من الأسئلة التي واجهت النظم الفكرية والمعرفية على اختلاف مكوناتها ومرجعياتها الفلسفية والاجتماعية، سؤال ما هو التراث؟. السؤال الذي كان ملحا على هذه النظم الفكرية لتحديد موقفها، وبلورة إجابتها، لأنه سؤال لا ينفك في طرح نفسه نتيجة ضخامة وقوة التراث الحاضر في حياتنا الفكرية الراهنة، والمؤثر بشدة كما لو أننا ما زلنا نعيش في عصره. من جهة أخرى أن سؤال ما هو التراث؟ بات متصلاً ومتفاعلاً مع سؤال المعاصرة والحداثة والتجديد. فسؤال التراث هو من وجه آخر سؤال عن العصر، وسؤال العصر هو أيضاً من وجه آخر سؤال عن التراث. لهذا فإن الموقف من التراث هو جزء من مكونات الموقف من الحداثة أو المعاصرة. فما هو التراث؟
يرى الدكتور حسن حنفي أن التراث هو كل ما وصل إلينا من الماضي داخل الحضارة السائدة، فهو قضية موروث، وفي نفس الوقت قضية معطى حاضر على عديد من المستويات. ويقارب هذا المعنى ما ذهب إليه الدكتور محمد عابد الجابري الذي يرى أن التراث هو كل ما هو حاضر فينا أو معنا من الماضي، ماضينا نحن أم ماضي غيرنا، القريب منه أم البعيد. وفي رأي الدكتور فهمي جدعان الذي واجه صعوبة في تحديد ما هو التراث، فأضطر لأن يعرفه تارة بحد البساطة كما يقول، وتارة بحد التجريد. بحد البساطة، التراث هو كل ما ورثناه تاريخياً من الأمة التي نحن امتداد طبيعي لها. وبحد التجريد، التراث هو وعي التاريخ وحضوره الشعوري في الكيان الفردي أو الجمعي.
وهذا يعني أن التراث ليس كل ما وصل إلينا من الماضي، وإنما هو الذي وصل إلينا من الماضي وله خاصية الفعل والتأثير في حياتنا، وعلى أفكارنا ومفاهيمنا وتصوراتنا، والذي لا يمتلك هذه الخاصية لا يصدق عليه وصف التراث، بالمعنى الوظيفي للتراث. ومن هذه الجهة يعتبر تعريف الجابري أكثر دقة وضبطاً حينما قال هو كل ما هو حاضر فينا، أو معنا من الماضي، وكلمة حاضر هي بمعنى أن له فعل الحضور والتأثير. ومن هنا جاءت الجدلية التي وصفت تارة بجدلية التراث والعصر، وتارة أخرى بجدلية التراث والحداثة، أو بجدلية التراث والتجديد. فالتراث هو من جهة ينتمي إلى الماضي من حيث النشأة والتكوين، ومن حيث الإطار الزمني والتاريخي، ومن جهة أخرى هو مؤثر في العصر، وفي حياتنا الفكرية بالذات، ومؤثر فيها بقوة يفوق العديد من المؤثرات التي تنتمي إلى عصرنا. وهذا ما يستوقف الانتباه في النظر إلى التراث.
وهذا المعنى لا يطابق بدقة ما ذهب إليه الدكتور جدعان إذا فصلنا بين المعنيين اللذين حددهما للتراث، ويطابقه إذا جمعنا بينهما. والأصح في تعريف التراث عند الدكتور جدعان هو الجمع بين المعنيين وليس الفصل بينهما.
وما لم تلتفت إليه تلك التعريفات، أن التراث تارة يقصد به ما وصل إلينا، وتارة يقصد به ما نحن نطلبه ونستدعيه، ويصل إلينا بهذا الطلب والاستدعاء. والتراث الذي يصل إلينا عن هذا الطريق فأنه يتأثر ويتعدد ويتغير من مكان لآخر، ومن جيل إلى جيل آخر، ومن مجتمع إلى مجتمع آخر، بحسب طبيعة المكونات والحاجات والمقتضيات الفكرية والدينية والثقافية، التي قد تتعدد من مجتمع لآخر، وتتغير من زمن لآخر. بمعنى أن طبيعة المكونات الفكرية في كل مجتمع هي التي تحدد ما تستدعيه وتطلبه من التراث. وكلما تغيرت الحاجات الفكرية تغيرت معها طبيعة ما يستدعى ويطلب من التراث.
والذي أراه أن التراث يقال للشيء الذي يمكن أن يورث، أي الذي له قابلية النقل والانتقال من جماعة إلى جماعة أخرى، ومن جيل إلى جيل آخر، ومن الماضي إلى الحاضر. وهذا ما نستفيده من الحقل الدلالي لكلمة التراث.
وبهذا المعنى يكون التراث موضوعه هو الانتقال، والانتقال تارة يكون مادياً كانتقال المال والأملاك من الإنسان الميت إلى ورثته الأحياء، وتارة يكون معنوياً كانتقال الحسب والنسب والشرف، وتارة يكون ثقافياً، وهذا هو الذي يتصل بموضوعنا.
لهذا نقول أن التراث هو ما له خاصية وقابلية الانتقال من الماضي إلى الحاضر، الانتقال الذي تكون له خاصية الفعل والحركة والتأثير. وهذا الانتقال إما أن يكون لاعتبارات مرتبطة بالحاضر وحاجاته ومقتضياته، وإما لاعتبارات مرتبطة بالتراث نفسه من جهة طبيعته وقيمته1.
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ 27 أكتوبر 2004م، العدد 13941.