لأول مرة في تاريخ العالم الحديث يحصل هذا المستوى من الاهتمام الكمي والكيفي المتصاعد بموضوع الإرهاب، الموضوع الذي أصبح الأكثر حضوراً وتداولاً في مختلف مراكز العالم، وبات الحديث عنه لا ينقطع أو يتوقف وبصورة شبه يومية، ويتصدر العناوين الرئيسية في وسائل الإعلام المختلفة السمعية والبصرية والمقروءة، وتعطى له درجة عالية من الاهتمام في معظم الاجتماعات والملتقيات والمؤتمرات المحلية والإقليمية والدولية، و في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والقانونية والاجتماعية والثقافية والإعلامية وحتى التكنولوجية. وهذه المجالات المتعددة تكشف عن ضرورة تعدد مداخل النظر والتفكير لموضوع الإرهاب، وكيف أنه له طبيعة متعددة قد تتصل، وقد تنفصل. والنتيجة الخطيرة التي يمكن التوصل إليها في هذا الشأن هي أن الإرهاب بات يملك من القدرة بحيث أصبح يؤثر على تغيير صورة العالم، وهذه المقولة من أشد المقولات تعبيراً عن تعاظم خطورة الإرهاب، واتساع حجمه ومساحته، وكيف أن تأثيراته أخذت تتجاوز حدود نطاقاته المادية والحسية والظاهرية، وبدأ يلفت النظر إلى كونه يعبر عن نظام من الأفكار له دلائله ورموزه وإشاراته، كما له براهينه وتأويلاته واستدلالاته. وليس من السهولة على الإطلاق تغيير صورة العالم، وإذا حصل هذا التغير فإنه بالتأكيد سوف يكون على علاقة بنظام الأفكار.
ومن جهة أخرى أن الإرهاب بات يشكل مدخلاً لتكوين رؤية البعض إلى العالم، الرؤية التي تتشابك فيها عالم السياسات بنظام الأفكار، وهذا ما يحدث تحديداً في الولايات المتحدة الأمريكية التي تغيرت رؤيتها إلى ذاتها بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وترتب على ذلك تغيير رؤيتها إلى العالم، ليس هذا فحسب، و إنما محاولة الدفاع عن هذه الرؤية وتحريض العالم على التناغم معها، والانخراط فيها، ومتى ما تغيرت أمريكا فإن بإمكانها أن تفرض هذا التغيير، أو قدراً كبيراً منه على العالم، لكونها الأكثر تأثيراً على أحداثه وتطوراته ومساراته، وبالذات في المجالات السياسية والاقتصادية والإعلامية.
وهذا التغير في رؤية أمريكا إلى العالم بدأ يلفت النظر إليه، وظهرت محاولات لتفسير هذا التغير بطريقة فلسفية لكونه يستند على نظام من البراهين والاستدلالات، ومن المفاهيم والتصورات، وهذا ما لفت إليه الباحث الفرنسي بيير هانسير في كتابه الصادر حديثاً بعنوان (الإرهاب والإمبراطورية)، الذي ينطلق فيه من مساءلة فلسفية هل أن إمبراطورية الولايات المتحدة الأمريكية قائمة على مبادئ الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز وماكيافيلي، أم على مبادئ الفيلسوف الإنجليزي الآخر جوك لوك ومن بعده الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت؟ وحسب رأيه إننا قبل الحادي عشر من سبتمبر كنا في عالم تسيطر عليه تصورات جون لوك مع انفتاحات على كانت، و أما بعد 11 سبتمبر فقد انتقلنا إلى عالم تسيطر عليه تصورات توماس هوبز مع انفتاحات على نيتشة.. فقد فهمت أمريكا كما يضيف هانسير أن عقلانية جون لوك أو مثالية إيمانويل كانت لا تكفي لمواجهة التحديات الراهنة في العالم، فأمام شخصيات الشر والإرهاب لا تنفع المثاليات والأخلاقيات.. لأن العالم لم يتحضر بما فيه الكفاية، أو أنه لم يتحضر في كل مكان، وبالتالي فإن لغة القوة ما تزال ضرورية.
هذا العالم الذي أصبح محكوماً بذهنيات الإرهاب بأنماطها المختلفة، بين ذهنية من يمارسه، وذهنية من يكافحه، وذهنية من يناصره، وذهنية من يتضرر منه، هذه الذهنيات جعلت العالم مخيفاً ومرعباً وكئيباً، ليس في الدول النامية أو التي هي في طريق النمو فحسب، بل حتى في الدول المتقدمة والمتحضرة التي لم تعد واحة للأمن والأمان كما كانت تصور حالها. لذلك فإن الحقيقة التي يجب أن تترسخ إننا في عالم ينبغي أن يتغير، وينبغي أن يتحضر، وضرورة أن يصل هذا التحضر إلى كل العالم وليس للغرب فحسب1!
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الأربعاء 5 نوفمبر 2003م، العدد 13584.