب التاسع إلى المشعر، ومنه إلى منى لرمي جمرة العقبة الكبرى، ثم الذبح ثم الحلق ان كان حجه ضرورة و به يتحلل إلا من النساء والطيب، ثم يطوف ويصلي ويسعى فيحل له الطيب، ثم يطوف طواف النساء ويصلي فتحل له النساء، ثم يرجع إلى منى للمبيت بها ورمي الجمرات الثلاث، فإذا بات ليلتين بمنى جاز له النفر في اليوم الثاني عشر بعد الزوال، ويسمى هذا الحج بحج التمتع، لان الحاج يتمتع بالحل بين إحرامي العمرة، والحج ومدة الحل بين الإحرامين هي متعة الحج التي حرمها الخليفة عمر وتبعه أكثر المسلمين في وقته.
الثاني حج الإفراد: ويتألف من حج أولا ثم عمرة يأتي بها بعد الانتهاء من المناسك في منى، وتسمى هذه العمرة بالمفردة، كما يسمى الحج بحج الإفراد، لان الحاج يأتي بكل منهما مفردا وليس في هذا الحج هدي.
الثالث حج القران: هو كحج الإفراد مع ملاحظة ان الحاج يسوق الهدي معه عند إحرامه، وقد سمي بذلك لان الحاج يقرن بين التلبية وسوق الهدي.
والنوعان الأخيران من الحج فرض حاضري المسجد الحرام.
العمرة والحج في الجاهلية
كان الحج والعمرة من أهم الشعائر في الجاهلية وهما إضافة إلى أمور أخرى مما بقي من دين إبراهيم (عليه السلام)، وقد تحملت قريش بوصفها سكان البيت وذرية إبراهيم (عليه السلام)مسئولية إقامة الحج وتعليم الناس الوافدين إلى مكة أحكام الحج وكانت مكة قد عَظُمَ شأنها بعد حادثة الفيل، وانعكس ذلك على قريش، وابتدعت قريش بعد وفاة عبد المطلب بدعا خاصة في الحج وتابعتها العرب على ذلك، وكان من تلك البدع هو بدعة تحريم العمرة في أشهر الحج وجعلها من افجر الفجور.
قال ابن القيم: (اعتمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد الهجرة أربع عمر كلهن في ذي القعدة.. و المقصود مخالفة هدي المشركين فانهم كانوا يكرهون العمرة في اشهر الحج) 1.
حجة الوداع
كانت حجة الوداع هي الحجة الأولى والأخيرة التي بيَّن النبي (صلى الله عليه وآله) فيها أحكام حج التمتع، وكان قد جعل عمرة التمتع جزءا من الحج، وقد وقعت هذه الحجة في السنة العاشرة من الهجرة، وذلك بعد ان أسلمت جزيرة العرب ومن شاء الله من أهل اليمن وقدم المدينة بشر كثير يريدون ان يأتموا برسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال أهل السير: «فخرج لخمس بقين من ذي القعدة ومعه أزواجه وأهل بيته وعامة المهاجرين والأنصار ومن شاء الله من قبائل العرب وإفناء الناس» 2.
روى أبو داود في سننه 3 ان النبي (صلى الله عليه وآله) لما وصل إلى عسفان (وهي بين الجحفة ومكة و الجحفة تبعد عن مكة أربعة مراحل) قال له سراقة بن مالك المذحجي يا رسول الله اقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم فقال (صلى الله عليه وآله):
«ان الله تعالى قد ادخل عليكم في حجكم هذا عمرة فإذا قدمتم فمن تطوف بالبيت وبين الصفا والمروة فقد حل إلاّ من كان معه هدي».
وتكرر منه (صلى الله عليه وآله) نظير ذلك في (سَرَف) التي تبعد ستة أميال من مكة 4.
ولننظر الآن كيف تلقى الصحابة تشريع حج التمتع.
موقف قريش من حج التمتع
روى مسلم في صحيحه 5 عن جابر قال:
«أهللنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالحج فلما قدمنا مكة امرنا ان نحل ونجعلها عمرة فَكَبُرَ ذلك علينا وضاقت به صدورنا فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله).. فقال: أيها الناس أحلوا، فلولا الهدي الذي معي فعلت مثل الذي أمرتكم به. قال فأحللنا حتى وطئنا النساء، وفعلنا ما يفعل الحلال حتى إذا كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهر أهللنا بالحج».
وفي رواية البخاري في صحيحه عن جابر أيضا: «فبلغه (أي النبي (صلى الله عليه وآله)) انا نقول: لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلا خمس امرنا ان نحل إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا».
ومثله رواية مسلم وابن ماجة وأبي داود ومسند احمد.
وفي رواية أخرى للبخاري 6 أيضا: «ففشت في ذلك القالَةُ فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله)فقام خطيبا فقال: بلغني ان أقواما يقولون كذا وكذا والله لانا أبَرُّ واتقى لله منهم» وفي رواية سنن ابن ماجة ومسند احمد ومجمع الزوائد: «قال الناس يا رسول الله قد احرمنا بالحج فيكف نجعلها عمرة؟ قال: انظروا ما آمركم به فافعلوا، فردوا عليه القول، فغضب، فانطلق ثم دخل على عائشة وهو غضبان فرأت الغضب في وجهه فقالت: من أغضبك أغضبه الله! قال: ما لي لا اغضب وأنا آمر أمرا فلا أُتَّبَع» 7.
وفي رواية مسلم 8: «قالت عائشة: قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأربع مضين من ذي الحجة أو خمس فدخل عليَّ وهو غضبان، فقلت من أغضبك يا رسول الله ادخله الله النار؟ قال: وما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون».
قال العلامة العسكري: «يبدو ان الممتنعين من التمتع بالعمرة إلى الحج الذين تعاظم عليهم ذلك كانوا من مهاجرة قريش من أصحاب النبي ويدل على ذلك أولا: ما رواه ابن عباس في حديثه (ان هذا الحي من قريش ومن دان دينهم كانوا يحرمون العمرة حتى ينسلخ ذو الحجة ومحرم). وثانيا: ان الذين منعوها بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) هم ولاة المسلمين من قريش».
حج التمتع على عهد ابي بكر
روى البيهقي عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال:
«حججتُ مع أبي بكر فجرَّد، ومع عمر فجرد ومع عثمان فجرد» 9. ومعنى جَرَّد أي افرد الحج.
حج التمتع على عهد عمر
روى مالك بن انس في الموطأ عن عبد الله بن عمر قال:
«ان عمر بن الخطاب قال: افصلوا بين حجكم وعمرتكم فان ذلك أتم لحج أحدكم وأتم لعمرته ان يعتمر في غير أشهر الحج».
وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم ومسند احمد وغيرهم عن أبي موسى الأشعري قال: «كنت أفتي الناس بذلك (أي بالحل بعد إتمام أعمال متعة الحج) في إمارة أبي بكر وإمارة عمر فإني لقائم بالموسم إذ جاءني رجل فقال انك لا تدري ما احدث أمير المؤمنين في شان النُّسُك فقلت: أيها الناس من كنا أفتيناه بشىء فليتئد فهذا أمير المؤمنين قادم عليكم فبه ائتموا 10.. ثم ذكر أمره بفصل الحج عن العمرة».
وفي حلية الأولياء 11: «ان عمر بن الخطاب نهى عن المتعة في اشهر الحج وقال: فعلتها مع رسول الله وأنا أنهى عنها وذلك:
ان أحدكم يأتي من أفق من الآفاق شعثا نصبا معتمرا أشهر الحج وإنما شعثه ونصبه وتلبيته في عمرته ثم يقدم فيطوف بالبيت ويحل ويلبس ويتطيب ويقع على أهله ان كانوا معه حتى إذا كان يوم التروية أهَلَّ بالحج وخرج إلى منى يلبي بحجة لا شعث فيها ولا نصب ولا تلبية إلا يوما، والحج أفضل من العمرة، لو خلينا بينهم وبين هذا لعانقوهن تحت الأراك، وان أهل هذا البيت (أي أهل مكة) ليس لهم ضرع ولا زرع، وإنما ربيعهم في من يطرأ عليهم».
وفي رواية مسلم: «فقال عمر: قد علمت ان النبي فعله وأصحابه ولكن كرهت ان يضلوا معرِّسين بهن في الأراك ثم يروحون في الحج تقطر رؤوسهم» 12.
وقد نقل النووي في شرح صحيح مسلم 13 عن القاضي عياض ان عمر كان يضرب على متعة الحج».
حج التمتع على عهد عثمان
تابَعَ الخليفة عثمان سَلَفه عمر في ما استن من الفصل بين الحج والعمرة والضرب عليها قال ابن حزم 14: «ان عثمان سمع رجلا يُهِلُّ بعمرة وحج، فقال: عليَّ بالمُهِل، فضربه وحلقه»، الضرب للتأديب والحلق للتشهير، وفي الشطر الثاني من خلافة عثمان حيث نَقِمَ المسلمون عليه كثيرا من أحداثه، سجلت كتب الحديث اكثر من رواية تشرح معارضة علي (عليه السلام) بقوة تحريم متعة الحج.
موقف علي (عليه السلام) من حج التمتع
روى مالك في الموطأ: «ان المقداد بن الأسود دخل على علي (عليه السلام) بالسُقْيا وهو يُنجِع بَكرات له دقيقا وخبطا، فقال هذا عثمان بن عفان ينهى ان يقرن بين الحج والعمرة، فخرج علي (عليه السلام)وعلى يديه اثر الدقيق والخبط فما أنسى اثر الدقيق والخبط، على ذراعيه، حتى دخل على عثمان فقال: أنت تنهى عن ان يُقْرَنَ بين الحج والعمرة، فقال: عثمان ذلك رأيي، فخرج عليٌّ (عليه السلام) مغضبا وهو يقول: لبيك اللهم لبيك بحجة وعمرة معا 15.
وفي سنن النسائي ومستدرك الصحيحين ومسند احمد واللفظ للاول عن سعيد بن المسيب قال: «حج علي وعثمان فلما كنا ببعض الطريق نهى عثمان عن التمتع فقال علي إذا رأيته ارتحل فارتحلوا فلبى علي وأصحابه بالعمرة…» 16.
قال الإمام السندي بهامشه: «قال (إذا رأيتموه قد ارتحل فارتحلوا) أي ارتحلوا معه ملبين بالعمرة ليعلم أنكم قدمتم السنة على قوله، وانه لا طاعة له في مقابل السنة» 17.
وفي صحيح البخاري وسنن النسائي وسنن الدارمي وسنن البيهقي ومسند احمد ومسند الطيالسي وغيرها عن علي بن الحسين (عليهما السلام) عن مروان بن الحكم قال: «شهدت عثمان وعليا (عليه السلام) وعثمان ينهى عن المتعة وان يجمع بينهما فلما رأى علي أهل بهما لبيك بعمرة وحجة معا قال ما كنت لأدع سنة النبي (صلى الله عليه وآله) لقول أحد» 18.
وفي لفظ النسائي: «فقال عثمان أتفعلها وأنا أنهى عنها فقال علي لم اكن لأدع سنة رسول الله لأحد من الناس».
هذا هو موقف علي (عليه السلام) من أمر متعة الحج في عهد عثمان، وهو موقفه ايضا في عهد عمر ولكنه (عليه السلام) لم يتابع إنكاره على عمر، بقوة لشدة عمر المعروفة ولما تولى علي (عليه السلام) الأمر بعد قتل عثمان كان من الطبيعي ان يحث على إقامة سنة النبي (صلى الله عليه وآله)في حج التمتع وغيرها وكذلك كان الأمر في عهد الحسن (عليه السلام).
حج التمتع على عهد معاوية
لما تولى معاوية أمر الحكم عمل على إحياء سنن الخلفاء الثلاثة وكان منها تحريم متعة الحج ففي سنن النسائي عن ابن عباس قال: هذا معاوية ينهى الناس عن المتعة. وقد تمتع النبي (صلى الله عليه وآله).
وفي موطأ مالك وسنن النسائي وسنن الترمذي عن محمد بن عبد الله بن الحارث: «انه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس عام حج معاوية، وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال الضحاك: يا بن قيس لا يفعل ذلك إلا من جهل أمر الله عز وجل، فقال سعد: بئس ما قلت يا بن أخي، فقال الضحاك: فإن عمر بن الخطاب قد نهى عن ذلك، فقال سعد: قد فعلها رسول الله وفعلناها معه».
أقول: قوله (قد فعلها رسول الله)، تعبير غير صحيح من الراوي لان رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان قد ساق الهدي ولم يحل، وإنما أمر بالحل.
لقد جدَّ معاوية خاصة بعد وفاة الحسن (عليه السلام) في المنع من متعة الحج فلم يكن يجرؤ من يعرف الحقيقة وثبت عليها من المجاهرة بها كما يظهر من الرواية الآتية:
روى مسلم عن مطرِّف قال: «بعث إليَّ عمران بن الحصين في مرضه الذي توفي منه فقال: أني محدثك بأحاديث لعل الله ان ينفعك بها بعدي فان عشت فاكتم عني وان مت فحدِّث بها ان شئت.. واعلم ان نبي الله (صلى الله عليه وآله) قد جمع بين حج وعمرة، ثم لم ينزل فيها كتاب يحرم، ولم ينه عنها رسول الله، قال فيها رجل برأيه ما شاء» 19.
أقول: أراد بالرجل الذي قال فيها برأيه ما شاء هو عمر.
حج التمتع على عهد ابن الزبير
ولما ولي ابن الزبير مكة أكثر من عشر سنوات واصل هو وبنو أبيه في منع المسلمين من عمرة التمتع فوقعت بينهم وبين أتباع علي (عليه السلام) مناظرات ومساجلات، ففي صحيح مسلم 20: «كان ابن عباس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهى عنها».
وفي زاد المعاد: «قال عبد الله بن الزبير افرِدوا الحج أي لا تجمعوا بين الحج والعمرة ودعوا قول أعماكم هذا (يريد ابن عباس)فقال عبد الله بن عباس: ان الذي أعمى قلبه لأنت، ألا تسأل أمك عن هذا، فأرسل إليها فقالت: صدق ابن عباس جئنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) حجاجا فجعلناها عمرة، فحللنا الإحلال كله، حتى سطعت المَجامِر بين الرجال والنساء» 21.
وفي مسند احمد: «قال عروة بن الزبير لابن عباس: متى تضل الناس يا بن عباس؟
قال وما ذاك يا عُرَيَّة 22؟
قال تأمرنا بالعمرة في أشهر الحج وقد نهى عنها أبو بكر وعمر!
فقال ابن عباس: قد فعلها رسول الله (صلى الله عليه وآله) 23. وفي رواية أخرى «فقال ابن عباس: أراهم سيهلكون أقول قال النبي (صلى الله عليه وآله) ويقولون نهى أبو بكر وعمر 24.
وفي صحيح مسلم عن أبي نضرة قال: «كنت عند جابر فأتاه آت فقال: ان ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين فقال جابر فعلناها مع رسول الله ثم نهى عنها عمر فلم نَعُد لهما 25.
ولم يفلح ابن الزبير في إرجاع الناس في أمر متعة الحج إلى ما سنه فيها عمر، وتعلقت قلوبهم بسنة النبي (صلى الله عليه وآله) كما أحياها علي (عليه السلام)، ففي صحيح مسلم:
«قال رجل من بني الهجيم لابن عباس ما هذه الفتيا التي تشغفت أو تشغبت بالناس ان من طاف بالبيت فقد حل فقال سنة نبيكم وان رغمتم، وفي رواية بعدها: ان هذا الأمر قد تفشغ بالناس من طاف بالبيت فقد حل» 26. وقوله تشغفت أي علقت بقلوب الناس وتشغبت أي خلطت عليهم أمرهم وتفشغ أي انتشر وفشا بين الناس.
حج التمتع على عهد بني مروان
وحاول عبد الملك ومن جاء من بعده من حكام بني أمية أحياء موقف عمر، وكان الناس في زمانهم يتخوفون من الإفتاء بمتعة الحج كما يظهر ذلك من رواية ابن حزم عن منصور بن المعتمر قال:حج الحسن البصري وحججت معه في ذلك العام، فلما قدمنا مكة جاء رجل إلى الحسن، فقال: يا أبا سعيد إني رجل بعيد الشقة من أهل خراسان وإني قدمت مُهِلاًّ بالحج، فقال له الحسن: اجعلها عمرة واحل، فأنكر ذلك الناس على الحسن، وشاع قوله بمكة، فأتى عطاء بن أبي رباح فذكر ذلك له، فقال صدق الشيخ لكنا نفرق ان نتكلم بذلك» 27.
حج التمتع على عهد بني العباس
زال التخوف والحرج عن المسلمين عن العمل بمتعة الحج في عصر بني العباس، وانتشر القول بعمرة التمتع على عهدهم ولعل لموقف جدهم عبد الله بن العباس دخلا في ذلك، وعلى عهدهم تبنى احمد بن حنبل القول بعمرة التمتع ثم استمر في أتباعه إلى اليوم 28.
العبرة من قصة حج التمتع
أقول: إذا كان سبعون ألفا إلى مائة ألف أو اكثر كانوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حجة الوداع، وهي آخر سنة من حركة النبوة، قد سمعوا من النبي (صلى الله عليه وآله) أمر حج التمتع ثم عملوا به بعد مشاكسة وممانعة، ومع ذلك استطاع الخليفة عمر ان ينهاهم عنها، ويعاقبهم إذا خالفوا أمره فيها، ولم يجرؤ على الوقوف أمام هذه المخالفة إلا علي (عليه السلام) ونفر من أصحابه معه كمقداد وعمار وغيرهما، فهل يُستغرَب منهم ان يخالفوا نص النبي (صلى الله عليه وآله) في علي (عليه السلام) في حادثة الغدير ودواعي المخالفة هنا أقوى لمكان الرئاسة والتقدم على الغير؟
ثم لو قارن الباحث بين كيفية تبليغ النبي (صلى الله عليه وآله) حكم متعة الحج وتدرجه فيه وكيفية تبليغ النص في ولاية علي (عليه السلام) وتدرجه فيه، ثم ردود الفعل إزاء الحُكمين في زمان النبي وبعده، وكيفية تخطيط علي (عليه السلام) لإحياء نص النبي (صلى الله عليه وآله) فيه وفي أهل بيته يوم الغدير وإحياء سنته (صلى الله عليه وآله) في متعة الحج، لدهش من شدة التشابه، وقد جعل الله تعالى في ذلك عبرة لمن أراد الاعتبار.
ويتضح تدرج النبي (صلى الله عليه وآله) في تبليغه امر متعة الحج حين سئل في الطريق عن ذلك وقوله (صلى الله عليه وآله) (دخلت العمرة في الحج الى الابد)، وقوله (صلى الله عليه وآله) (من شاء منكم ان يجعلها عمرة او يجعلها حجة). ثم لما أتموا طوافهم أمرهم أمرا قاطعا بان من لم يسق الهدي ان يجعلها عمرة وكان رد فعلهم زمن النبي (صلى الله عليه وآله) هو كثرة لغطهم ومناقشتهم للنبي (صلى الله عليه وآله)حتى اغضبوه، اما رد فعلهم بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) فهو العمل على خلافها زمن ابي بكر ثم نهي عمر كل المسلمين عن العمل بها.
وتميز موقف علي (عليه السلام) بالاستنكار على عمر استنكارا لينا لما يعلم من شدته، ثم استنكارا شديدا على عثمان في اخريات حكومته حيث تضعضعت سلطته، وكثر كلام الناس عليه، ثم العمل على احياء متعة الحج زمان حكمه.
اما تدرج النبي (صلى الله عليه وآله) في تبليغه الولاية لأهل البيت (عليهم السلام) وتسمية علي (عليه السلام) فهو واضح لمن يتأمل كلمات النبي (صلى الله عليه وآله) فيهم منذ واقعة الدار والى ما قبل حجة الوداع، اذ يجدها خاصة غير عامة فحديث الدار كان مع بني هاشم، وحديث الكساء كان امام ام سلمة وامام هذه المجموعة او تلك من أصحابه وهكذا الأمر في كل ما اثر عنه (صلى الله عليه وآله) من أحاديث في فضل علي (عليه السلام) او احد من اهل بيته، اما في خطبته يوم عرفة وحديثه في الغدير فقد كان ذكر اهل بيته وعلي (عليه السلام) أمام كل أصحابه الذين بلغ عددهم مأة ألف أو يزيدون، وقد كثر لغطهم لما قرن النبي (صلى الله عليه وآله) اهل بيته بالقرآن وجعل التمسك بهما أمانا من الضلالة وذكر الاثني عشر منهم 29، وبسبب اللغط والصخب لم يسم عليا في خطبته في عرفة.
وعند رجوعه (صلى الله عليه وآله) من الحج ووصوله الى غدير خم نزل قوله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ 30 31 فقام النبي وخطب اصحابه وذكر اهل بيته (عليهم السلام)وسمى عليا (عليه السلام)، وجعل ولاية علي كولايته وهي كولاية الله تعالى واستجاب الناس لأمر الله في علي وسلموا جميعا عليه بإمرة المؤمنين، حتى قال عمر بخ بخ لك يا علي أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن و مؤمنة.
وكان رد الفعل بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) هو العدول عن علي (عليه السلام) بل النهي عن ذكر أحاديث النبي فيه وفي اهل بيته بل نهيهم عن رواية السنة النبوية مطلقا كرد فعلهم ازاء حج التمتع ونهيهم عنها، كما مرت مصادر دلك فى صفحة 159 ـ 163 من هذا الكتاب.
وتميز موقف علي (عليه السلام) بالاستنكار على أهل السقيفة والامتناع عن البيعة ثم سالمهم حفظا على حياته، ولما صار الأمر اليه بعد قتل عثمان احيا ما ذكره النبي (صلى الله عليه وآله)فيه وفي اهل بيته، وفي مسجد الكوفة وهو يجمع الالاف المؤلفة من المصلين روى علي (عليه السلام) حديث الغدير واستنشد من كان حاضرا من الصحابة لتأييده، وبسبب ذلك صارت رواية حديث الغدير متميزة من ناحية كثرة رواتها من الصحابة والتابعين وقد سجل الحافظ ابن عقدة في القرن الرابع الهجري رواية مأة وعشرة من الصحابة الأمر الذي لم يسجل مثله لاي حديث آخر من أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله) سواء في الفضائل او في الأحكام 32.
- 1. زاد المعاد 1 / 209.
- 2. الإمتاع 1: 511. وفي السيرة الحلبية 3: 308 ان الذين خرجوا معه كانوا أربعين ألفا وقيل كانوا سبعين ألفا وقيل كانوا تسعين ألفا وقيل كانوا مائة الف وأربعة عشر ألفا وقيل عشرين ألفا وقيل كانوا أكثر من ذلك.
- 3. 1: 159.
- 4. صحيح البخاري 1: 189. وصحيح مسلم: 875. وأيضا في بطحاء مكة سنن البيهقي 5: 4.
- 5. صحيح مسلم: 882 ح 138.
- 6. 2: 52.
- 7. مسند احمد 4: 286، مجمع الزوائد 3: 233، سنن ابن ماجة: 993.
- 8. صحيح مسلم: 879.
- 9. سنن البيهقي 5: 5.
- 10. يؤكد قول الأشعري هذا ان السلطة القرشية بعد النبي (صلى الله عليه وآله) كانت قد عرضت نفسها على انها السلطة التشريعية، بمعنى ان الدين هو ما تقرره، مضافا إلى السلطة الإجرائية.
- 11. 5: 205.
- 12. صحيح مسلم: 896 ح157. مسند الطيالسي 2: 70 ح516. مسند احمد 1: 49 ـ 50، سنن النسائي 2: 16. من هذه الرواية نفهم ان عمر كان من الذين أنكروا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) امر متعة الحج وانه قال ضمن من قال (انغدوا حجاجا ورؤوسنا تقطر).
- 13. 1: 170.
- 14. المحلى 7: 107.
- 15. موطأ مالك الحديث 40 من باب القِران في الحج: 336، وابن كثير 5: 129، و(السقيا) قرية جامعة بطريق مكة، و(ينجع) يسقي، و(بكرات) جمع بكرة ولد الناقة أو الفتى منها، و(الخَبْط) ضرب من ورق الشجر حتى ينحات عنه ثم يستخلف من غير ان يضر ذلك باصل الشجر واغصانها قال الليث (الخَبَط) خَبَط ورق العِظاء من الطلح ونحوه يخبط يضرب بالعصا فيتناثر ثم يعلف الابل.
- 16. سنن النسائي 2: 15 كتاب الحج باب حج التمتع. ومسند احمد 1: 57 الحديث 402 بمسند عثمان. ومستدرك الصحيحين 1: 472. وتاريخ ابن كثير 5: 126 و 127.
- 17. يتضح من الرواية وتعليق السندي ان عليا (عليه السلام) واصحابه كانوا في الحج على السنة وكان عمر وعثمان ومن اقتدى بهما على خلاف السنة.
- 18. صحيح البخاري 1: 190.
- 19. صحيح مسلم: 168، 161، 169. وعمران بن حصين توفي بالبصرة سنة اثنتين وخمسين. يتضح من هذه الرواية ان السلطة القرشية بعد النبي (صلى الله عليه وآله) كانت قد عرَّضت سنة محمد (صلى الله عليه وآله) للتحريف حين ادخلت فيها برأيها ما شاءت كما عرَّضت سنة ابراهيم في الحج بعد وفاة عبد المطلب حين ادخلت فيها برأيها ما شاءت من بدعة الحمس وتحريم العمرة في اشهر الحج.
- 20. الحديث 194.
- 21. زاد المعاد 1: 248. انظر أيضا زوائد المسانيد الثمانية 1: 330 الحديث 1108 والمصنف لابن أبي شيبة 4: 103.
- 22. تصغير عروة.
- 23. مسند احمد 1: 252.
- 24. مسند احمد: 337.
- 25. صحيح مسلم الحديث 1249 ص 914.
- 26. صحيح مسلم: 206 ـ 207.
- 27. المحلى 7: 103. توفي الحسن البصري سنة 110 هجـ وقد قارب التسعين وعطاء توفي سنة114هجـ.
- 28. استفدنا أكثر ما ورد من بحث العلامة العسكري في كتابه معالم المدرستين ط 4 ج 2: 197 ـ 251. ويعد بحثه في حج التمتع بحق افضل ما كتب في بابه.
- 29. مسند احمد ج5: 99 حديث سمرة بن جندب.
- 30. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 67، الصفحة: 119.
- 31. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 67، الصفحة: 119.
- 32. شبهات وردود: الحلقة الثانية: الرد على الشبهات التي أثارتها نشرة الشورى ـ و هي نشرة تابعة لأحمد الكاتب بتوقيع الدكتور عبد الله البغدادي ـ حول النص على الإمام علي (ع): الفصل السابع.