من أسوأ أمراض الساحة الدينية في مجتمعاتنا، ما يسود معظم أجوائها من حالات الصراع والخصام الداخلي، وسعي بعض الجهات لممارسة دور الوصاية على أفكار الآخرين. فما تراه هي هو الحق المطلق الذي لا يجوز لأحد الخروج عليه، وإلا استحق النبذ والطرد، والمحاصرة والإلغاء، وأصبح مستهدفاً في وجوده المادي والمعنوي.
نجد ذلك على صعيد الخلافات المذهبية، حيث تتبادل الأطراف مع بعضها تهم التكفير والتبديع والمروق من الدين، ويجري التحريض على الكراهية في أوساط الاتباع، وقد يصل الأمر إلى اباحة هدر الدماء وانتهاك الحقوق والاعراض.
كما نجد ذلك على مستوى الخلافات داخل المذهب الواحد، حين تتعدد المدارس، وتختلف الآراء في بعض التفاصيل العقدية والفقهية في إطار المذهب نفسه.
إن اعتقاد كل طرف صوابية رأيه وخطأ الرأي الآخر أمر مقبول، بناء على مشروعية حق الاجتهاد، لكن انكار حق الطرف الآخر في الاجتهاد وابداء الرأي، والتعبئة ضده بالتشكيك في دينه واتهام نواياه، هو مزلق خطير يؤدي إلى تمزيق الساحة الدينية، وتشويه سمعتها، ودفع أبنائها إلى الصراع والاحتراب، كما حصل بالفعل.
إن التعبير عن الرأي الاجتهادي عقدياً وفقهياً ضمن الضوابط المقررة أمر مشروع، وحق مكفول للجميع، ولا يصح أن تحتكره جهة وتصادره من الآخرين، فإن ذلك ارهاب فكري، واغلاق فعلي لباب الاجتهاد، وحرمان للساحة العلمية من الثراء المعرف.
أما الحذر من وجود آراء خاطئة، وطروحات منحرفة، تخالف المعتقدات السائدة، والاتجاهات الفقهية المشهورة، فهذا لا يقف أمامه القمع والتهريج، وإنما المواجهة العلمية الفكرية، التي تثبت ضعف الرأي الآخر وخطأه، ومكامن الانحراف والثغرات فيه، وتظهر صحة الرأي المتين وأصالته، وتعالج الاشكالات المثارة حوله.
إن أساليب القمع والارهاب الفكري لا تستطيع أن توقف زحف الرأي الآخر، بل قد تخدمه باثارة الاهتمام به، وتكتل اتباعه للدفاع عنه، ولتعاطف الكثيرين مع ظلامتهم بسبب ما يستهدفهم من قمع وتشويه. وخاصة في هذا العصر الذي سادت فيه شعارات الحرية والانفتاح، وتطلعات التغيير والتجديد.
إن تمزيق صفوف المؤمنين وتحويل ساحتهم إلى خنادق للصراع والاحتراب، ودفعهم إلى انتهاك حرمات بعضهم بعضا، واسقاط كل طرف وتشويهه لرموز وشخصيات الطرف الآخر، جريمة أكبر وخطر أعظم من وجود رأي في قضية جزئية نعتبره خاطئاً باطلاً.
ثم إن تعاليم الإسلام وأخلاقياته، وسيرة الأئمة الطاهرين (ع) لا تقبل مثل هذه الأساليب ولا تتطابق معها.
وهناك روايات وردت تحذر من نهج الاقصاء والإلغاء على أساس الاختلاف في بعض الجزيئات العقدية.
جاء في الكافي عن يعقوب بن الضحاك، عن رجل من أصحابنا سراج وكان خادماً لأبي عبدالله (ع) قال: جرى ذكر قوم عند أبي عبدالله جعفر الصادق ، فقلت: جعلت فداك إنا نبرأ منهم، انهم لا يقولون ما نقول.
قال: فقال : يتولونا ولا يقولون ما تقول تبرؤون منهم؟
قال: قلت: نعم
قال فهو ذا عندنا ما ليس عندكم فينبغي لنا أن نبرأ منكم؟ قال: قلت: لا، جعلت فداك، قال: وهذا عند الله ما ليس عندنا افتراه اطرحنا؟ قال: قلت: لا والله جعلت فداك، ما نفعل؟
قال : فتولوهم ولا تبرؤوا منهم، ان من المسلمن من له سهم، ومنهم من له سهمان، ومنهم من له ثلاثة اسهم، ومنهم من له اربعة اسهم، ومنهم من له خمسة أسهم، ومنهم من له ستة أسهم، ومنهم من له سبعة أسهم، فليس ينبغي ان يحمل صاحب السهم على ما عليه صاحب السهمين، ولا صاحب السهمين على ما عليه صاحب الثلاثة، ولا صاحب الثلاثة على ما عليه صاحب الأربعة، ولا صاحب الأربعة على ما عليه صاحب الخمسة، ولا صاحب الخمسة على ما عليه صاحب الستة، ولا صاحب الستة على ما عليه صاحب السبعة.
وقد عقب العلامة المجلسي في «بحار الأنوار» على العبارة الواردة في الرواية «انهم لا يقولون ما نقول» بقوله: «اي من مراتب فضائل الأئمة (ع) وكمالاتهم ومراتب معرفة الله تعالى، ودقائق مسائل القضاء والقدر، وأمثال ذلك مما يختلف تكاليف العباد فيها، بحسب افهامهم واستعداداتهم، لا في اصل المسائل الاصولية، أو المراد اختلافهم في المسائل الفرعية، والأول أظهر».
وفي الكافي أيضاً عن عبدالعزيز القراطيسي قال: قال لي أبو عبدالله : يا عبدالعزيز ان الايمان عشر درجات بمنزلة السلم، يصعد منه مرقاة بعد مرقاة، فلا يقولن صاحب الاثنين لصاحب الواحد لست على شيء، حتى ينتهي الى العاشر،فلا تسقط من هو دونك فيسقطك من هو فوقك، واذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فأرفعه اليك برفق، ولا تحملن عليه ما لا يطيق فتكسره، فإن من كسر مؤمناً فعليه جبره.
وفي مواجهة التحديات المعرفية الخطيرة أمام الفكر الديني، ومقابل الطوفان الثقافي العالمي الجارف الذي يقتحم كل زوايا مجتمعنا وغرف بيوتنا، ويستقطب بوسائله الاعلامية والمعلوماتية المتطورة اهتمامات أبنائنا وبناتنا، هناك حاجة ماسة لتكثيف العطاء الفكري والثقافي من قبل المرجعيات والجهات الدينية.
كما ان تطور الحياة وتقدم مستوى العلم والمعرفة يستوجب تطوير استراتيجيات الطرح الديني، وتجديد خطط التثقيف والتوجيه.
ان على الساحة الدينية ان تثبت قدرتها على مواكبة التغيرات والاستجابة للتحديات، وذلك لا يتحقق الا بتوجيه الاهتمام نحو التحديات الكبيرة، وبتضافر الجهود نحو الاهداف المشتركة، اما الانشغال بالخلافات الجانبية والقضايا الجزئية، فإنه يشكل هروباً من المعركة الأساسية، ويضعف كل القوى الدينية.
لقد اصبحت حرية الرأي شعاراً ومطلباً لكل المجتمعات والشعوب، واصبح الانفتاح والحوار بين الحضارات والثقافات نهجاً يتطلع اليه عقلاء البشر على مستوى العالم، فكيف سيقدم المتدينون انفسهم أمام الآخرين، وهم لا يتحملون بعضهم بعضا، ولا يحتكمون للحوار في خلافاتهم، ولا يستطيعون التعايش فيما بينهم واحترام بعضهم بعضاً؟
ان السمة الغالبة على من يمارسون الوصاية الفكرية استثارتهم لانفعالات المتدينين وتجييشهم لعواطفهم، بعنوان حماية العقيدة والدفاع عن الثوابت والمقدسات، لكنهم لا يبذلون جهداً يناسب التحديات المعاصرة نحو انارة العقول.
في تبيين أصول العقيدة، وكأن العقيدة تتلخص عندهم في القضايا الجزئية التي يختلفون فيها مع الآخرين، كما أن بعضهم يخلطون الأوراق في تحديد الثوابت والمقدسات، وكأنها قضايا اعتبارية، فالثابت والمقدس ما يعتبرونه هم كذلك دون مقاييس واضحة متفق عليها.
إننا بحاجة إلى تنوير العقول بالبحث العلمي والطرح المنطقي، وليس مجرد تجييش العواطف وإثارة الأحاسيس1.
- 1. الموقع الرسمي لسماحة الشيخ حسن الصفار (حفظه الله)، و المقالة منشورة في صحيفة الأيام البحرينية يوم الأربعاء 29 جمادى الأولى 1426هـ الموافق 6 يوليو 2005م في عدد 5961.