لا يكف المثقفون في العالم العربي على اختلاف منابعهم الفكرية، في الحديث عن النهضة قضاياها وأسئلتها، مسائلها و اشكالياتها، وعن المشروع النهضوي مصيره ومآلاته، إخفاقاته و رهاناته. وهو حديث تتعدد فيه التصورات والتساؤلات، و تختلف فيه الأمزجة والرغبات، وتتباين فيه المرجعيات و الخطابات.
وكلما حصلت تحولات وتغيرات عميقة ومتلاحقة يتجدد معها الحديث عن النهضة والمشروع النهضوي بكيفيات معينة، و غالبا ما تكون هذه الكيفيات متأثرة بطبيعة واتجاهات تلك التحولات والتغيرات، وبالمنطق التفسيري لهذه التحولات و التغيرات. فمع سقوط جدار برلين عام 1989م، و تفكك الاتحاد السوفييتي، وانهيار المنظومة الشرقية، وتصدع الماركسية كعقيدة وإيديولوجيا، هذه الأحداث و التحولات المتعاظمة والمتسارعة والتي أثارت اندهاش وصدمة العالم برمته، و مازال العالم يتذكرها وباندهاش أيضا، هذه الأحداث حرضت على ضرورة مراجعة المشروع النهضوي العربي وبطريقة نقدية، و إعادة النظر في مكوناته ومرجعياته. وقبل أن ينتهي القرن الماضي، و في الأعوام الأخيرة منه حصلت تطورات مذهلة للغاية في مجالات الإعلام والاتصال والمعلوماتية، و ظهر ما عرف بانفجار المعرفة وثورة المعلومات، وانبعاث العولمة. هذه التطورات غيرت من صورة العالم، وقلبت أنظمة المفاهيم حول العالم، وتشكلت معها نظرات عالمية جديدة، وأصبحت الأفكار والمواقف والاتجاهات توصف بالعالمية، وأصبح العالم حاضرا و مؤثرا في الأحداث والسياسات والتغيرات، وفي كل زاوية و مكان مهما صغرت أو تباعدت في جغرافيات العالم المترامي الأطراف. وقد ظلت هذه التطورات حاضرة بشدة في أذهان المثقفين، وهم أكثر من أسرف في الحديث عنها، وإثارة الاندهاش حولها، والتعظيم المتواصل لها. كما دفعت بالحديث نحو تجديد خطاب النهضة، وإعادة صياغة المشروع النهضوي لكي يكون مواكبا ومستوعبا لهذه التطورات ومتفاعلا معها. ومع دخول الألفية الثالثة التي استقبلها العالم بزخم كبير وبوعود وآمال جديدة، وجد المثقفون أنفسهم أمام تجربة قرن، الحصاد فيها كان مرا، وخاتمتها كانت بائسة، وبقي العالم العربي في انحداره وتراجعه، ولم يستطع أن يغير من مكانته في هذا العصر، ومن مركزه في هذا العالم، فطرحت من جديد أسئلة النهضة، وهواجس المستقبل، وقلق المصير. وجاءت أحداث أيلول ـ سبتمبر التي هزت العالم وأرعشته، وأعادت العالم العربي إلى دائرة اهتمام العالم، وحاصرته بأسئلة مؤداها أن هذه المنطقة ينبغي أن تتغير.
في ظل هذه الوضعيات والسياقات طرحت العديد من الأفكار والدعوات التي تختلف اتجاهات النظر إليها من حيث العمق وبعد النظر ومستوى التحليل. فهناك من يدعو إلى نهضة عربية ثانية، وهي دعوة الدكتور إسماعيل صبري عبد الله، وحسب رأيه أن بلادنا شهدت نهضتها الأولى التي استمرت من أواسط القرن التاسع عشر إلى أواسط القرن العشرين، وهي نهضة قام بها الناس وليس الحكومات، وبعد أن حصلنا على استقلالنا السياسي انشغلنا بأمور أخرى بعيدة عن النهضة. وهناك من يدعو إلى الانتقال من مشروع النهضة إلى نهضة المشروع، وهي دعوة عبد الإله بلقزيز الذي يرى بان الحقيقة الوحيدة التي خرج بها العرب من تجربة قرن ونصف، هي أنهم لم يبرحوا بعد مطلبا تاريخيا طرحه النهضويون الأوائل ولم يتحقق حتى اليم وهو الإصلاح، ولقد كان لهذا المطلب وللفكرة التي صاغتها الفكرة الإصلاحية تاريخ يستحق أن يقرا من جديد. وهناك من يدعو إلى مراجعة نقدية للمشروع النهضوي العربي، وهي دعوة الدكتور محمد عابد الجابري الذي يتصور أن العرب اليوم يمرون بمرحلة انتقالية دقيقة، تجعل مراجعة مشروعهم النهضوي مراجعة نقدية أمرا مبررا بل ضروريا، وذلك على خلفية كما يرى الجابري، نهاية الحرب الباردة، وانهيار ما كان يسمى بالكتلة الشيوعية، وتزامنا مع انحسار المد التحرري في العالم الثالث، وضمور الفكرة القومية. وهناك من يدعو إلى النقد الحضاري في مواجهة أزماتنا وأوضاعنا، وهي دعوة الدكتور هشام شرابي التي تحدث عنها في كتابه (النقد الحضاري للمجتمع العربي في نهاية القرن العشرين) الصادر سنة 1990م، حيث يرى انه إذا أردنا لمجتمعنا العربي أن يتجاوز أزمته المتفاقمة، ويسترجع قواه ويدخل ثانية في مجرى التاريخ، فلابد له من القيام بعملية نقد حضاري يمكنه من خلق وعي ذاتي مستقل، واستعادة العقلانية الهادفة. وبعد عشر سنوات أعاد شرابي طباعة هذا الكتاب لكي يكون مواكبا في مهمته الفكرية، ولا يتحدد بنهاية القرن العشرين كإطار زمني سابق، تتقولب فيه أفكار الكتاب. وفي مقدمة الطبعة الجديدة الصادرة سنة 2001م، تساءل شرابي: هل يمكن لمشروع النهضة الذي لم يتحقق في القرن الماضي أن يتحقق في القرن الواحد والعشرين؟ و إن في أشكال ومضامين مختلفة؟ أمام هذا السؤال كما يعقب شرابي تواجهنا علامة استفهام مربكة، تجسد في حد ذاتها بدايات الجواب، وذلك أن السبيل إلى كسر الحلقة المفرغة يبدأ من وعي النهضة كامكان، ومن إنجاز شرطها الأول المتمثل بقيام النقد الحضاري، بما هو نقد للواقع المعاش.
هذه الأفكار والدعوات وغيرها بغض النظر عن موازين النقد والتقييم لها، تكشف عن أن النهضة مازالت هاجسا ومطلبا ورهانا، لا ينبغي التراجع أو التخلي عنه، أو إسقاطه والارتداد عليه، ولا حتى التوقف عن الاشتغال والنظر فيه. وهناك حاجة فعلية إلى رفع وتيرة الوعي بقضية النهضة، وتعميم هذا الوعي في الأمة، بكل فئاتها وشرائحها، تنوعاتها وتعددياتها، فالنهضة مازالت هاجس المثقف وليست هاجس الأمة. كما لا ينبغي التعامل مع هذه القضية بمنطق الجدل النظري الذي يندفع إليه المثقفون بسهولة، وهم المعروفون بالتفنن بطرائق الجدل الموغل في الإشكاليات والمسائل الإشكالية، فهذه المنهجية لا تستطيع أن تعمم وعي النهضة في الأمة. والتحول الذي ننتظره هو أن تتحول النهضة من كونها مطلب المثقف إلى مطلب الأمة1.
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الثلاثاء 22 يوليو 2003 م، العدد 13478.