نص الشبهة:
يزعم الشيعة أن أئمتهم معصومون، وأن مهديهم موجود، يتصل به بعض علماء مذهبهم، قيل إنهم ثلاثون رجلاً، فكيف بعد هذا الزعم يسوغ الاختلاف والخلاف في مذهبهم، الذي لا يكاد يوجد له نظيرٌ في جميع الفرق والطوائف، حتى إنَّه يكاد أن يكون لكل مجتهدٍ أو مرجعٍ من علمائهم مذهب خاص به؟! مع أنَّهم يدعون وجوب وجود إمام تقوم به الحجة على الناس، وهو المهدي المنتظر، فما بالهم أكثر أهل الأرض اختلافاً مع وجود إمامهم وقائمهم واتصالهم به؟! ثم تقولون: إن المجلسي ذكر حديث أن الإمام الغائب لا يُرى، ومن ادعى أنه قد رأى الإمام المهدي فقد كذب. ثم نقرأ أن علماءكم قد رأو الإمام المهدي مرات كثيرة..
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
وله الحمد، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد..
فإننا نجيب بما يلي:
أولاً: ليس في عقائد الشيعة: أن ثلاثين رجلاً يتصلون بالامام المهدي «عليه السلام»، وإن كان السائل قد وجد في بعض الكتب شيئاً من ذلك، فليدلنا عليه لننظر فيه، فإن علماء الشيعة لا يذكرون لشيعتهم أن هذا الأمر من عقائدهم. وكتب الشيعة متداولة وموفورة. ومدارسهم مفتوحة لكل طالب وراغب، وليس كل ما وجد في سائر الكتب يصح اعتباره في جملة العقائد.. ما لم تكن تلك الكتب معتمدة عقائدياً، ومقررة من قبل عموم أساطين المذهب..
ثانياً: إن في كتب أهل السنة الشيء الكثير مما لا يرضون بنسبته إليهم، رغم كون بعضه في الكتب التي يقولون: إنها أصح شيء بعد القرآن. فلا يرضى أهل السنة مثلاً بأن يقال: إنهم يعتقدون: إن لله تعالى قدماً يضعها في جهنم، فتقول: قط قط.. أو أن الله ينزل في كل ليلة جمعة بصورة شاب قطط الشعر، فيقول: هل من مستغفر إلخ..
ولا يرضون أن يقال: إنهم يعتقدون: إن الله يضحك حتى تبدو نواجذه ولهواته. رغم أن ذلك موجود في كتبهم. والشيعة لا ينسبون ذلك إليهم إلا على سبيل الحجاج والإلزام وحملهم على الكف عن نسبة بعض ما لا يعتقد به الشيعة إليهم لمجرد وروده في هذا الكتاب أو ذاك..
ثالثاً: يقول الله سبحانه:﴿ … فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ … ﴾ 1.
وقال:﴿ … وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ … ﴾ 2.
وقال عن عيسى «عليه السلام»:﴿ … قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ … ﴾ 3، فوظيفة الأنبياء هو بيان الحق في موارد الإختلاف، فإن قبل الناس منهم، وأخذوا عنهم أفلحوا وسعدوا، وإن ردّوا عليهم ولم يطيعوهم فما على النبي والإمام من جناح..
وليس المطلوب من النبي أو الإمام رفع الخلاف من بين الناس بصورة تكوينية قاهرة. فإن ذلك يوجب تعطيل إرادات الناس، وسلب اختيارهم..
رابعاً: إن جميع أهل السنة يقولون: إن الرسول الأعظم هو مرجعيتهم، مع أن الإختلافات بين مذاهبهم الأربعة لا تكاد تحصى، فكيف إذا أريد تعميم الأمر إلى الأوزاعية والظاهرية، ومذهب سفيان، من غيرهم من العلماء عندهم ؟! فإنك لا تكاد تجد عالماً منهم يوافق عالماً آخر.. وكذلك الحال بالنسبة لمذاهبهم العقائدية..
فكيف ترى سيكون عليه حالهم لو أنهم لم يوصدوا باب الإجتهاد منذ القرون الأولى وإلى يومنا هذا ؟!
ولكنك إذا رجعت إلى مذهب الشيعة الإمامية، لوجدت أنهم حتى لو اختلفوا في بعض الفتاوى التفصيلية، ولكن لديهم ضوابط دقيقة لا يشذُّون عنها لو رجعوا إليها وناقشوا المسائل على ضوئها لوجدتهم قادرين على الإتفاق في كثير، بل في أكثر موارد الخلاف بينهم. وليس الأمر بهذه البساطة عند غير الشيعة.
خامساً: إن وجود النبي والإمام لا يمنع من اختلاف الناس في فهم بعض الآيات والروايات، لا سيما مع ملاحظة اختلاف الناس في درجات الفهم وفي مقدار التثبت والدقة في النقل، وفي القدرة على الجمع بين أطراف المسائل. وقد وجدنا رسول الله ٍ«صلى الله عليه وآله» يخبر عمر بأنه لم يفهم مسألة الكلالة، ولن يفهمها 4.
وما أكثر الأحكام التي احتاج فيها إلى غيره، وقوله: لولا علي لهلك عمر. أشهر من أن يذكر.. وكذلك قوله: امرأة أصابت ورجل أخطأ 5. وقد دفعه خوفه من الإحراج في المسائل إلى ضرب من كان يسأله حتى تختلف الدماء في ظهره.
كما أنه ـ يعني عمر ـ قد أفتى في إرث الجد بعشرات الفتاوى، ثم كتب كتاباً في توريثه، ثم مزق الكتاب مستدلاً بعقيدة الجبر، من حيث أن الله لو أراد توريثها لما مزق الكتاب 6.
ولو أردنا جمع الموارد التي من هذا القبيل، وتتبعنا اختلافات الصحابة في الفتاوى لملأنا عشرات الصفحات، والحرُّ تكفيه الإشارة..
ولعلنا لو فعلنا ذلك لوجدنا هذا السائل، يظن بنا أننا بصدد الإنتقاص أو التشنيع على هذا أو ذاك. مع أن الأمر ليس كذلك. بل المقصود: لفت نظره إلى أن ما يأخذه على الشيعة هو بعينه موجود وبقوة أعظم وأظهر بين الصحابة الأولين، فضلاً عمن سواهم.
مع أن الرسول كان بين ظهرانيهم، والذي علمه رسول الله «صلى الله عليه وآله» ألف باب من العلم يفتح له من كل باب ألف باب ـ كان بينهم. وكان القرآن عندهم.. وعمر بن الخطاب كان يقول: حسبنا كتاب الله. بعد أن قال عن رسول الله: غلبه الوجع، أو أنه ليهجر.
وكان سائر أهل البيت «عليهم السلام»، وهم الثقل الآخر، وعدل القرآن وسفينة نوح بينهم أيضاً.
سادساً: كيف تفسرون ما روي عن رسول الله «صلى الله عليه وآله»: النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق. وأهل بيتي أمان لأمتي من الإختلاف 7.
سابعاً: إن أحاديث تكذيب من ادعى رؤية الإمام يراد بها تكذيب من يدّعي الرؤية، ويدّعي أنه «عليه السلام» كلفه بمهمات، وحمّله رسائل وتوجيهات، بهدف التأثير على الناس بادعاء المقامات عند الله، وإظهار القداسة، وجلب التأييد..
وأما أن يرى أحدُ الأخيار الأبرار الإمام ويتكتم على رؤيته هذه، ولا يبوح بها ولا يتفاخر. ولا تُعلم عنه إلا صدفة، ولا تشيع عنه إلا بعد موته، فذلك مما لا مانع من حدوثه..
وهذا هو ما يقصده علماء الشيعة حين يذكرون: أن فلاناً رأى الإمام مرة أو مرات..
والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله.. 8.
- 1. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 59، الصفحة: 87.
- 2. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 83، الصفحة: 91.
- 3. القران الكريم: سورة الزخرف (43)، الآية: 63، الصفحة: 494.
- 4. راجع: كنز العمال (ط مؤسسة الرسالة) ج 11 ص 78 وأحكام القرآن للجصاص ج 2 ص 110 وتفسير القرآن العظيم ج 1 ص 608 والدر المنثور ج 2 ص 249 وسبل الهدى والرشاد ج 9 ص 287 والغدير ج 6 ص 128 عن ابن راهويه، وابن مردويه، ونهج السعادة ج 8 ص 423.
- 5. راجع نصوص هذا الحديث في: تاريخ عمر لابن الجوزي ص 129 وتفسير القرآن العظيم لابن كثير ج 1 ص 467 ومجمع الزوائد ج 4 ص 284 والدر المنثور ج 2 ص 133 وكنز العمال ج 8 ص 288 و 298 وفتح القدير للشوكاني ج 1 ص 443 والأذكياء (ط دار الجيل سنة 1408هـ) ص 207. ومنهاج السنة ج3 ص147 وكشف الخفاء للعجلوني ج 1 ص 269 و 270 و 388 و ج 2 ص 118 وأسنى المطالب ص 166 وعن أبي يعلى، وسعيد بن منصور، و المحاملي، وأحمد، وابن حبان، والطبراني، وابن بكار، وابن عبد البر، ومختصر جامع بيان العلم ص 66 والجامع لأحكام القرآن ج 5 ص99 وحاشية السندي على ابن ماجة ج 1 ص 583 و 584 والسنن الكبرى لابن سعد ج 7 ص 233 والكشاف ج 1 ص 357 وإرشاد الساري ج 8 ص 57 وتفسير النسفي (هامش الخازن) ج 1 ص 353 وتفسير النيسابوري، والفتوحات الإسلامية ج 2 ص 477 وشرح النهج للمعتزلي ج 1 ص 61 و ج 3 ص 96 وكتاب الأربعين للرازي ص 467 والتمهيد للباقلاني ص 199 والمستطرف (ط دار الجيل ـ سنة 1413هـ) ص 98 عن المنتظم، ومستدرك الحاكم ج 2 ص 177 وتاريخ بغداد ج 3 ص 257.
- 6. شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج 1 ص 181 وراجع: كتاب الأربعين للشيرازي ص 549 ومناقب أهل البيت «عليهم السلام» للشيرواني ص 350 والغدير ج 6 ص 117 وعدة الأصول للطوسي (ط.ج) ج 2 ص 688 و 701 و (ط.ق) ج 3 ص 105 والمحصول للرازي ج 5 ص 77 ومجمع البحرين ج 1 ص 358.
- 7. ذخائر العقبى ص 17 ونظم درر السمطين ص 234 ومنتخب كنز العمال (بهامش مسند أحمد) ج 5 ص 92 و 93 والصواعق المحرقة ص 185 ومشارق الأنوار للصغاني ص 109 ومجمع الزوائد ج 9 ص 174 والمعجم الكبير للطبراني ج 7 ص 22 والجامع الصغير للسيوطي ج 2 ص 680 وكنز العمال ج 12 ص 96 و 101 و 102 والمستدرك للحاكم ج 2 ص 448 و ج 3 ص 149 و 457 وتلخيصه للذهبي (مطبوع بهامشه)، ومقتل الحسين للخوارزمي ص 19 وكشف الخفاء ج 2 ص 135 و 327 وفيض القدير ج 6 ص 386 ومسند زيد بن علي ص 463 وعيون أخبار الرضا «عليه السلام» ج 1 ص 30 وكمال الدين ص 205 ومناقب الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» للكوفي ج 2 ص 133 و 142 و 174 وشرح الأخبار ج 3 ص 13 والتفسير المنسوب للإمام العسكري «عليه السلام» ص 546 ونور الثقلين ج 4 ص 542 وسبل الهدى والرشاد ج 11 ص 6 و 7 وينابيع المودة ج 1 ص 71 و 72 و ج 2 ص 104 و 114 و 442 و 443 و 474 وج3 ص142 وكتاب المجروحين لابن حبان ج 2 ص 236 وتاريخ بغداد ج 3 ص 281 وتاريخ مدينة دمشق ج 40 ص 20 وتنبيه الغافلين لابن كرامة ص 44 والنصائح الكافية ص45 والدر النظيم ص 771 والتعجب للكراجكي ص 151 والأمالي للطوسي ص 259 و 379 وبحار الأنوار ج 23 ص 122 وج27 ص308 و 309 وكتاب الأربعين للماحوزي ص 353 ومناقب أهل البيت «عليهم السلام» للشيرواني ص 176 وخلاصة عبقات الأنوار ج 4 ص 116 و 315 و 316 و 317 و 318 والمراجعات ص 76 و 384 وجامع أحاديث الشيعة ج 1 ص 19 والغدير ج 3 ص 81 ومستدرك سفينة البحار ج 9 ص 561.
- 8. ميزان الحق.. (شبهات.. وردود)، السيد جعفر مرتضى العاملي، المركز الإسلامي للدراسات، الطبعة الأولى، الجزء الثالث، 1431 هـ. ـ 2010 م، السؤال رقم (110).