يتنامى في إدراك العقلاء والحكماء والمتنورين في الأمة ضرورة إعادة التأكيد والاعتبار لمفهوم التسامح، وضرورة أن يكون هذا المفهوم حاضراً ومتجلياً في اجتماعنا وثقافتنا. مفهوم التسامح على قيمته وأهميته الأخلاقية والعقلية، المعنوية والفكرية يكاد أن يكون غائباًً، أوفي حالة تراجع وانحسار، أوليس له ذلك التجلي والحضور المفترض، وكأننا انقطعنا عن ذاكرتنا التي تنقل إلينا صور ومشاهد ونماذج تظهر لنا كيف أن التسامح كان قيمة عليا، أو كأننا فقدنا الارتباط بتراثنا الذي طالما كان يرشدنا إلى تعاليمه وأخلاقياته وقيمه في التسامح والعفو والصفح، أو كأننا غفلنا عن ذلك التلازم بين الشريعة والتسامح وكيف أننا نغلب مفهوم التسامح في وصف الشريعة بقولنا الشريعة السمحاء، ومن يكتسب المعرفة بالشريعة نصفه بالسماحة، وذلك من أجل تأصيل مفهوم التسامح وتعميمه بين الناس، وتحويله إلى التزام ثابت وراسخ يظهر في السلوك ويتجلى في إعمال الفكر.
والحاجة إلى التسامح لأن الخطأ يصدر من الجميع، ولأن البشر ليسوا منزهين عن الخطأ، ولأن كل واحد من البشر وجد نفسه في موقف يطلب فيه التسامح، وقد يلح في طلبه أحياناً لأنه صدر منه خطأ، ويكفي لهذه المواقف أن نتعلم منها حاجتنا إلى التسامح، وحاجة الجميع إليه.
والحاجة إلى التسامح لأن الاختلاف من طبيعة البشر، ومن مقتضيات العقل، ومن ضرورات الاجتماع. ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾ 1﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ 2 ولأننا نمارس الاختلاف ويمارس علينا، وهو من مشاهد الحياة اليومية، ومع وجود الاختلاف نحتاج إلى التسامح لكي لا يتحول الاختلاف إلى تباعد بين النفوس، ولكي لا يزرع الأحقاد بين الناس، ولكي لا يولد النزاعات بينهم. بل من اجل أن يكون الاختلاف رحمة بين الناس، وليثير لهم دفائن العقول، ويضفي عليهم متعة العيش والحياة.
والحاجة إلى التسامح هي لإظهار نوازع الخير وكبت نوازع الشر في النفوس، فالتسامح هو من تجليات النزعة الإنسانية الخلاقة تلك النزعة المنبعثة من الفطرة الشفافة النقية ﴿ … فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ … ﴾ 3 وبقدر ما يظهر التسامح نوازع الخير في الذات بقدر ما يكبت نوازع الشر في الآخر.
والحاجة إلى التسامح لأن البشر من طبيعتهم الضعف﴿ … وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ 4ويمرون بأطوار من الضعف، ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ﴾ 5وكل البشر يصدر منهم الضعف، والضعيف يحتاج إلى التسامح، ولا ينبغي استغلال هذا الضعف للاستقواء على الآخرين، أو إقصاءهم وإلغاءهم، أو هضم حقوقهم والانتقاص من حرياتهم، لأن الضعف قد يتحول إلى قوة، والقوة قد تتحول إلى ضعف.
والحاجة إلى التسامح لكي لا يكون التعصب بديلاً، ولكي لا يكون قمع الرأي وهيمنة الرأي الواحد ممكناً، ولكي لا يكون العنف سبيلاً، ولكي لا يكون التكفير خياراً. فقد اشتهر بين المسلمين كما يقول الشيخ محمد عبده في كتابه (الإسلام دين العلم والمدنية) وعرف من قواعد أحكام دينهم أنه إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد حمل على الإيمان ولا يجوز حمله على الكفر، ويعلق الشيخ عبده على ذلك بقوله فهل رأيت تسامحاً مع أقوال الفلاسفة والحكماء أوسع من هذا! وهل يليق بالحكيم أن يكون من الحمق بحيث يقول قولاً لا يحتمل الإيمان من وجه واحد من مائة وجه، إذا بلغ به الحمق هذا المبلغ كان الأجدر به أن يذوق حكم محكمة التفتيش البابوية ويؤخذ بيديه ورجليه فيلقى في النار. والشيخ عبده بهذا الكلام كان يواجه الإشكالية التي أثارها فرح انطون في مجلة الجامعة المصرية حين قال (إن تمكن العلم والفلسفة من التغلب على الاضطهاد المسيحي في أوروبا وعدم تمكنهما من التغلب على الاضطهاد الإسلامي دليل واقعي على أن النصرانية كانت أكثر تسامحاً مع الفلسفة).
والقاعدة أن التعصب لا يواجه بالتعصب وإنما بالتسامح، والكراهية لا تواجه بالكراهية وإنما بالتسامح، والتكفير لا يواجه بالتكفير وإنما بالتسامح، والعنف لا يواجه بالعنف وإنما بالتسامح. ولا ينبغي أن يفهم بأن التسامح هو موقف الضعيف أو ينم عن ضعف، ولا هو موقف الامتنان أو التعالي بإبداء الصفح والعفو من موقع الترفع على الآخرين، ولا هو موقف التردد والاضطراب واللاحسم، وإنما هو الموقف الذي يظهر قوة الضمير، وشفافية النزعة الإنسانية، وعظمة الروح الأخلاقية.
لكن متى يكون للتسامح كل هذه القوة والفاعلية والتجلي؟
يكون للتسامح كل هذه القوة والفاعلية والتجلي حينما يتحول إلى موقف إنساني ثابت، والتزام أخلاقي راسخ، ومصدر للاستلهام، وحينما يكون هناك تضامن من اجل التسامح. لأن الحكمة تتغلب على التعصب، والتسامح هو حكمة.
ولأن المنطق يتغلب على العنف، والتسامح هو منطق. ولأن الشجاعة تتغلب على التهور، والتسامح هو شجاعة. ولأن الحرية تتغلب على التكفير، والتسامح هو حرية. بهذه الدلالات والمعاني ينبغي أن نفهم التسامح، وبهذا الإدراك ينبغي أن نتعامل معه.
والعالم اليوم بكل ثقافاته ولغاته وقومياته ومجتمعاته، يشترك في ضرورة تأصيل مفهوم التسامح وتعميمه بين الناس، وفي هذا الشأن صدر إعلان عن منظمة اليونسكو في دورتها الثامنة والعشرين المنعقدة في 16 تشرين الثاني ـ نوفمبر 1995م، أطلق عليه (إعلان المبادئ بشأن التسامح) الذي حث على أن يكون اليوم الذي صدر فيه هذا الإعلان يوماً عالمياً للتسامح في كل عام. كما أن الأمم المتحدة جعلت من عام 1996 عاماً دولياً للتسامح. وقد اعتبر إعلان اليونسكو أن التسامح يعني (الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الإنسانية لدينا، ويتعزز هذا التسامح بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر والضمير) ولتعميم التسامح يدعو الإعلان إلى (تعليم الناس الحقوق والحريات التي يتشاركون فيها وذلك لكي تحترم هذه الحقوق والحريات فضلاً عن تعزيز عزمهم على حماية حقوق وحريات الآخرين)6.
- 1. القران الكريم: سورة هود (11)، الآية: 118، الصفحة: 235.
- 2. القران الكريم: سورة يونس (10)، الآية: 99، الصفحة: 220.
- 3. القران الكريم: سورة الروم (30)، الآية: 30، الصفحة: 407.
- 4. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 28، الصفحة: 83.
- 5. القران الكريم: سورة الروم (30)، الآية: 54، الصفحة: 410.
- 6. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ السبت 7 يونيو 2003 م، العدد 13433.